شريكة أم ضعيفة.. لماذا تعجز حكومة لبنان عن مكافحة تجارة الأدوية المغشوشة؟

"ضخ الأدوية المغشوشة بالسوق تحتاج لشبكة مترابطة من المتعاونين"
ظاهرة الأدوية المغشوشة في لبنان تشكل "تجارة نشطة ومربحة" تديرها شبكات وأفراد لدى بعضهم صفة حكومية رسمية، همهم الوحيد تحقيق مكاسب مالية ضخمة على حساب المرضى الذين يتحولون إلى "فريسة سهلة" لهؤلاء.
فمنذ اندلاع الأزمة الاقتصادية في لبنان عام 2019، نمت تجارة الأدوية غير الشرعية والمغشوشة تزامنا مع انقطاع الأدوية؛ بسبب شح العملات الأجنبية.
"أدوية مغشوشة"
وغزت الأدوية المغشوشة السوق اللبنانية وباتت رائجة، فيما بقيت الحكومة عاجزة عن وضع حد نهائي لظاهرة تهريب الأدوية المغشوشة والفاسدة؛ نظرا لتداعياتها الكارثية على صحة المواطنين وسلامتهم، ولما تمثله من تهديد مباشر للأمن الصحي والصيدلاني في البلاد.
وفي فضيحة ليست الأولى من نوعها في لبنان، فقد أوقفت السلطات متورطين في ملف تهريب أدوية مغشوشة، ضمن شبكة منظمة من الفساد والإهمال تمتد من المعابر الحدودية إلى بعض الصيدليات والمرافق الرسمية.
ومن بين الأدوية المغشوشة، علاجات مخصصة لمرضى السرطان، كانت تُستبدل بأدوية وزارة الصحة ثم تباع بأسعار مرتفعة، بينما تسلم للمريض أدوية مزورة.
وجاءت هذه التوقيفات، بعدما سلط تحقيق استقصائي أجرته قناة "الجديد" المحلية وبثته في 5 يونيو/ حزيران 2025، الضوء على هذه القضية؛ حيث ذكر وجود شبكات تهريب أدوية مزورة لعلاج أمراض خطيرة، تقدر قيمتها بـ40 مليون دولار.
وذكر التحقيق الاستقصائي أن ماريا فواز، زوجة الملازم في الأمن العام محمد خليل، هي "بطلة تهريب دواء السرطان في لبنان"، بعد اتهامها بالاحتيال على مجموعة من رجال الأعمال بمبلغ يتخطى 30 مليون دولار في صفقات أدوية مشبوهة وتهريبها عبر مطار رفيق الحريري الدولي.
وأفادت وسائل إعلام محلية، بأن زوجة الضابط غادرت البلاد إلى جورجيا بعد أن كانت تدير صيدلية في منطقة حي الماضي بالضاحية الجنوبية معقل حزب الله، وهي واحدة من عدد الصيدليات التي أغلقتها القوى الأمنية أخيرا.
كما تبين من خلال البحث أن فواز كانت قائمة على مبادرة للتبرع بالأدوية، وتعمل مع جمعيات تعنى بتوزيع الدواء، وفق قناة "الجديد".
وعرض التحقيق ما سماه "الشاهد الملك" وهو لامرأة قالت إنها تتلقى الدواء المغشوش من مسؤولين نافذين في الدولة اللبنانية، يقومون بأنفسهم بتوصيل الدواء إلى بيتها.
وشدد معدو التحقيق على أن الهدف منه هو معرفة عبر تحقيقات القضاء من هم المسؤولون الكبار في الدولة الذين يتسترون ويتعاملون مع "مافيا الدواء"، خاصة أن السلطات ألقت القبض على متعاونين كانوا يعملون مع "ماريا فواز" في توزيع الدواء ونقل الأموال لها.
وأمام الضغط الشعبي والجدل الكبير في الشارع، فتح القضاء اللبناني تحقيقات موسعة في هذه القضية.
ومع تحرك السلطات، اكتشفت مغادرة ماريا فواز لبنان، لكن زوجها لم يتمكن من الهروب ويخضع في الوقت الراهن للتحقيقات.
