الأزمة بين العسكري والمدني في السودان.. من يحكم البلاد؟

أحمد يحيى | منذ ٦ أعوام

12

طباعة

مشاركة

في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 1958، شهد السودان أول انقلاب عسكري بقيادة الفريق إبراهيم عبود، وذلك على خلفية استدعاء حكومة عبد الله خليل، قادة الجيش لاستلام حكم البلاد، ليدشن بذلك حكما عسكريا أصبح مسيطرا على العملية السياسية، وبوابة من أراد السلطة.

وكان عبد الله خليل يرى بتسليمه السلطة للجيش، أنه يحول دون مؤامرة لاحت في الأفق، وبوادر تدخّل مصري وشيك قد يقلب الطاولة، لا سيما وأن غريمه رئيس الوزراء السابق إسماعيل الأزهري التقى بجمال عبد الناصر عدة مرات في مصر، وعقد مؤتمرا صحفيا في القاهرة هاجم فيه حكومة السودان، وقال: "إذا أردنا إنقاذ السودان من الخراب فإن عبد الله خليل يجب أن يستقيل".

بعد ذلك، قام خليل بإجراء استباقي، بدعوة جنرالات الجيش الذي كان يتوق في الأساس للتحرك، وبدء انقلاب كان يشمل الأركان العامة للجيش بأكملها، عبر عملية عسكرية نظامية خططتها الأركان العامة للقوات المسلحة السودانية، فجميع ضباط الجيش الثلاثة عشر الكبار قائد الجيش، ونائب القائد، ورئيس العمليات، وقائد حامية الخرطوم، وقائد المدفعية، وقائد فرقة المدرعات، وقائد مدرسة تدريب المشاة، وقائدا قطاع الخدمات وقواعد المناطق الأربعة الرئيسية في "المجلس الأعلى للقوات المسلحة"، شاركوا في الانقلاب.

ورغم أن عبد الله خليل، سلم الجيش قيادة البلاد، إلا أنه مهد لنظام حكم عسكري شمولي استمر نحو ستة عقود، ولم ينته منذ ذلك الوقت، وكان بداية الطريق لانقلابات عسكرية مماثلة، كلما جاء انقلاب أتبعه انقلاب آخر، ولا سبيل لحكم مدني في الصراع الممتد.

كان انقلاب "ثورة الإنقاذ الوطني" في 30 يونيو/ حزيران 1989، بقيادة العميد عمر البشير، والدكتور حسن الترابي، هو أطول الانقلابات عمرا في التاريخ السوداني، إذ استمر حكمه ثلاثة عقود، قبل أن يطيح به الجيش في 11 أبريل/ نيسان 2019، بعد عدة أشهر من الاحتجاجات والانتفاضات في شوارع السودان، وبسقوطه تم تشكيل المجلس العسكري بقيادة عبد الفتاح البرهان، ونائبه الفريق أول محمد حمدان دقلو "حميدتي".

المجلس العسكري الذي يحكم السودان، ظن أنه بإسقاط البشير قادر على تهدئة الأوضاع، والإمساك بزمام الأمر، وتسكين الميادين الغاضبة، لكن الماراثون الاحتجاجي استمر، ولم يثق المنتفضون في نوايا الجيش، وكان المشهد المصري حاضرا أمامهم بقوة، عندما أطاح الجيش بمبارك، ثم وأد مكتسبات ثورة 25 يناير، بانقلاب 3 يوليو/ تموز 2013، وأيد ذلك العنف المفرط من السلطة القائمة في محاولات فض الاعتصام بالترغيب تارة، وبالترهيب الدموي تارة أخرى.

لتبرز جدلية العسكري والمدني، والتحديات التي يواجهها المعتصمون في قدرتهم على الانتقال بالبلاد إلى حكم مدني، وسط تحفز العسكر الذين لم يتركوا الحكم من قبل أبدا بهذه السهولة، خاصة وأن مكونات البلاد بها الكثير من المتناقضات والتحديات الداخلية، والخارجية.

ممهدات قاتلة

في 13 مايو/ آيار 2019، قامت عناصر من الأمن بهجوم مباغت على المعتصمين المرابطين أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية، الأمر الذي أدى إلى سقوط ستة قتلى و14 جريحا، بعضهم بالرصاص، في هجومين متتابعين، خلال محاولتين لإزالة الحواجز، والمتاريس في الشوارع المحيطة بالاعتصام.

