جهاز الردع.. لماذا يعد اللاعب الأخطر في معركة السيطرة على طرابلس؟

داود علي | منذ ٢٠ ساعة

12

طباعة

مشاركة

بين شوارع طرابلس المتوترة، وفي زحمة الاشتباكات والاصطفافات الحادة، عادت العاصمة الليبية إلى حافة الفوضى من جديد منذ مقتل رئيس جهاز دعم الاستقرار عبد الغني الككلي الملقب بـ “غنيوة” في 12 مايو/أيار 2025.

واشتعل غضب الفصائل المسلحة التي باتت ترى في كل تحرك حكومي محاولة لإعادة رسم موازين القوة داخل المدينة، ما دفع وزراء في حكومة الوحدة الوطنية لتقديم استقالاتهم احتجاجا على الضغوط السياسية المتصاعدة، وتهديد المليشيات بالتصعيد.

وبدوره، تحرك رئيس حكومة الوحدة عبد الحميد الدبيبة، في محاولة محفوفة بالمخاطر لإعادة هندسة المشهد الأمني عبر قرارات تستهدف حل عدد من التشكيلات المسلحة، بما فيها أجهزة كانت حتى الأمس القريب جزءا من منظومة توازن الرعب في العاصمة.

اتفاق اللجنتين

وفي قلب هذه المواجهة المعقدة، يصعد اسم جهاز الردع لمكافحة الجريمة والإرهاب بقيادة عبد الرؤوف كارة، بصفته اللاعب الأكثر استعدادا لخوض المواجهة. 

ومع تواتر أنباء عن استنفار غير مسبوق لقوات الجهاز، وتحركات حثيثة لفرض السيطرة على مواقع إستراتيجية في طرابلس، تبرز مخاوف من انزلاق العاصمة إلى صدام أهلي مفتوح، يعيد رسم خريطة السلطة الأمنية خارج أي إطار شرعي.

فمحاولة الدبيبة لـ "تفكيك المليشيات" اصطدمت بجهاز الردع، الذي لم يعد مجرد فصيل مسلح، بل تحول خلال السنوات الأخيرة إلى بنية أمنية موازية تمتلك السلاح والنفوذ والقدرة على تعطيل قرارات الدولة بل ومساومة مؤسساتها السيادية. 

وهكذا، بينما يتحدث البعض عن عملية إعادة بناء أمنية، يرى آخرون أن العاصمة تقترب من أخطر مراحلها، متمثلا في صراع شرس على النفوذ قد يتحول إلى شرارة لحرب أهلية جديدة داخل طرابلس نفسها.

وفي خطوة تحمل أبعادا أمنية وسياسية معقدة، أعلن المجلس الرئاسي الليبي وحكومة الوحدة الوطنية عن اتفاق في 5 يونيو/ حزيران 2025، يقضي بتشكيل لجنتين، أمنية وحقوقية، للإشراف على ترتيبات أمنية جديدة ومراجعة أوضاع السجون في طرابلس. 

وقد لقي هذا الاتفاق ترحيبا واسعا من وزارتي الداخلية والدفاع، إضافة إلى جهاز الردع، وهو ما عُدَّ بحسب سياسيين ليبيين مؤشرا أوليا على توافق نادر بين مراكز النفوذ المسلحة في العاصمة المضطربة.

لكن هذا التوافق الظاهري سرعان ما تعرض لهزة سياسية مبكرة بعد اعتراض نائب رئيس المجلس الرئاسي عبد الله اللافي، الذي عد الخطوة "انفرادا بالقرار"، محذرا من أنها قد تعمّق الانقسامات وتنسف الجهود الهشة لتحقيق التهدئة السياسية في البلاد.

وبموجب القرارين الرسميين، تتوزع مهام اللجنتين على مسارين متوازيين، لجنة أمنية يقودها رئيس المجلس الرئاسي أو من يفوضه، بمشاركة ممثلين عن وزارة الدفاع والداخلية وجهاز الردع والمنطقة العسكرية في الساحل الغربي، مكلفة بوضع خطة شاملة لإخلاء طرابلس من المظاهر المسلحة. 

والثانية، لجنة حقوقية يترأسها قاضٍ بدرجة مستشار، تتقصى أوضاع السجون وظروف الاحتجاز وترفع التوصيات بشأن التجاوزات القانونية والانتهاكات الحقوقية.

مخاوف أعمق

ومع ذلك فإن بروز جهاز الردع في صلب هذا الترتيب الأمني الجديد يثير مخاوف أعمق بشأن طبيعة النفوذ العسكري الموازي الذي بات يتحكم في إدارة العاصمة الليبية. 

