حميدتي يحتل المثلث الحدودي... أين تنتهي خريطة الحرب وأجندة حفتر والإمارات؟

داود علي | منذ ٨ ساعات

12

طباعة

مشاركة

في تطور نوعي لرقعة الصراع داخل السودان، أعلنت مليشيا “الدعم السريع” بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي"، في 11 يونيو/ حزيران 2025، سيطرتها على المثلث الحدودي بين مصر والسودان وليبيا.

و"المثلث الحدودي" نقطة إستراتيجية حساسة تشكل عقدة طرق بين ثلاث دول، وتفتح بوابات واسعة أمام شبكات التهريب والسلاح والمقاتلين.

العملية التي وصفتها مصادر عسكرية سودانية بـ"الاجتياح المنسق"، لم تكن مجرد مكسب جغرافي طارئ، بل حملت في طياتها إشارات خطيرة إلى تورط مليشيات أجنبية في المعركة. 

وعلى رأس هذه المليشيات "كتيبة سبل السلام"، وهي تشكيل سلفي ليبي تابع بشكل مباشر إلى جهاز القيادة العامة في بنغازي، الخاضع لسلطة الجنرال الانقلابي خليفة حفتر.

ساحة مفتوحة

شهادات ميدانية وتوثيقات استخباراتية أشارت إلى وجود مشترك للدعم السريع وعناصر “سبل السلام” في المعركة الأخيرة داخل المثلث الحدودي، فيما بدا أنه أول انخراط مباشر لوحدات ليبية في الحرب السودانية، خارج إطار الدعم اللوجستي الذي كان يتهم به حفتر منذ اندلاع النزاع في أبريل/ نيسان 2023.

وفيما أعلنت قيادة حفتر اعتراضها على الاتهامات، فإن هذه التطورات تطرح تساؤلات ملحة عن طبيعة التحالف العسكري المستجد على تخوم الحدود الثلاثية.

فهل قرر حفتر الانتقال من الدعم غير المباشر إلى التدخل الميداني؟ وهل جاء هذا التصعيد بإيعاز إماراتي ضمن إستراتيجية إقليمية أوسع لتمكين الدعم السريع؟

وإلى أي مدى يمكن أن تتحول منطقة المثلث الحدودي إلى ساحة مفتوحة للمليشيات العابرة للحدود؟ وهل ما يحدث مجرد تقاطع مصالح أم بداية خريطة نفوذ جديدة في قلب الصحراء؟

وأعلن الجيش السوداني في 11 يونيو 2025، أن قواته اضطرت إلى إخلاء "المثلث الحدودي" بين السودان ومصر وليبيا، عقب هجوم واسع شنته الدعم السريع. 

لكن اللافت في البيان الرسمي للجيش، لم يكن فقط الاعتراف بفقدان السيطرة على هذه النقطة الإستراتيجية، بل الاتهام المباشر لقوات شرق ليبيا بقيادة حفتر بالتورط في العملية. 

إذ قال الجيش: إن "مليشيا آل دقلو الإرهابية" شنت الهجوم "بإسناد مباشر من قوات ليبية تابعة لحفتر، وتحديدا كتيبة ذات مرجعية سلفية" تدعى "سبل السلام"، فيما عده "انتهاكا غير مسبوق للقانون الدولي".

في المقابل، تباهت الدعم السريع في بيان عبر “تلغرام” بما سمته "تحرير المثلث الإستراتيجي"، مشيرة إلى أن هذا التقدم "سيكون له ما بعده على امتداد عدة محاور قتالية، لا سيما في الصحراء الشمالية". 

وأكدت أنها كبدت الجيش السوداني خسائر فادحة، واستولت على عشرات العربات القتالية.

رد الحكومة الموالية لحفتر (غير المعترف بها دوليا) لم يتأخر، إذ سارعت وزارة خارجيتها إلى نفي الاتهامات، عادّة ما ورد في بيان الجيش السوداني "مزاعم تمس أطرافا إقليمية". 

وبينما شددت على أن "حماية حدود ليبيا حق سيادي"، حاول البيان تهدئة التوتر قائلا إن ليبيا "تسعى لتجنيب المنطقة مزيدا من التصعيد". 

أما حكومة طرابلس، فذهبت إلى أبعد من ذلك، وترى أن "المجموعة المسلحة المشار إليها لا تتبع لوزارة الدفاع ولا تأتمر بأوامر رئاسة الأركان العامة".

لكن الجيش السوداني عاد ليؤكد أن هذا "التدخل المباشر لقوات حفتر" لا يمكن عده إلا "اعتداء سافرا على السودان، وامتدادا لمؤامرة إقليمية تدار على مرأى ومسمع من العالم"، في تصعيد لافت على مستوى الخطاب السياسي والعسكري.

