"حارسة حدود".. ما الذي يدفع موريتانيا للعب الدور الأمني لصالح أوروبا؟

"الانعكاسات السلبية على موريتانيا هي التي حركت وتيرة عملية الاعتقال والترحيل"
أثار التدفق الكبير للمهاجرين غير النظاميين القادمين من دول غرب إفريقيا، جدلا واسعا في موريتانيا، بين الداخل الذي ينتقد تساهل الحكومة مع هذه الظاهرة المتصاعدة بشكل خطير، وبين دول الجوار التي انتقدت ترحيل العديد من مواطنيها بـ"شكل تعسفي".
ويشتكي الموريتانيون من التأثيرات السلبية لتزايد توافد أعداد المهاجرين غير النظاميين، خاصة فيما يتعلق بالجوانب الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، مما يضع "النسيج المجتمعي الهش" في مواجهة ضغوط غير مسبوقة، وسط محدودية في الموارد وضعف البنية التحتية.
ترحيل قسري
وأمام التزايد الكبير لأعداد المهاجرين غير النظاميين نفذت السلطات الموريتانية حملة لاعتقال المهاجرين غير النظاميين تمهيدا لترحيل الذين لا يستوفون الشروط القانونية للإقامة.
وأظهرت الإحصائيات الرسمية أن الحكومة الموريتانية، رحلت ما بين 1000 إلى 2000 مهاجر إلى مالي، وكذلك ما بين 500 إلى 1000 إلى السنغال، في خطوة تهدف إلى تنظيم وجود المهاجرين في البلاد، بما يتماشى مع القوانين المحلية.
وجاءت حملة الاعتقالات بعد أن فتحت سلطات نواكشوط باب تسوية الإقامة المجانية للمهاجرين الراغبين في الاستقرار بموريتانيا بشكل قانوني، كإجراء مؤقت لضبط عددهم، حيث تم تقديم تسهيلات للمهاجرين الراغبين في الحصول على إقامة شرعية.
وهي العملية التي كشف حصيلتها المتحدث باسم الحكومة الموريتانية، الحسين ولد مدو، قائلا في تصريح صحفي، إن الإحصاءات الرسمية سجلت دخول 130 ألف مهاجر منذ 2022، ولم يتقدم منهم لتسوية أوضاعه القانونية سوى 7 آلاف.
وتقدر بعض التقارير غير الرسمية بأن المهاجرين في موريتانيا يشكلون أكثر من 10 بالمئة من مجموع سكان البلاد الذي لا يتجاوز 5 ملايين نسمة.
غير أن ترحيل العديد من المهاجرين غير النظاميين أثار احتجاج بعض المنظمات الحقوقية وأيضا الدول المصدرة للهجرة خاصة السنغال ومالي وغامبيا.
وفي 16 مارس/آذار 2025، زارت وزيرة الخارجية السنغالية ياسين فال، العاصمة نواكشوط، وأجرت مباحثات مع كبار المسؤولين الموريتانيين حيث ركزت المناقشات على قضايا الهجرة والتنسيق مع الحكومة في هذا الملف.
ورأى متتبعون أن زيارة وزيرة الخارجية السنغالية تأتي في "سياق الحملة التي تقوم بها السلطات الموريتانية ضد المهاجرين غير النظاميين".
حفظ المصالح
كما استقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني في 27 مارس 2025، بالقصر الرئاسي وفدا حكوميا رفيع المستوى من مالي برئاسة وزير الشؤون الخارجية عبدولاي جوب، رفقة وزير الماليين المقيمين في الخارج، موسى آغ الطاهر، والوزير المدير العام للوكالة الوطنية لأمن الدولة، الجنرال موديبو كونى.
وكشف وزير الخارجية المالي، أن الوفد حمل رسالة من رئيس المرحلة الانتقالية عاصيمي غويتا، إلى الرئيس ولد الشيخ الغزواني، وأن مضمونها يتواءم أساسا مع إرادة الرئيسين للحفاظ على علاقات الصداقة والأخوة التي كانت ومازالت قائمة بين موريتانيا ومالي.
وقال الوزير المالي، إن "الرئيس كلفني أن أنقل لأخيه الرئيس الموريتاني قلقه بشأن قضية الجالية المالية في موريتانيا ومواطنينا الذين تم ترحيلهم أخبرا، وضرورة العمل من أجل حفظ مصالح المواطنين الموريتانيين في مالي".
