من تركيا وإيران والصين.. كيف غيرت المسيرات واقع الصراع العسكري في السودان؟

"مع وصول المسيرة التركية، انتهى تفوق المتمردين عمليا، والآن لدينا دعم جوي يضاهي قوتنا على الأرض"
في واحدة من أكثر الحروب دموية وتعقيدا في تاريخ الجمهورية السودانية، تتحول السماء هناك إلى مسرح لصراع من نوع جديد، لا تُحسم فيه المعارك بالمدافع أو البنادق، بل عبر الطائرات دون طيار.
فالمسيرات أصبحت اليوم رأس الحربة في المواجهات المفتوحة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع المتمردة، حيث لم تعد الجبهات ترسم على الأرض فقط، بل ترسمها الشاشات، والإحداثيات، وضربات في عمق الخصم.
وبينما تتسارع وتيرة استخدام هذه المسيرات في ضرب مراكز القيادة، ومخازن الأسلحة، وأرتال الإمداد، تنكشف معالم سباق تسليح خفي تدعمه أطراف خارجية، ويفرض واقعا عسكريا جديدا في النزاع.
ومنذ أسابيع وبوتيرة متسارعة، بدأت تتناقص مساحات سيطرة "الدعم السريع" في ولايات السودان لصالح الجيش.
ففي ولاية العاصمة التي تتشكل من 3 مدن، أحكم الجيش قبضته على مدينتي الخرطوم وبحري، فيما يسيطر على معظم أجزاء مدينة أم درمان، باستثناء أجزاء من غربها وجنوبها.
ومنذ أواخر مارس/ آذار 2025، تسارعت انتصارات الجيش في الخرطوم بما شمل السيطرة على القصر الرئاسي، ومقار الوزارات بمحيطه، والمطار، ومقرات أمنية وعسكرية، للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب قبل سنتين.
وفي الولايات الـ17 الأخرى، لم تعد "الدعم السريع" تسيطر سوى على أجزاء من ولايتي شمال كردفان وغرب كردفان وجيوب في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، بجانب 4 من ولايات إقليم دارفور (غرب).
بينما يسيطر الجيش على الفاشر عاصمة شمال دارفور، الولاية الخامسة في الإقليم.
مسيرات الدعم السريع
في 27 أبريل/ نيسان 2025، شنت طائرات مسيرة تابعة لقوات الدعم السريع، هجوما استهدفت خلاله عدة مواقع عسكرية وبنية تحتية في الخرطوم.
من بينها مصفاة البترول في منطقة الجيلي بشمال الخرطوم بحري، ومحطة كهرباء مدينة بربر في شمال البلاد، ومصنع أسمنت قرب مدينة عطبرة الشمالية.
كذلك سمعت دوي انفجارات في منطقة كرري (شمال أم درمان) حيث توجد قاعدة "وادي سيدنا" الجوية، وهي أكبر القواعد الجوية التابعة للجيش السوداني، كما توجد هناك الأكاديمية العسكرية، ومراكز قيادة رئيسية.
وهو ما دفع قائد الجيش، رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، للخروج وإصدار تصريحات توعد فيها بوضع حد لهجمات المسيرات التابعة للمتمردين، خاصة بعد القصف المكثف على "وادي سيدنا".
أما سر المسيرات المتقدمة التي حظي بها الدعم السريع، وأسهمت في الهجوم على قواعد الجيش والمدن المحررة من قبضتهم، فكشفه موقع "بوليتيكال" الأميركي في 17 أبريل 2025، عندما حصل على معلومات خاصة، تفيد بوصول مسيرات متطورة صينية الصنع إلى تشاد.
وأكدت المعلومات أنها وصلت عن طريق الإمارات التي قدمت هذه المسيرات على شكل دعم عسكري لتشاد.