فرغم إعلان الجهاز ترحيبه الكامل بالاتفاق واستعداده للتعاون مع اللجان المشكلة، يرى مراقبون أن هذا الاصطفاف غير حقيقي، ويعد خطوة نحو تكريس سلطته كقوة أمنية شبه رسمية تمتلك اليد الطولى في ترتيبات العاصمة الأمنية والسياسية.

خاصة أنه في يوم 6 يونيو 2025، أعلن الدبيبة عزمه مخاطبة المجلس الرئاسي بشأن حل الأجهزة الأمنية غير النظامية، مبررا خطوته بأنها جزء من مشروع حكومته "لبناء الدولة والقضاء على المليشيات".

لكن هذا التوجه أثار موجة جدل واسعة في الأوساط الليبية، مع تصاعد التوترات بين رئيس حكومة الوحدة الوطنية وعدد من قادة الفصائل المسلحة، وفي مقدمتهم قائد جهاز الردع عبد الرؤوف كارة الذي بات في بؤرة الاستهداف السياسي والعسكري لتحركات الدبيبة الأخيرة.

ويرى العديد من المتابعين أن جوهر هذا المشروع لا يستهدف بالفعل تفكيك سطوة جميع المليشيات، بل يركز تحديدا على تحجيم جهاز الردع الذي بات يشكل قوة موازية للدولة.

وفي هذا السياق، يؤكد الباحث في المعهد الملكي للخدمات المتحدة، جلال حرشاوي، أن المسعى الحالي "يهدف بالدرجة الأولى إلى تدمير جهاز الردع تحديدا، لا إنهاء ظاهرة المليشيات برمتها".

وأشار لصحيفة "الشرق الأوسط" السعودية إلى أن قدرة حكومة الدبيبة على تفكيك التشكيلات المسلحة سلميا تكاد تكون معدومة، بالنظر إلى طبيعة التوازنات العسكرية داخل العاصمة.

ويستدل حرشاوي على ذلك بما حدث مع جهاز دعم الاستقرار، حينما تم إنهاء وجوده فعليا عبر مقتل رئيسه عبد الغني الككلي في عملية أشبه بـ"إعدام خارج القانون". 

وذلك إلى جانب تجارب سابقة جرت عبر مواجهات مسلحة عنيفة لتفكيك بعض الكتائب الكبرى مثل كتيبة النواصي قبل سنوات قليلة.

فهل ما يحدث من إدماج لجهاز الردع رسميا في ترتيبات الأمن، يتم لبناء مؤسسات دولة، أم أنه يعمق من ظاهرة عسكرة العاصمة، ويدفع نحو تثبيت سلطة أمر واقع يصعب تجاوزها مستقبلا؟

وفي كل الأحوال، فإن الدور المتنامي لجهاز الردع في قلب ترتيبات طرابلس يضع العملية السياسية بأكملها أمام اختبار صعب، تختلط فيه تقديرات الأمن بالمصالح السياسية، على نحو قد يهدّد فرص أي تسوية شاملة في ليبيا خلال المرحلة القادمة.

جهاز الردع

ونشأ جهاز الردع عام 2012، في المرحلة التي أعقبت سقوط نظام معمر القذافي، عندما كان مجرد سَرِية محلية تابعة للمجلس العسكري في بلدية سوق الجمعة شرقي طرابلس، ومنذ ذلك الوقت يقوده كارة، المعروف بانتمائه السلفي. 

لكن هذه النواة العسكرية الصغيرة سرعان ما تحولت إلى قوة نظامية تحمل اسم "قوة الردع الخاصة"، وتلقت لاحقا غطاء رسميا من وزارة الداخلية بحكومة الإنقاذ.

وفي عام 2018، أعاد المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني هيكلة القوة ضمن كيان أمني جديد أطلق عليه اسم "جهاز الردع لمكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب"، مانحا إياه صلاحيات غير مسبوقة. 

أبرزها صفة الضبط القضائي، وحق مصادرة الأموال والممتلكات، ومراقبة الاتصالات ومواقع التواصل الاجتماعي، وتعقب شبكات الجريمة والإرهاب، والمشاركة في تنفيذ السياسة الأمنية للدولة، إلى جانب تخصيص مصدر تمويل مستقل له خارج الأطر التقليدية للموازنة العامة.

