ما سر اهتمام الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالتعاون مع سوريا الجديدة؟

"سوريا تسعى للاستفادة من الطاقة النووية السلمية بمجال البصمة الوراثية للاستخدامات الجنائية"
منذ سقوط نظام بشار الأسد، تسعى الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى مدّ جسور التواصل مع القيادة الجديدة في دمشق بهدف منح مفتشي الأمم المتحدة إمكانية الوصول الفوري إلى المواقع النووية السابقة.
وقال المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي، من دمشق عقب لقاء الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع: إن الوكالة تهدف إلى "توضيح بعض الأنشطة التي جرت في الماضي، ونرى أنها ربما كانت مرتبطة بالأسلحة النووية".
وأضاف غروسي لوكالة أسوشيتد برس الأميركية في 5 يونيو/حزيران 2025 أن الحكومة السورية، "ملتزمة بالانفتاح على العالم، وبالتعاون الدولي"، معربا عن أمله في الانتهاء من عملية التفتيش خلال الأشهر المقبلة.

التعاون النووي السلمي
وبيّن مدير الوكالة أن اللقاء مع الشرع أثمر عن توقيع اتفاقيات جديدة ضمن مبادرتي "الذرة من أجل الغذاء" و"أشعة الأمل"، مضيفا أن هذه الاتفاقيات ستُسهم في تعزيز التعاون التقني والإنساني بين الطرفين.
وأكد غروسي أن هذه الخطوات تمثل انطلاقة جديدة في مسار التعاون النووي السلمي بين الوكالة وسوريا، وتفتح الباب أمام مرحلة أكثر انفتاحا وتقدما في العلاقة بين الجانبين.
وصرّح بأن سوريا ستدرس على الأرجح إمكانية إنشاء مفاعلات نووية صغيرة، وهي أقل تكلفة وأسهل استخداما من نظيرتها التقليدية الكبيرة.
وقال: إن الرئيس الشرع أبدى اهتماما باستغلال الطاقة النووية للبلاد مستقبلا، متسائلا: “لمَ لا؟”
وتعود آخر زيارة لفريق من الوكالة الدولية للطاقة الذرية لبعض المواقع المهمة إلى عام 2024، أثناء وجود بشار الأسد في السلطة.
ولا سيما أنه كان يشتبه بأن سوريا، في عهد الأسد كانت تدير برنامجا نوويا سريا واسع النطاق، بما في ذلك مفاعل غير معلن بنته كوريا الشمالية في محافظة دير الزور شرق البلاد.
وقوبل سعي الوكالة إلى تأمين الوصول إلى المواقع المرتبطة بالبرنامج النووي السوري بانفتاح إيجابي من القيادة الجديدة.
وراهنا، يعتزم المفتشون الأمميون العودة إلى منشأة المفاعل في دير الزور، بالإضافة إلى ثلاثة مواقع أخرى ذات صلة.
وتشمل المناطق الأخرى الخاضعة لضمانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية مفاعلا نيوترونيا مصغرا في دمشق.
وكذلك منشأة في حمص لمعالجة يورانيوم الكعكة الصفراء وهو شكل مركز من خام اليورانيوم يجري إنتاجه أثناء المراحل الأولى من معالجة اليورانيوم الخام.
كما أن هذه المادة تُستخدم كمرحلة وسيطة في صناعة الوقود النووي؛ حيث تبلغ نسبة اليورانيوم في الكعكة الصفراء بين 70 و90 بالمئة.
وسبق زيارة غروسي، إصدار وزارة الخارجية البريطانية بيانا في 7 يونيو 2025 قالت فيه: “إن المملكة المتحدة ترحب بالتزام الحكومة السورية القوي بقلب صفحة التاريخ، وعزمها على ضمان تدمير برنامج الأسلحة الكيماوية الذي يعود لعهد الأسد تمامًا”.
ورحبت الوزارة بما سمته الدعم العملياتي واللوجستي الذي قدَّمته سوريا لزيارات منظمة “حظر الأسلحة الكيماوية”، والتزامها بالتواصل مع المجتمع الدولي.
بدورها، قالت الممثلة السامية للأمم المتحدة لشؤون نزع السلاح، إيزومي ناكاميتسو، إن الواقع السياسي الجديد في سوريا يتيح فرصة مهمة لحل القضايا العالقة منذ فترة طويلة حول برنامج الأسلحة الكيماوية السوري.
وأضافت أن فريقا من الخبراء الفنيين من الإدارة التقنية لمنظمة “حظر الأسلحة الكيماوية” زار دمشق في مارس 2025.
جاء ذلك خلال إحاطتها لمجلس الأمن الدولي، بجلسته التي انعقدت في 5 يونيو 2025، بشأن تنفيذ القرار “2118” (الصادر عام 2013) المتعلق بإزالة برنامج الأسلحة الكيماوية السوري.