مثلث إستراتيجي 

وبالعودة إلى تفاصيل الهجوم، تؤكد مصادر ميدانية متقاطعة أن كتيبة "سبل السلام"، المرتبطة بالقيادة العامة في بنغازي، كانت حاضرة ميدانيا في المعركة، إلى جانب وحدات من الدعم السريع. 

هذا الحضور يؤشر إلى مستوى جديد من التنسيق بين الطرفين، ويطرح تساؤلات خطيرة حول مدى عمق العلاقة بين حفتر وحميدتي، والأطراف الإقليمية التي تسهل هذا التقاطع العسكري العابر للحدود.

خاصة أنه في خضم التصعيد المتسارع، يبرز المثلث الحدودي بين السودان وليبيا ومصر كأحد أخطر النقاط الجغرافية التي أعادت رسم خرائط الاشتباك. حيث تقع هذه المنطقة الصحراوية شمالي مدينة الفاشر، العاصمة الإدارية لإقليم دارفور، والتي تعد آخر معقل رئيسي للجيش السوداني في الغرب. 

ومع استمرار حصار الدعم السريع للفاشر لأكثر من عام، ومحاولاته المتكررة لاجتياحها خلال الأسابيع الأخيرة، جاءت السيطرة على المثلث كضربة إستراتيجية مزدوجة تهدف إلى عزل الفاشر وتطويق ما تبقى من الوجود العسكري للجيش في الإقليم.

وتزامنا مع هذا الهجوم، أصدر حفتر أوامر برفع مستوى الاستعداد القتالي لقواته في مدينة الكفرة، أقصى جنوب شرق ليبيا، وبدأت وحدات تابعة له في تعزيز انتشارها قرب الحدود مع السودان وتشاد. 

وعلى رأس هذه الوحدات، برزت كتيبة "سبل السلام"، التي تشكل الذراع الأيديولوجية والعسكرية الأكثر ولاء للقيادة العامة في بنغازي، والمفضلة لدى حفتر للعمليات الخاصة والعابرة للحدود.

وتأسست كتيبة “سبل السلام” عام 2015 في الكفرة، مستندة إلى تركيبة قبلية بالأساس من أبناء قبيلة الزوية، مع خلفية عقائدية سلفية واضحة. 

وقد تشكلت تحت رعاية مباشرة من غرفة عمليات حفتر، لتعمل كقوة أمنية في البداية على ضبط الحدود والتصدي للتهريب، لكنها تطورت تدريجيا إلى وحدة قتالية شديدة التنظيم والانضباط. 

يقودها حاليا عبد الرحمن هاشم الكيلاني، وهو ضابط سابق في حرس الحدود، عمل ضمن تشكيلات مسلحة سلفية منذ عام 2012، ويعاونه ميدانيا كل من أحمد سعد أبو نخيلة وقيادات مرتبطة بفريق صدام خليفة حفتر، ما يعكس العلاقة المباشرة بين الكتيبة والقيادة العليا للجيش في الشرق الليبي.

بفضل هيكلها المغلق وتبعيتها العقائدية والعسكرية، مثلت “سبل السلام” الخيار الأمثل لتنفيذ المهام الحساسة، وهو ما يفسر مشاركتها المباشرة في الهجوم الأخير على المثلث الحدودي، بالتنسيق مع مليشيا الدعم السريع المدعومة إماراتيا. 

وتشير المعلومات إلى أن الكتيبة لم تكن طرفا مساعدا، بل شاركت بفعالية في التمهيد الميداني وتأمين مسارات التوغل عبر الصحراء، مستخدمة خبرتها الطويلة في شبكات التهريب والانتشار الخفي.

وهذه المشاركة ليست الأولى، فقد تورطت الكتيبة في اشتباكات سابقة على أطراف جبل العوينات، وأشير إلى دورها في ضبط طرق تهريب السلاح والمهاجرين والبضائع بين ليبيا والسودان وتشاد.

لكنها اليوم تنتقل إلى مستوى جديد؛ حيث تتحرك على خطوط النار بصفتها أداة تنفيذية ضمن تحالف إقليمي، يتجاوز مهام حماية الحدود ويتصل بمشاريع نفوذ وسيطرة ترتكز على تحالفات أيديولوجية ومصالح اقتصادية.

وبهذا الظهور، تمثل "سبل السلام" رأس الحربة الليبي في معركة السيطرة على غرب السودان، وتشير إلى تحول كبير في طابع الحرب، حيث تستبدل الوحدات النظامية بمليشيات عقائدية عابرة للحدود تتكامل تحت رعاية إقليمية، وتستخدم لإعادة رسم توازنات القوة في المناطق المضطربة من الجغرافيا الليبية والسودانية.