قال شهود عيان من المتظاهرين: "إن مطلقي النار كانوا جنودا من قوات الدعم السريع (قائدهم حميدتي نائب رئيس المجلس العسكري)، استخدموا جرافات لإزالة حواجز ومتاريس مقر الاعتصام".

وأصدرت "لجنة العمل الميداني لقوى إعلان الحرية والتغيير" بيانا قالت فيه: إن "قوات تتبع الدعم السريع استخدمت الرصاص الحي والهراوات والسياط للاعتداء على الثوار"، محذرة "من هذه الاعتداءات المتكررة، والتي تشكل امتدادا لممارسات أجهزة أمن النظام الساقط وميليشياته".

من جانبه، أصدر المجلس العسكري السوداني بيانا توضيحيا في 14 مايو/ آيار 2019، يتهم فيه مجموعات مسلحة، قال: إنها "غير راضية على ما تم إحرازه من تقدم في مفاوضات المجلس مع قوى إعلان الحرية والتغيير بشأن تفاصيل المرحلة الانتقالية".

ورغم أن المجلس لم يكشف عن هوية المسلحين، لكنه أعلن "أنهم تسللوا الى منطقة الاعتصام وبدأوا بإطلاق النار على المواطنين والقوات النظامية التي تقوم بالحراسة وحمايتهم".

وأكد أن هناك جهات تتربص بالثورة أزعجتها النتائج التي تم التوصل إليها، بين المجلس وقوى الحرية والتغيير، وتعمل على إجهاض أي اتفاق يتم التوصل إليه وإدخال البلاد في نفق مظلم". وشدد المجلس على اتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة للحيلولة دون وصول هؤلاء المتربصين بالثورة والثوار إلى مراميهم، بحسب وصفه.

وفي اليوم نفسه، أعلنت السفارة الأمريكية في الخرطوم، أن المجلس العسكري الانتقالي يتحمل مسؤولية الدماء المسالة، وقال: "إن مقتل ستة متظاهرين وجرح مئة آخرين أو أكثر فيما وصفته بهجمات مأساوية، كان نتيجة محاولة قوات الأمن الخاضعة للمجلس العسكري إزالة المتاريس التي أقامها المعتصمون لحماية مكان اعتصامهم".

وأضاف بيان السفارة "أن استخدام قوات الأمن القوة مباشرة، بما في ذلك استخدام قنابل الغاز، أدى إلى أعمال العنف التي استهدفت المعتصمين، ولم يستطع المجلس العسكري السيطرة عليها".

مفاوضات متأرجحة

في 15 مايو/ آيار 2019، وبعد الأحداث الدموية التي جرت أثناء محاولة إزالة حواجز المعتصمين، ألقى رئيس المجلس العسكري عبد الفتاح البرهان بيانا خاطب فيه الأمة السودانية، وقال: "إن قواتكم المسلحة الباسلة وقوات الدعم السريع أتت من رحم هذا الشعب، ولعبت دورا مهما وفاعلا في إسناد الثورة السودانية العظيمة، وانحازت لخيار شعبنا في التغير، وأمنت انتصار الثورة المباركة بهدف حقن الدماء ونقل السلطة للشعب عبر انتخابات حرة ونزيهة".

وانتقد البرهان في خطابه "التصعيد الإعلامي غير المبرر واللهجة العدائية التحريضية ضد القوات المسلحة وقوات الدعم السريع"، مشيرا إلى "تسلل عناصر مسلحة داخل مكان الاعتصام وحوله، واستهدافهم القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، والمواطنين وإزهاق أرواح عدد من شباب السودان".

بعدها قام الفريق عبد الفتاح البرهان بتعليق المفاوضات مع قادة الاحتجاج لمدة 72 ساعة.

وكانت المفاوضات الماضية قد توصلت لاتفاق يقضي بأن تستحوذ قوى الحرية والتغيير، التي تقود الاحتجاجات في البلاد على 67 بالمئة من مقاعد المجلس التشريعي، إضافة إلى فترة انتقالية لثلاث سنوات.