“سي إتش 95” الصينية
وأفاد الموقع الأميركي بأن الدعم السريع، كانت تستخدم سابقا مجموعة متنوعة من المسيرات البدائية، التي تغلب عليها الطبيعة الانتحارية.
لكن المسيرات الجديدة التي جاءت بأموال إماراتية، فهي حديثة من طراز "سي إتش - 95" صينية الصنع، وهي مسيرات هجومية قادرة على الاستطلاع وجمع المعلومات، وتسديد ضربات دقيقة ومؤثرة لأهدافها.
وهو ما يفسر دقة وقوات الهجمات الأخيرة، حيث فشل المضادات الأرضية التابعة للجيش في التصدي لها.
وأصبحت الهجمات بالمسيرات بعيدة المدى ظاهرة جديدة في الحرب القائمة التي دخلت عامها الثالث، بين الجيش السوداني والمليشيا المتمردة المدعومة إماراتيا.
وأعلن المستشار بـ "الدعم السريع"، الباشا طبيق، أنه جرى استهداف قواعد للجيش، وتدمير عدد من الطائرات الحربية والمسيرات ومخازن الأسلحة والذخائر.
وأضاف في تدوينة على منصة "إكس" أن "تلك الاستهدافات رسالة بأن الحرب دخلت مرحلة جديدة الآن".
وأظهرت صور أقمار صناعية وجود ثلاث طائرات مسيرة على الأقل وتشييد حظائر للطائرات في مطار بمنطقة نيالا جنوب دارفور تسيطر عليه الدعم السريع.
في دليل على استمرار تدفق أسلحة متقدمة تسهم في تأجيج الحرب الطاحنة بالبلاد، بحسب وكالة "رويترز" البريطانية في 26 فبراير/ شباط 2025.
وتعد نيالا من معاقل الدعم السريع وتستخدمها لشن هجمات على مدينة الفاشر، عاصمة دارفور التي يسيطر على معظمها الجيش السوداني والقوات المتحالفة معه.
واستهدفت الدعم السريع من خلال المسيرات المنطلقة من نيالا، مخيم زمزم للنازحين القريب والذي يواجه مجاعة قاتلة.
وفي 20 أبريل 2025، أعلنت لجنة الإنقاذ الدولية أن عدد الضحايا جراء الحرب السودانية، وصل إلى 150 ألف شخص، وهو رقم أعلى من الحصيلة المعلنة للأمم المتحدة التي تتراوح حول 20 ألف قتيل.

موقف الجيش
من جهة أخرى، أظهر مقطع فيديو خلال معركة تحرير الخرطوم، في 8 أبريل 2025، مسيرات الجيش السوداني، وهي تستهدف أحد قادة الدعم السريع بمحور جنوب غرب أم درمان.
وقتها كان الجيش يواصل تقدمه غرب المدينة، ويقوم بالسيطرة على عدة مواقع، فيما كانت المسيرات تنقذ ضربات دقيقة ضد القوات المتمردة المتقهقرة وهي تغادر المدينة.
ولا شك أن الطائرات المسيرة أسهمت في انتصارات الجيش، وتغيير المعادلة منذ ظهورها أواخر العام 2023.
ففي بداية الحرب في أبريل 2023، اعتمد الجيش على سلاح الطيران فقط، وهو سلاح رغم أهميته، لا يمكن أن يحدث تفوقا عسكريا لا سيما ضد قوة أرضية خفيفة في تسليحها وسريعة في حركتها مثل الدعم السريع، بحسب موقع "بي بي سي" البريطاني، في 31 مايو/ آيار 2024.
الذي أضاف أنه يجب أن نتذكر أن قوات الدعم السريع كانت بمثابة القوات الأرضية للجيش، وبعد الحرب، وجدت القوات المسلحة كل قواتها التفضيلية محاصرة، مثل سلاح المدرعات والقاعدة الجوية في وادي سيدنا.
كذلك لم تكن لديها قوات مقاتلة على الأرض، وهذا كان سببا رئيسا في أنها كانت في موقف الدفاع لعدة شهور.
رسمت هذه الظروف خريطة السيطرة على الأرض، إذ احتفظ الجيش بالسيطرة على مواقع محدودة في الخرطوم، وبقي محاصرا في قواعده لأشهر عدة، لكنه ظل محتفظا بانتشاره في السماء دون فاعلية حاسمة.