وتابع في تصريحات صحفية، أن "الرسالة تطرقت أيضا إلى حقيقة وطبيعة ما وصف بالترحيل القسري لمواطنينا، حيث استمع الرئيس ولد الشيخ الغزواني لتقييمنا لوضع المواطنين الماليين في موريتانيا".
وأضاف: "نقلنا إلى الرئيس الحاجة لضمان احترام الكرامة الإنسانية خلال عمليات الترحيل القسرية"، مردفا: "لسنا مقيمين في موريتانيا فقط بل نحن كذلك دول شقيقة ومتجاورة ولدينا العديد من الروابط الأخرى".
وفي 28 مارس 2025، استقبل ولد الشيخ الغزواني، وزير خارجية غامبيا مامادو تانغارا، للتباحث في قضية ترحيل مئات المهاجرين الغامبيين من موريتانيا.
وقال الوزير الغامبي في تصريح صحفي عقب لقاء ولد الغزواني: "كان هناك إشكال يتعلق بتسوية أوضاع المقيمين في هذا البلد، وقد تأثر بعض الغامبيين به. وأجرينا تبادلا مثمرا مع فخامة الرئيس حول هذا الموضوع".
وسجل الوزير الغامبي، أن "سواحل البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي تحولت للأسف إلى مقبرة للأفارقة"، مشيرا إلى أنه "من المهم أن نتمكن من العمل معا لوقف هذه الآفة التي تدمر مجتمعاتنا، ونحن هنا للإعراب عن تضامننا مع موريتانيا".
ولم يقتصر انتقاد عملية ترحيل مهاجرين على دول المنشأ، بل دخلت على الخط أيضا بعض المنظمات الحقوقية التي رأت أن السياسات الموريتانية قد تكون قاسية في بعض الأحيان على المهاجرين.
وتؤكد منظمات مثل "هيومن رايتس ووتش" والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين على ضرورة أن تواكب السياسات الموريتانية التزاماتها الدولية في حماية حقوق الإنسان.
حملة دبلوماسية
مقابل هذه الانتقادات، أطلقت موريتانيا حملة دبلوماسية واسعة لشرح سياستها المتعلقة بضبط إقامة الأجانب على أراضيها، وفقا لما تعده “حقا سياديا ثابتا لها” في هذا المجال.
وتشمل الحملة اتصالات مكثفة مع العواصم المجاورة، إلى جانب جولة ميدانية تنقل ضمنها وزير الخارجية والتعاون والموريتانيين في الخارج محمد سالم ولد مرزوك، بين عواصم بلدان غرب إفريقيا، حاملا رسائل خطية من الرئيس ولد الشيخ الغزواني إلى قادة دول الجوار.
وتسعى نواكشوط من خلال هذه الحملة، حسب تقارير إعلامية، إلى تفنيد ما عدته "فهما خاطئا" للإجراءات الأخيرة المتعلقة بترحيل الأجانب غير الحاصلين على إقامات قانونية.
كما تشمل الحملة العمل على تعزيز التنسيق مع البعثات الدبلوماسية للدول الإفريقية المعنية وتكثيف التواصل الإعلامي لتوضيح خلفيات القرار للرأي العام المحلي والدولي.
وفي 8 أبريل/نيسان 2025، وصل وزير الخارجية الموريتاني، محمد سالم ولد مرزوك، إلى العاصمة دكار، في زيارة رسمية تهدف إلى بحث تعزيز التعاون الثنائي ومواجهة الهجرة غير النظامية، في ظل تصاعد التحديات الأمنية والإنسانية المرتبطة بهذه الظاهرة في المنطقة.
وقال الوزير الموريتاني خلال مقابلة مع إذاعة فرنسا الدولية في 12 مارس 2025، إن اللقاء مع الرئيس السنغالي باسيرو جوماي فاي تناول سبل تعزيز الشراكة بين البلدين في مجالات متعددة، خاصة ما يتعلق بالأمن والهجرة.
وأوضح أنه تمت مناقشة قضية الهجرة غير النظامية، التي وصفها بأنها لم تعد شأنا محليا أو إقليميا فحسب، بل تحديا عالميا يتطلب تنسيقا دوليا واستجابة شاملة.
كما دافع ولد مرزوك، عن إجراءات الحكومة الموريتانية المتعلقة بترحيل مهاجري السنغال ومالي وبعض الدول الإفريقية الأخرى.