وتأتي هذه الزيارة، بحسب المسؤولة الأممية، لبدء العمل على إنشاء وجود دائم للمنظمة في سوريا والبدء بالتخطيط المشترك لإيفاد فرق إلى مواقع الأسلحة الكيماوية.
واجتمع الفريق مع ممثلين للسلطات المؤقتة، منهم وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، إضافة إلى عقد لقاءات تقنية مع خبيرين سوريين، وجمع معلومات لم تكن السلطات السابقة قد كشفت عنها، بحسب ما أفادت به المسؤولة الأممية.
وأشادت ناكاميتسو بالتزام السلطات الجديدة في سوريا بالتعاون الكامل والشفاف مع المنظمة وأمانتها الفنية.
ومنظمة حظر الأسلحة الكيماوية، وهي وكالة دولية مقرها لاهاي تضم 193 دولة عضوًا، مكلفة بتنفيذ اتفاقية بشأن منع هذه الأسلحة لعام 1997.

"منفعة متبادلة"
يرى الباحث السوري عمار جلو أن “توقيت فتح الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومن خلفها الدول التي تخشى التوسع النووي، قنوات اتصال مع الدولة السورية الجديدة بشكل مبكر يعود لوجود محاولات سابقة لسوريا لتطوير أنشطة نووية عبر مفاعل الكبر بريف دير الزور”.
وأوضح لـ "الاستقلال" أن هذه الخطوات تأتي اليوم بعد سنوات من عدم شفافية نظام الأسد المخلوع المطلقة بشأن امتلاك السلاح النووي.
وأضاف جلو: "الوكالة الدولية للطاقة الذرية تبحث اليوم الدخول في الساحة السورية لمعرفة طبيعة الجهود التي قادها نظام الأسد في السابق بمساعدة عدد من حلفائه بشأن السلاح النووي".
وكانت الطائرات الإسرائيلية بدأت شن غارات حربية مكثفة في 5 سبتمبر/أيلول 2007، على منطقة الكبر في دير الزور، للقضاء على منشأة للأسلحة النووية.
وقد نشرت صحيفة “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية، تفاصيل نشرت لأول مرة في 2019 عن اكتشاف الموساد (جهاز الاستخبارات الإسرائيلي) للمفاعل النووي في دير الزور أظهرت وجود عينات لليورانيوم، وفق الرواية الإسرائيلية، وعليه قررت تل أبيب شن هجمات عسكرية لتدميره.
وقال جيش الاحتلال الإسرائيلي آنذاك في بيان: إن نشر تفاصيل العملية، هو رسالة بأن إسرائيل “لم ولن تسمح” ببناء قدرات تهدد وجوده.
وعقب ذلك، قالت الوكالة الدولية للطاقة الذرية: إن المفاعل المذكور "غير مُهيأ لإنتاج الكهرباء"، مما أثار مخاوف من سعي دمشق لتطوير سلاح نووي هناك.
ولفت جلو إلى أن "هناك رغبة من الوكالة بالتحقق من طبيعة المشاريع في زمن الأسد والتي تخص السلاح الذري وستصدر تقارير بشأن ذلك للمجتمع الدولي".
ورأى أن "تعاون الدولة السورية مع الوكالة الدولية بهذا التوقيت يعطي إشارات إيجابية للمجتمع الدولي ودول الجوار للمضي قدما بحل كل القضايا الشائكة والمثيرة للقلق بشأن الأنشطة النووية السابقة، وضمان عدم تطوير النوايا لنشاطات غير معلنة".
واستدرك قائلا: "يمكن للوكالة الدولية للطاقة الذرية في ظل هذا التعاون مساعدة سوريا الجديدة في مسائل الطاقة والكهرباء ودراسة إمكانية الاستفادة من أي برنامج نووي سلمي مدني في مجال الطاقة مستقبلا بما يعني أن هناك منفعة متبادلة لكلا الطرفين".
ورأى جلو أن "تحركات الوكالة الدولية تشي برغبتها في الإشراف على أي نشاط نووي بحثي محتمل، خاصة أن الطاقة النووية السلمية تسهم في إنتاج الكهرباء، وتساعد في تحقيق توازن في مصادر الطاقة في البلاد".
ومضى يقول: "إن الوكالة يمكنها نقل معدات الطب النووي إلى سوريا الجديدة والمساعدة في إعادة بناء البنية التحتية للعلاج الإشعاعي وعلاج الأورام خاصة مع وجود نظام رعاية صحية بسوريا أضعف بشدة خلال 14 عاما خلت".