ومنذ ذلك الحين، تحول الجهاز إلى مؤسسة أمنية موازية، تمتلك سلطات تنفيذية، دون خضوع حقيقي للمساءلة القضائية أو الرقابة المؤسسية.

ويتخذ الجهاز من مجمع معيتيقة شمال العاصمة مقرا رئيسا؛ حيث يفرض سيطرته على مطار معيتيقة المدني (المنفذ الجوي الوحيد العامل في طرابلس) إضافة إلى القاعدة الجوية والمستشفى العسكري المحيطين بالمجمع. 

ويقع في داخله سجن معيتيقة المعروف رسميا باسم "مؤسسة الإصلاح والتأهيل"، وهو أحد أكثر السجون إثارة للجدل في البلاد.

وتحتجز داخله قيادات من تنظيم الدولة، إلى جانب عدد غير معلوم من المدنيين، من بينهم نساء وأطفال، بعضهم لم تعرض قضاياهم على القضاء، بحسب تقارير أممية موثقة.

وتوسع نفوذ الجهاز على نحو لافت بعد مواجهات مسلحة مع كتيبة ثوار طرابلس في يوليو/تموز 2022؛ إذ تمكن من بسط سيطرته على أحياء إستراتيجية، امتدت من معقله التقليدي في سوق الجمعة وطريق الشط، وصولا إلى مناطق طرابلس المركز، والفرناج، وعين زارة.

وبفضل هذا التمدد العسكري والسياسي، يفرض الجهاز اليوم نفوذه على مجموعة مؤسسات حيوية، تشمل مصرف ليبيا المركزي، والمؤسسة الوطنية للنفط ومبنى الإذاعة والتلفزيون في زاوية الدهماني، ووزارة الخارجية، وجامعة طرابلس، وعدة مقرات وزارية ومرافق خدمية أخرى.

بهذه البنية، لم يعد الجهاز مجرد تشكيل أمني، بل تحول إلى جهاز سيادي بحكم الأمر الواقع، يمتلك أدوات الرقابة، والتنفيذ، والردع، ويتغلغل في مفاصل الدولة، في ظل غياب توازن مؤسسي حقيقي. 

وهو ما يجعل من تفكيكه أو حتى تحجيمه، مهمة شديدة الخطورة على استقرار العاصمة، وعلى مستقبل العملية السياسية الليبية برمتها.

شريك إجباري

وفي تعليقه على هذه التطورات، أكد الصحفي الليبي عمر الحاسي أن "الحديث عن نهاية الأزمة في طرابلس مجرد وهم مؤقت".

وأضاف لـ"الاستقلال" أن ما يجرى حاليا هو "مرحلة إعادة تموضع خطرة للأطراف المتصارعة، بانتظار لحظة سياسية أو أمنية تعيد فتح باب الاشتباك من جديد".

وأكد الحاسي أن "الهدوء الحالي في العاصمة لا يعكس انفراجا حقيقيا، بل أقرب ما يكون إلى هدنة معلقة فوق برميل بارود". 

وحذر من أن "أي خطأ في تقدير اللحظة المقبلة، سواء من طرف حكومة الدبيبة أو من خصومها المسلحين، قد يشعل شرارة الانفجار مجددا، ويعيد العاصمة إلى مربع المواجهة المسلحة".

وأشار إلى أن “منح جهاز الردع دورا رسميا في لجنة الترتيبات الأمنية يعزز موقعه كشريك إجباري في أي تسوية قادمة بشأن أمن العاصمة”.

وهو "ما يهدد فرص بناء مؤسسات أمنية موحدة تخضع للسلطة المدنية، ويفتح الباب أمام استمرار هيمنة الجماعات المسلحة على القرار الأمني".

وأضاف: “الأخطر من ذلك أن الشارع الطرابلسي بدأ يشعر بأنه بات خارج المعادلة تماما، كما يحدث في سوق الجمعة”؛ إذ تتواصل المظاهرات المطالبة بإسقاط حكومة الدبيبة، ورفض أي صفقات أمنية تضفي شرعية على الفصائل المسلحة، كما عبر عن ذلك مسؤولون وناشطون، أعلنوا صراحة أن أي اتفاق مع جهاز الردع لا يمثلهم.

واختتم الحاسي بالقول: إن "بقاء الجماعات المسلحة كأطراف حاكمة فعليا، في ظل غياب جيش موحد وشرطة وطنية، وتربص من (اللواء الانقلابي في الشرق خليفة) حفتر وحلفائه، يجعل من انفجار الوضع مجرد مسألة وقت".