وقال مرزوك، إن بلاده ليست "حارس حدود" لأوروبا أو لأي بلد كان، ولا تعمل كقاعدة عسكرية أو جهة خلفية لأي دولة، مؤكدا أن موريتانيا مصممة على الوقوف بحزم في وجه شبكات التهريب والهجرة غير النظامية.
وأوضح أن موريتانيا تعمل على ألا تكون ممرا لمئات الآلاف من الشباب الذين يخاطرون بحياتهم عبر المحيط الأطلسي.
وأشار ولد مرزوك، إلى أن بلاده استطاعت أخيرا تفكيك 4 شبكات للهجرة غير النظامية يديرها موريتانيون وبعض الأجانب من جنسيات مختلفة.
وفي رده على انتقادات بعض المنظمات الحقوقية، أكد الوزير أن المهمة الأساسية لقوات بلاده هي تأمين السكان والأراضي، مبينا أنها تلتزم أثناء تنفيذها هذه الواجبات بجميع الاتفاقيات التي تحمي حقوق الإنسان.
فهم جديد
وفي تعليقه على الجدل الذي أسفرت عنه عمليات ترحيل المهاجرين غير النظاميين، قال الكاتب والصحفي محمد الأمين خطاري: إن الحكومة تتخذ إجراءات حازمة بعد أن طفح كيل الموريتانيين، بخصوص تدفق الآلاف من المهاجرين غير النظاميين.
ورأى خطاري، أن الحكومة استبقت عملية الاعتقالات بسلسلة من الإجراءات القانونية ذات الطابع العقابي لما يعرف بعصابات الهجرة والاتجار بالبشر، وبعد ذلك شرعت في عملية واسعة النطاق تستهدف المهاجرين غير النظاميين بالتنسيق مع مختلف العناصر الأمنية في موريتانيا.
وأوضح خطاري، لقناة "فرانس 24" الفرنسية، أن الهدف من هذه العملية، هو السيطرة على الوضع لمعرفة طبيعة وأعداد وكيفية وصول المهاجرين غير النظاميين إلى موريتانيا.
ولفت إلى أن المسؤولين الموريتانيين يؤكدون أنهم يعملون على أن تكون هذه العمليات في سياقها القانوني والحقوقي بما يضمن حقوق المهاجرين ويسمح لموريتانيا أن تعرف من يعيش على أراضيها سواء بطريقة قانونية أو غير قانونية .
وعن إمكانية توتر العلاقات مع دول الجوار بسبب عمليات ترحيل المهاجرين غير النظاميين، قال خطاري: إن ما تحاول أن تُفهمه نواكشوط لجيرانها ولكل المهتمين بهذه الأحداث هو أنه إذا كان أي مواطن سنغالي أو مالي أو من أي دولة من الأشقاء والأصدقاء الأفارقة في وضعية قانونية فهو غير مستبعد وأن الطلب لازال مفتوحا لتسوية الأوضاع بطرق قانونية.
وعن دور ضغوط الاتحاد الأوروبي في عملية الحكومة الموريتانية تجاه المهاجرين غير النظاميين، رأى أنه “كثُر الحديث عن هذا الموضوع في مواقع التواصل الاجتماعي، رغم أن الاتحاد الأوروبي أصدر بيانا يؤكد فيه أن كل ما تم الاتفاق عليه مع موريتانيا هو في سياق إعلان مبادئ”.
وتابع: “بمعنى أنه لا يوجد هناك أي اتفاق يلزم موريتانيا بالعمل بطريقة أقوى من الطرق السابقة أو بتغيير قواعد العمل المعمول بها سابقا”، مشيرا إلى أن “كل ما في الأمر أن الموريتانيين بدؤوا يستشعرون خطورة تفاقم الهجرة غير الشرعية وضغطها على البلد في مختلف النواحي”.
وفي 7 مارس 2024، وقعت نواكشوط اتفاقية مع الاتحاد الأوروبي حول "الهجرة غير الشرعية"، تحصل بموجبها موريتانيا على تمويل تزيد قيمته على 80 مليار أوقية (أكثر من 200 مليون يورو)، مقابل العمل على الحد من موجات الهجرة المتدفقة من إفريقيا باتجاه أوروبا.
وكانت هذه الاتفاقية، وما رافقها من غموض، بداية لخلاف عميق ظهر بين الموريتانيين الذين رأى بعضهم فيها تهديدا للأمن والسلم الاجتماعيين، وتغييرا للتركيبة الديموغرافية، ومجازفة غير محسوبة النتائج.