وبعد تعليق المحادثات ظهرت إرهاصات بأن العسكر يتجهون للتنصل عن الاتفاق، وبدا أن الأسوأ في الطريق، خاصة وأن رئيس المجلس العسكري لوح في بيانه بانتفاء صفة السلمية عن الثورة، وهي عبارة تعطي دلالات وجود سيناريوهات لمواجهات محتملة، أكثر شراسة وأشد دموية.

وفي 16 مايو/ أيار 2019، أصدرت قوى إعلان الحرية والتغيير في السودان، بيانا تؤكد فيه سلمية الاحتجاجات والاستمرار في الاعتصام، معربة عن أسفها لوقف المجلس العسكري التفاوض مع قادة الاحتجاج بدعوى عدم سلميتها.

وقالت قوى التغيير: إن "السلمية أيقونة الثورة التي لا يستطيع أحد أن ينزع عنها هذه الصفة، أو أن يطعن أو يشكك في جدية التمسك بها"، مضيفة: "أنها كانت السبب في الوصول إلى هذه المرحلة المتقدمة في عمر الثورة، وأصبحت طوق نجاة للشعوب المستضعفة".

وأعربت عن أسفها لقرار تعليق التفاوض، معتبرة أنه "لا يستوعب التطورات التي تمت في ملف التفاوض، ويتجاهل حقيقة تعالي الثوار على الغبن والاحتقان المتصاعد كنتيجة للدماء التي سالت والأرواح التي فقدنا".

وأكد البيان حق التصعيد السلمي المشروع لحماية مكتسبات الثورة والشعب، وتمسك بانتفاء جميع مبررات تعليق المفاوضات من طرف واحد، ومنها فتح الطرق ورفع الحواجز وتسهيل حركة المرور، محذرا من أن "ذلك ينسف دعاوى التوافق بما يسمح بالعودة إلى مربع التسويف في تسليم السلطة للمدنيين".

لعبة الاستقطابات

"ثوار أحرار.. لن يحكمنا اليسار"، هتافات رددها أنصار تيار "نصرة الشريعة ودولة القانون" في السودان خلال مظاهرات دعا إليها التيار في 17 مايو/ آيار 2019 تحت مسمى "جمعة الرفض"، وذلك رفضا لتنحية الشريعة الإسلامية عن إدارة الدولة والحياة.

وانطلقت مسيرات التيار الإسلامي، من مسجد مجمع خاتم المرسلين جنوب العاصمة السودانية الخرطوم، واستنكر المحتجون ما وصفوه بالاتفاق الإقصائي، في إشارة إلى الاتفاق بين المجلس العسكري الانتقالي وتحالف قوى إعلان الحرية والتغيير.

ويعمل المجلس العسكري الانتقالي منذ البداية على تقوية مركزه، وتعزيز سلطته، وإحكام سيطرته، من خلال حصوله على اعتراف وتأييد دولي وإقليمي واسع وتلقيه عروضا بالمساعدات الاقتصادية العاجلة من بعض دول الإقليم وتحديدا السعودية والإمارات.

ويظل طريق حصوله على شرعية شعبية طويلا، في ظل تباين واختلافات واسعة بين القوى السياسية حول وجوده ودوره، فمثلا الحزب الشيوعي وتحالف قوى الإجماع الوطني المعارض يرفضون أي دور للمجلس العسكري في إدارة الفترة الانتقالية، ويطالبون بتشكيل مجلس سيادة وحكومة مدنية لإدارة البلاد لفترة انتقالية.

فيما تدعو بعض قوى تحالف نداء السودان المعارض، لاسيما حزب الأمة بقيادة الصادق المهدي، والمؤتمر السوداني بقيادة عمر الدقير إلى تشكيل مجلس انتقالي مختلط من عسكريين ومدنيين، بينما يطالب تجمع المهنيين الذي قاد الحراك الثوري في الأشهر الأربعة الماضية إلى مواصلة الاعتصام لحين تسليم المجلس العسكري السلطة لتحالف قوى الحرية والتغيير الذي يضم إلى جانبه أحزاب معارضة من تحالفي الإجماع ونداء السودان، في حين لا يمانع قطاع من الأحزاب الإسلامية وجود دور للمجلس العسكري، شريطة الالتزام بأحكام الشريعة، والتمسك بإسلامية البلاد كما في نص الدستور.