ظهور المسيرات
بدأت قصة المسيرات في الحرب السودانية، في 5 فبراير 2024، فحينها التقى وزير الخارجية السوداني علي الصادق علي في طهران بنظيره الإيراني السابق حسين أمير عبد اللهيان.
وذلك في أول زيارة لوزير خارجية السودان منذ قطع العلاقات بين البلدين عام 2016، خلال حكم الرئيس السابق عمر البشير، وتم خلالها إعلان عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
وسرعان ما تكشف أن عودة العلاقات الدبلوماسية بين السودان وإيران، هدفه الأول لدى الجانب السوداني هو إمداده عسكريا في مواجهة خصمه اللدود الدعم السريع.
وقد لاقى بغيته بالفعل وظهر هذا في رصد تغير موازين القوى لصالح الجيش خلال معركة أم درمان.
ففي 8 فبراير 2024، نشر حساب القوات المسلحة السودانية بـ "فيسبوك" مشاهد مصورة للبرهان، وهو يتفقد المواقع الأمامية للقوات المسلحة بمنطقة أم درمان.
وكان في استقباله مجموعة من جنرالات الجيش على رأسهم الفريق أول ركن ياسر العطا عضو مجلس السيادة الانتقالي، مساعد القائد العام.
وأراد البرهان أن يبعث رسائل طمأنة للمواطنين، فوقف وسط جنوده في "أم درمان" وخطب فيهم مؤكدا: أن "القوات المسلحة والشعب في خندق واحد لاستئصال سرطان المليشيا المتمردة ومرتزقتها".
السؤال الذي طرح نفسه وقتها أمام هذا التقدم للجيش، هو عن العامل الفارق الذي رجح كفة القوات المسلحة في هذه المعركة؟
وجاءت الإجابة في التقرير الذي نشرته وكالة "بلومبيرغ" في 24 يناير/كانون الثاني 2024، وذكرت فيه: "أن أقمار اصطناعية التقطت صورا لطائرة من نوع (مهاجر 6) الإيرانية، في قاعدة خاضعة لسيطرة الجيش شمالي الخرطوم".
ونقلت الوكالة الأميركية عن ثلاثة مسؤولين غربيين، طلبوا عدم الإفصاح عن هوياتهم لكشفهم عن معلومات حساسة، "أن الجيش السوداني تلقى شحنات من طائرة (مهاجر 6)، وهي مسيرة ذات محرك واحد تم تصنيعها في إيران".
وذكرت أن الطائرة تحمل ذخائر موجهة بدقة، وأكد محللون فحصوا صورا للأقمار الاصطناعية وجود الطائرة من دون طيار في البلاد.
وكشف "ويم زوين نبرغ" رئيس مشروع نزع السلاح في "منظمة باكس" الهولندية، أن "من بين الأدلة التي تثبت وجود (مهاجر 6) في السودان، صور الأقمار التي التقطت المسيرات في قاعدة وادي سيدنا الجوية (الخاضعة لسيطرة الجيش).
ووفقا لبلومبيرغ فإن مهاجر 6 قادرة على شن هجمات (جو - أرض) والحرب الإلكترونية، والاستهداف المباشر في ساحة المعركة.

المسيرات التركية
ولم تكن المسيرات الإيرانية فقط التي أسهمت في انتصارات الجيش السوداني؛ إذ كان للمسيرات التركية دور حاسم في المعارك.
وذكر موقع "ميدل إيست آي" البريطاني في 25 فبراير 2025، أن أنقرة زودت القوات المسلحة السودانية، بطائرات مسيرة خلال العام 2024، وقد تم استخدامها لتحقيق تقدم مهم ضد المتمردين في مناطق أهمها الخرطوم والأبيض.
وبدأ تسليم الطائرات المسيرة التركية للجيش السوداني في أكتوبر/ تشرين الأول 2024، ومثل أول حالة دعم عسكري تركي مباشر للحكومة، الأمر الذي أدى إلى تغيير موازين القوى في الصراع.
وكانت صحيفة "سودان تريبيون" الناطقة بالإنجليزية، أول من نشر عن تسليم المسيرات التركية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، نقلا عن مصدر عسكري، قال: "إن الطائرات المسيرة كانت تعمل منذ حوالي شهر، وأنها تستخدم حصريا في ولاية الخرطوم".
وبالفعل أسهمت المسيرات التركية في تسريع تقدم الجيش السوداني شمال العاصمة، ومدن إستراتيجية مثل الأُبيض، عاصمة ولاية شمال كردفان جنوبي البلاد.
وذكر موقع "ميدل إيست آي" أن المسيرة التركية من طراز "بيرقدار تي بي 2" نفذت غارات على قوافل لوجستية وبطاريات مدفعية ووحدات استجابة تابعة لقوات الدعم السريع.
ويُظهر مقطع فيديو نشرته وكالة أنباء “نبأ السودان” في 16 يناير 2025، هجوما جويا شنته طائرة من طراز "بيرقدار تي بي 2"، استهدف جسر بيكه غربي ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة.
وأكد ضابط في الجيش السوداني، كان موجودا في معارك ولاية الجزيرة، وشارك في العمليات شمال الخرطوم، للموقع البريطاني، أن الدعم السريع كانت لها اليد العليا في بداية الحرب بسبب الأسلحة المتطورة التي قدمها داعموها.
وتابع: "في بداية الحرب، فقدنا العديد من القواعد العسكرية وواجهنا تحديات كبيرة، لكن مع وصول المسيرة التركية، انتهى تفوق المتمردين عمليا، والآن لدينا دعم جوي يضاهي قوتنا على الأرض".
المصادر
- تصاعد استخدام المسيّرات في الحرب السودانية
- Sudanese army deploys Turkish Bayraktar drones in Khartoum
- صور تظهر طائرات مسيرة لقوات الدعم السريع السودانية في قاعدة بدارفور
- المسيرات التركية تعزز تفوق الجيش السوداني في مواجهة الدعم السريع
- مسيرات الجيش السوداني تستهدف أحد قادة " الدعم السريع" بمحور جنوب غرب أم درمان
- مسيرات إستراتيجية تقصف قاعدة وادي سيدنا