والمتورط الرئيس في الملف -الضابط محمد خليل- هو شقيق النائب الحالي ووزير المالية السابق علي حسن خليل، وهو أيضا المعاون السياسي لزعيم حركة "أمل" الشيعية نبيه بري الذي يشغل أيضا رئاسة البرلمان.

شبكة كبيرة
وأثيرت تساؤلات عريضة بشأن مدى تورط النائب نفسه ومدى اتساع هذه الشبكة، خاصة أن التحقيق الاستقصائي تمكن من جمع بعض خيوط شبكة الأدوية المغشوشة والتي تنوعت بين أصحاب نفوذ ووسطاء ورجال أعمال ومسوقين.
وعلى الفور عقدت لجنة الصحة النيابية اجتماعا موسعا، شارك فيه وزراء الصحة والعدل والدفاع والداخلية، إلى جانب قيادات من الجيش والجمارك، وتم خلاله وضع خارطة طريق لمعالجة الملف المتعلق بتفشي الأدوية المزورة والمهربة في السوق اللبناني.
وتنبع أهمية متابعة القضية وتوقيف المتورطين مهما كانت صفتهم، نظرا لكون ملف الأدوية المغشوشة لا يتعلق فقط بالغش التجاري، بل يمس جوهر النظام الصحي في البلاد، ويعرض حياة آلاف المرضى للخطر، ويهدّد سلامتهم.
وذكرت تقارير صحفية أنه جرى توقيف أربعة أشخاص، بينهم الضابط محمد حسن خليل ونقيب في قوى الأمن الداخلي لم يعرف اسمه، إلى جانب اثنين من تجار الأدوية.
وتبيّن أنه من أخطر ما تم كشفه في هذا الملف، أن بين الأدوية المغشوشة علاجات مخصصة لمرضى السرطان، كانت تُستبدل بأدوية وزارة الصحة ثم تُباع بأسعار مرتفعة، بينما تُسلم للمريض أدوية مزورة لا تحتوي على المواد الفعالة.
بعد تقييم شامل، تبيّن أن كميات كبيرة من الأدوية التي دخلت البلاد خلال تلك الفترة كانت غير مطابقة من حيث تاريخ الصلاحية، ولا تحمل أي إثبات على احتوائها لمواد فعالة، بحسب ما أظهرته نتائج الفحوصات المخبرية.
إن ضبط وفك الشبكات غير الشرعية، والصيدليات المخالفة التي تشوه صورة غالبية الصيدليات الشرعية التي تلتزم بقوانين وقيود المهنة، تعكس مدى وجود انطلاقة جدية وعملية لمكافحة ظاهرة الأدوية المهربة والمزورة، التي تغزو السوق اللبناني.
لا سيما أن "مافيا الأدوية" ضمَّت شخصيات متنفذة ومستفيدة من الأزمة في هذا القطاع وغياب المحاسبة في لبنان.
ويؤكد نواب لبنانيون أن حجم الأدوية المهربة والمزورة، "يوازي ثلث حجم مبيعات القطاع".
ولهذا أجرت الأجهزة الأمنية جملة مداهمات، أبرزها مداهمة شقة في منطقة برمانا، ضبطت داخلها كميات كبيرة من الأدوية المزورة والمهربة، ما أدى الى كشف شبكة منظمة تضم نحو 70 صيدلية في مختلف المناطق متورطة في بيع وتوزيع الأدوية المهربة والمزورة.
وتلت العملية، مداهمة أخرى لصيدلية كبرى في بيروت، ضبط فيها نحو 1700 علبة دواء غير شرعي، وفق صحيفة "النهار" المحلية.

"ضعف الرقابة"
وضمن هذا السياق، قال الصيدلاني سليم منصور، الذي يملك صيدلية في بيروت: إن "تجارة الأدوية المغشوشة والمنتهية الصلاحية في السوق السوداء بلبنان هي تجارة نشطة منذ سنوات وتتداخل فيها الجهات المتورطة من مسؤولين وعناصر أمن فاسدين وتجار وشركات أدوية خاصة".