ومقابل هذا الرأي، يقلل عدد من المراقبين من خطورة الاتفاقية الموقعة مع الاتحاد الأوروبي، ويرون أن أعداد المهاجرين تحت السيطرة، وأن توطينهم في البلاد هو إجراء مؤقت قبل ترحيلهم إلى بلدانهم الأصلية.
بلبلة أوروبية
من جهته، قال المدير الناشر لصحيفة "النهار" المحلية، محمد المختار ولد محمد فال، إن الاتفاق الذي حصل بين موريتانيا والاتحاد الأوروبي تسرب عنه أن "الأوروبيين يريدون أن تكون موريتانيا مكانا لتجميع المهاجرين ليستقروا بها، كما أنه سيتم ترحيل الأفارقة الموجودين بأوروبا إليها".
وأضاف ولد محمد فال، لـ"الاستقلال"، أنه "تمت إشاعة أقاويل مفادها أن الاتحاد الأوروبي اشترى للمهاجرين حق الإقامة في موريتانيا والعمل فيها"، مبينا أن هذه الإشاعات "خلقت حساسية شديدة جدا في الشارع الموريتاني".
ونبه إلى أن الاتفاق الموريتاني الأوروبي أحدث "بلبلة"، إذ أصبح المهاجرون يعتقدون أن هذه البلاد هُيئت لهم وأنها دولة صاعدة في طريق الغنى والثروة بسبب الاكتشافات البترولية، ملاحظا أن توافد المهاجرين الأفارقة "ازداد بعد هذا الاتفاق".
وسجل ولد محمد فال، أنه "رغم نفي الحكومة الموريتانية والاتحاد الأوروبي بأن يكون هذا الاتفاق بأي شكل من الأشكال صك لتهجير الأفارقة إلى موريتانيا أو العمل على استقرارهم بها، إلا أنه كانت هناك هجرة كبيرة من الدول الإفريقية المجاورة للبلاد جراء تناسل هذه الإشاعات".
ورأى أن "الدولة الموريتانية تسامحت في موضوع الهجرة صونا للجيرة وعدم الرغبة في خلق الإشكالات مع الدول المجاورة خاصة أن الموريتانيين لهم جاليات في هذه الدول التي يمارسون فيها التجارة بشكل خاص".
وأوضح ولد محمد فال أن "الحكومة الموريتانية، دعت المهاجرين غير النظاميين، منذ نحو 5 سنوات، إلى تسجيل إقامتهم بطريقة قانونية وبشكل مجاني"، مستدركا: لكن "الإقبال كان ضعيفا، حيث كان عدد الذين سجلوا الإقامة بشكل قانوني قليلا بالمقارنة بالعدد الكبير الذي دخل البلاد".
وأكد أن "الحكومة أعلنت أنه سيتم طرد كل من لم يصحح وضعيته بشكل قانوني، كما قامت بوضع 80 منفذا جديدا بعضها دولي وطلبت من المهاجرين تصحيح وضعيتهم القانونية"، مشيرا إلى أنه "عندما أرادت تطبيق القانون والحد من الهجرة الفوضوية قامت زوبعة في السنغال ومالي وغامبيا وغينيا وغيرها".
وأكد أن كل الدول أصبحت اليوم تعاني من إشكالية الهجرة، مستدركا: "لكن ما يميز موريتانيا هو أن المهاجرين من الدول الإفريقية يدخلون من كل باب ولا توجد بوابات محددة للدخول ولا أي قيود لدخولهم إلى البلاد".
وسجل ولد محمد فال، أن كل دول المنطقة أصبحت "دركية لأوروبا"، مبينا أن أوروبا جندت الجميع وأغرقت الدول المطلة على البحر بالمهاجرين الأفارقة.
ويرى أن "الانعكاسات السلبية على موريتانيا هي التي حركت وتيرة عملية الاعتقال والترحيل"، لافتا إلى أن "الانعكاسات السلبية لارتفاع وتيرة الهجرة غير النظامية من قبيل انتشار المخدرات والسرقة والسطو، وانعدام الأمن، وظهور سلوكيات جديدة أثرت على السكينة العامة للمجتمع".
وخلص ولد محمد فال، إلى أن “الحكومة تتعرض لضغط كبير من الشعب الموريتاني جراء الانعكاسات السلبية الناتجة عن فوضى الهجرة غير النظامية”، مؤكدا أن "الموريتانيين يتخوفون من تراجع الحكومة عن هذه الإجراءات؛ لأن الوضع لم يعد يحتمل".