المساحة بين تلك القوى المدنية، والمجلس العسكري، واختلاف الرؤى حول طبيعة الدور الذي يقوم به الجنرالات في حكم البلاد، توجد مساحات واسعة من الاستقطابات، والاختلافات، ووحدها كفيلة بشق صف القطاع الشعبي المتفرق، في مواجهة وحدة قيادات الجيش.

طموح حميدتي

الفريق أول محمد حمدان دقلو "حميدتي"، قائد قوات الدعم السريع، ونائب رئيس المجلس العسكري، بطموحه الوقاد، وانتشار قواته الكثيف في ربوع الخرطوم، وسائر المدن السودانية، غدا من أهم عقبات انتقال الحكم من العسكري إلى المدني في السودان.

ففي 15 مايو/ آيار الجاري، نشرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية مقالا تحت عنوان "الرجل الذي روع دارفور هو من يقود العملية الانتقالية المفترضة في السودان"، وذكرت أن حميدتي "هو من يقوم بإصدار الأوامر في السودان، وأن الدبلوماسيين الغربيين في الخرطوم عرفوا بعد الإطاحة بعمر البشير، من هو الشخص القوي في العاصمة، فلم يصافح سفراء الولايات المتحدة وبريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي رئيس المجلس الذي لم يسمع به أحد من قبل، عبد الفتاح البرهان، لكنهم صافحوا واجتمعوا مع حميدتي".

دقلو الرجل الذي جاء إلى الجيش بخلفية غير عسكرية، إلا أنه كان قائدا لمليشيا الجنجويد العربية في إقليم دارفور، التي ارتكبت جرائم فادحة أثناء نزاع الإقليم مع حكومة الخرطوم، ما كان إلا شبحا أوجده الرئيس السوداني المعزول عمر البشير، ليعصمه من المظاهرات، والمحاولات الانقلابية، فقربه إليه وأنشأ قوات الدعم السريع، التي كانت بمثابة الحرس الجمهوري له شخصيا، وسرعان ما تحولت إلى قوة نظامية شرسة، تنافس أجهزة الجيش والمخابرات، وتمت ترقية "حميدتي" إلى رتبة فريق أول.

لم يكن يعلم البشير أنه بتلك الصناعة، سوف يساهم في إسقاط حكمه، على يد من قربهم إليه ورفعهم لحمايته، ولم يكن يعلم قادة الجيش، أن رجلا لم يمر ببوابة الكلية الحربية، ولم يتدرج في مسالك التربية العسكرية، ستكون له كل هذه الأدوات من القوة والنفوذ.

حميدتي سرعان ما نشر قواته بحوالي تسعة آلاف مقاتل في الخرطوم، إضافة إلى أربعة آلاف عنصر جلبهم من دارفور من أجل مواجهة المتظاهرين، أو حتى قوات من الجيش قد تقدم على تمرد، أو أي طرف يهدده.

كما يحظى بدعم رجال العشائر العربية الذين أقاموا الجنجويد قبل 16 عاما في دارفور، والأهم هو الدعم الإقليمي الذي يتلقاه الرجل من الأنظمة الكبرى في المنطقة، وعلى رأسهم السعودية، والإمارات، ومصر.

المعطيات السابقة، تجعل من صراع المدني والعسكري في السودان، أمرا شائكا، في ظل منطقة مضطربة مليئة بالحالات المشابهة، وقد نشر مركز الجزيرة للدراسات في 23 أبريل/ نيسان 2019، دراسة أورد فيها، أن "عدم التوافق السياسي على إدارة المرحلة الانتقالية في أعقاب الانتفاضات الشعبية عقب إسقاط الأنظمة العسكرية في ظل الصراعات الأيديولوجية ظل يحرم الثوار طلاب التغيير الحقيقي من جني ثمار تضحياتهم بسبب تسابق القوى السياسية على خدمة أجندتها الضيقة على حساب الأجندة الوطنية الأكبر لوضع أسس لنظام ديمقراطي قادر على الصمود والتطور".

وذكرت الدراسة، أنه "لذلك تأتي فترات الحكم المدني قصيرة العمر ضعيفة مضطربة مفتقدة للتأسيس الديمقراطي المؤسسي السليم للحكم الراشد، ولذلك سرعان ما تبادر قوة مدنية إلى استدعاء الجيش لحسم صراعها مع خصومها السياسيين، لتحرم البلاد من الصبر على الديمقراطية واستدامتها".