وأضاف منصور لـ"الاستقلال" أن "ما حدث هو نتيجة غياب المعالجة الصحيحة لكل شحنة دواء تدخل لبنان والتي يجب أن تكون مسجلة رسميا في وزارة الصحة، وتخضع لفحوصات مختبرية دقيقة”.
واستدرك موضحا أن “غياب تلك المعايير هو ما سمح بنمو شبكات الغش والتهريب بمجال الأدوية، خاصة أن الدواء ينبغي إثبات مكوناته عبر تحاليل ومستندات رسمية تقدم إلى أجهزة الرقابة الشرعية”.
ولفت منصور إلى أن “عمليات التهريب عبر الحدود والمطار سمح بدخول كميات كبيرة من الأدوية غير المسجلة والمجهولة المصدر، والتي تكون فيها فروقات بين المكونات المدونة على العلب وتلك في النشرة المرفقة، ما يؤكد أن هذه الأدوية مزورة ومغشوشة”.
وأكد منصور أن "عملية ضخ الأدوية المغشوشة في السوق عملية منظمة وليست بالسهلة؛ حيث لا تحدث إلا بوجود شبكة مترابطة من المتعاونين لتجاوز الرقابة الحكومية، علاوة على تسلم بعض الصيدليات هذه الأدوية دون كشف المختبرات المعتمدة من وزارة الصحة وبعد تزوير أوراق فحوصات مختبر جامعة بيروت العربية، وتزوير حتى توقيع وزير الصحة".
ورغم أن الصيدليات المرخصة هي المكان الآمن للمريض لشراء العلاج، يشتكي اللبنانيون من صعوبة الحصول عليها، خاصة أن أدوية الأمراض المستعصية كلها مستوردة؛ حيث توقفت السلطات الرسمية عن دعمها مما يضع حياة المرضى في خطر ويدفعهم للتعامل مع الأدوية في السوق السوداء وبأسعار قليلة.
وهنا يشير منصور إلى أن "الإصلاح في آليات الاستيراد والتوزيع الدوائي في لبنان هو الطريق الأمثل للقضاء على هذه الظاهرة المتجذرة؛ لأن اليوم إعادة الثقة بالصيدليات من قبل المواطن باتت مهمة ليست بالسهلة وتتطلب جهودا حكومية لضبط الشبكات وتجفيف منابع الاستيراد غير الشرعي لهذه الأدوية".
وأضعفت الأزمات المتعاقبة النظام الصحي في لبنان الذي يكافح للتعامل مع الاحتياجات الهائلة، في وقت تلقى فيه هذا البلد عام 2025 شحنات من مساعدات طبية أممية ومن فرنسا وتركيا والعراق، وسلوفاكيا وبولندا.
كما أن تعرض لبنان إلى عدوان إسرائيلي منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023 ونزوح عشرات آلاف السكان من قرى في الجنوب، أدى إلى تصاعد عمليات بيع الأدوية المغشوشة.
ويأتي ذلك، رغم أن السلطات اللبنانية أكَّدت انتظام توافر جميع الأدوية المسجلة لدى وزارة الصحة في السوق، وعدم فقدان أي صنف منها خلال الحرب الأخيرة، ما يلغي مبررات التهريب.
وخسر قطاع الصيدلة منذ بدء العدوان الإسرائيلي على لبنان، نحو 300 صيدلية دمرت بشكلٍ كامل أو جزئي، القسم الأكبر منها في الجنوب ومن ثم الضاحية الجنوبية في البقاع.
فيما أُقفلت 800 صيدلية أخرى لوجودها في أماكن معرّضة للاستهداف، إضافة إلى نزوح أصحابها، وفق تصريحات صحڤية لنقيب صيادلة لبنان، جو سلوم في أكتوبر 2024.
وأمام ذلك، دعا رئيس الهيئة الوطنية الصحية الاجتماعية" إسماعيل سكرية، في تصريحات صحفية إلى تفعيل دور المختبر المركزي المعطل منذ سنوات، وإعادة تقييم الأدوية في السوق، حفاظا على صحة المواطن.