"معادلة الاستقرار"
ولم يعلن نظام بشار الأسد المخلوع عن طبيعة البرنامج الكيميائي الكامل الذي عمل عليه منذ عقود.
ولا سيما أنه استمر في استخدام الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين في البلاد لقمع الثورة آنذاك، على الرغم من الانضمام إلى اتفاقية حظرها في عام 2013.
وفي أعقاب هجوم لنظام الأسد البائد بغاز السارين على ريف دمشق، أدى إلى مقتل مئات الأشخاص في عام 2013، انضمت سوريا حينها إلى منظمة حظر الأسلحة الكيميائية.
وذلك بموجب صفقة بين الولايات المتحدة وروسيا حليفة الأسد وقتها، وقد جرى تدمير 1300 طن من الأسلحة الكيميائية والمواد الأولية؛ إذ أجبر القرار الدولي 2118 الصادر في سبتمبر 2013 سوريا على العمل على تفكيك كامل ترسانتها الكيميائية بإشراف بعثة مشتركة من الأمم المتحدة ومنظمة حظر هذا النوع من الأسلحة.
وخاصة أن ثلاثة تحقيقات دولية خلصت إلى أن قوات الأسد استخدمت غاز الأعصاب السارين وقنابل الكلور في هجمات متفرقة على مناطق سورية إبان سنوات الثورة، أسفرت عن مقتل وإصابة الآلاف.
وكان من المفترض أن تخضع سوريا لعمليات تفتيش كجزء من عضويتها بمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية لكن الأخيرة منعت لأكثر من عقد من الزمان من الكشف عن النطاق الحقيقي لبرنامج نظام الأسد في هذا المجال.
إلا أن التحول السياسي في سوريا بسقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024 كان بمثابة "فرصة جديدة وتاريخية للحصول على توضيحات بشأن نطاق هذا البرنامج"، وفق ما قال رئيس منظمة حظر الأسلحة الكيميائية فرناندو أرياس في 5 مارس 2025.
ولا سيما أن مفتشي منظمة حظر الأسلحة الكيميائية خلصوا إلى أن مخزون سوريا المُعلن عنه لم يعكس الوضع على الأرض بدقة، ويرغبون الآن في زيارة نحو 100 موقع يحتمل ارتباطها ببرنامج الأسد الكيميائي الذي استمر عقودا.
وقد تعهد وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، بالتزام سوريا بالتخلص سريعا مما تبقى في البلاد من إرث نظام الأسد من الأسلحة الكيميائية.
وشارك الشيباني في اجتماعات مغلقة خلال الدورة الـ 108 للمجلس التنفيذي لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية في لاهاي في 5 مارس/ آذار 2025، كأول وزير خارجية سوري يتحدث لهذه المنظمة.
وأكد أن سوريا “مستعدة لحل هذه المشكلة المستمرة منذ عقود والتي فرضها علينا النظام السابق”.
وسبق أن أكدت الممثلة السامية للأمم المتحدة لشؤون نزع السلاح إيزومي ناكاميتسو خلال إحاطة لمجلس الأمن في 7 مارس 2025 أن الواقع السياسي الجديد في سوريا يمثل فرصة للحصول على توضيحات طال انتظارها بشأن برنامج الأسلحة الكيميائية السوري.
وضمن هذه الجزئية، أشار الباحث السوري مؤيد قبلاوي إلى أن "مراهنة سوريا على الاستقرار الإقليمي أمنيا يتطلب منها شفافية وعدم وجود أي أسلحة كيميائية تتبع للنظام البائد، ولهذا تريد القيادة السورية الجديدة الانخراط بالمنظومة الدولية لنزع هذه الأسلحة".
ولفت في تصريحات تلفزيونية إلى أن “الوكالة الدولية للطاقة الذرية يمكن أن تساعد سوريا نتيجة التعاون معها من خلال الاستفادة من الطاقة النووية السلمية بمجال البصمة الوراثية في الاستخدامات الجنائية”.
وهو ما يمكن أن "يسهم في مكافحة الإرهاب وكشف الملابسات، وكذلك في حفظ الأغذية، ما يعني أن دمشق ستعزز أبحاثها وقدرتها في هذا المجال".
ورأى أن “تعاون دمشق مع الوكالة في الكشف عن الأسلحة الإستراتيجية والتأكد مما إذا جرت عمليات تهريب لليورانيوم من سوريا إلى دول أخرى مثل إيران أو لبنان عقب سقوط الأسد أو وجود انبعاثات ما في بعض المواقع، لا يعني أن ذلك جاء نتيجة ضغوط سياسية”.
بل يأتي "تماشيا مع السياسة التي تنتهجها سوريا والمتمثلة بعدم الاستعداء والالتفات إلى بناء الاقتصاد والنهوض من جديد"، وفق تقديره.