الهروب إلى ليبيا

في سياق توسع العمليات الميدانية لمليشيا حميدتي غرب السودان، ظهرت إشارات واضحة إلى تحول في أهداف الحرب بعد الهزائم التي مني بها.

إذ لم تعد المعركة تدور حول الخرطوم فقط، بل باتت ترتكز بشكل متزايد نحو غرب البلاد، وتحديدا إقليم دارفور، الذي يشكل العمق الاجتماعي والسياسي لحميدتي. 

هذا التحول لم يكن تكتيكيا فقط، بل يعكس، بحسب تقارير إعلامية واستخباراتية، مساعي لبناء واقع سياسي مواز، أشبه بالنموذج الليبي.

قناة "ليبيا الأحرار"، المعروفة بمناهضتها لحفتر، لفتت في تقرير بثته بتاريخ 5 فبراير/ شباط 2025 إلى أن “الدعم السريع” تسعى لتشكيل كيان حكومي في الغرب، يقابل حكومة الخرطوم، في مشهد يستدعي انقسام ليبيا نفسها بين الشرق الذي يسيطر عليه حفتر، والغرب الذي تديره حكومة الوحدة الوطنية. 

وأشارت القناة إلى أن خسائر الدعم السريع في الخرطوم وأم درمان دفعت حميدتي إلى توجيه ثقله السياسي والعسكري نحو دارفور، حيث يتمتع بقاعدة شعبية وقبلية قد تتيح له تثبيت نفوذ طويل الأمد هناك.

هذا التحول تزامن مع تقارير كشفتها صحيفة “سودان تربيون” نهاية يناير/ كانون الثاني 2025، أكدت أن الدعم السريع نقلت معدات ثقيلة وأسلحة متطورة من قاعدة السارة، الواقعة على الحدود مع تشاد، إلى عمق دارفور، في خطوة وصفها مراقبون بأنها “إعادة تموضع إستراتيجي لتحويل الإقليم إلى مركز ثقل ميداني وقيادي بديل”.

وفي تصريحات لافتة، أعلن عضو مجلس السيادة ومساعد قائد الجيش السوداني، ياسر العطا، أن "ما لا يقل عن 25 بالمئة من الدعم السريع هم مرتزقة أجانب، أدخلوا إلى البلاد عبر الحدود الليبية تحت إشراف مباشر من حفتر".

وأشار العطا خلال مؤتمر صحفي إلى أن هؤلاء العناصر يتلقون تدريبات وتسليحا من القوات الموالية لحفتر، إلى جانب عناصر من تشاد ودول إفريقية أخرى، في شبكة إمداد إقليمية معقّدة تخدم أهداف حميدتي على الأرض.

وتعززت هذه الرواية مع تقارير ميدانية صدرت في ديسمبر/ كانون الأول 2024، أكدت فرار عناصر من الدعم السريع إلى الأراضي الليبية بعد فشل هجمات على مواقع الجيش في دارفور. 

هذه العناصر، وفق ما نشرته القوة المشتركة السودانية، وجدت ملاذا آمنا في مدن تقع تحت سيطرة حفتر، وهو ما يشير إلى وجود تنسيق مسبق لتوفير ممرات انسحاب وتبديل للقوات.

دور إماراتي

اللافت أن بيانا رسميا صادرا عن القوة المشتركة السودانية أشار بوضوح إلى دور إماراتي فاعل في هذا الترتيب، مؤكدا أن أبوظبي كانت تحضر منذ شهور لإطلاق عمليات عسكرية من شرق ليبيا لدعم حميدتي، وإنقاذ قواته من الانهيار الكامل. 

وأضاف البيان أن هذه الخطط تم إحباطها جزئيا، لكن حجم التدخل يشي بأن المشروع الإماراتي في السودان يتجاوز حدود التمويل والدعم الدبلوماسي، ليدخل طور التخطيط الميداني المباشر بالتنسيق مع حفتر.

هذا التداخل بين الدعم الليبي والإماراتي للدعم السريع لا يمكن عزله عن تحولات أكبر في المشهد الإقليمي، حيث تسعى أطراف مؤثرة إلى إعادة صياغة موازين القوى في السودان عبر دعم أمراء حرب على حساب المؤسسات، مستفيدة من أزمة الدولة السودانية وتفكك الجغرافيا السياسية للبلاد.

من جانبه، أكد الصحفي السوداني محمد نصر، أن السيطرة على المثلث الحدودي “لم تكن لتتم دون وجود تفاهمات واضحة بين أبوظبي والقيادتين العسكريتين في شرق ليبيا وغرب السودان”.

وقال نصر  لـ"الاستقلال": إنه "علينا أن نلاحظ تزامن تقدم قوات الدعم السريع من جهة، مع تحريك وحدات عسكرية تابعة لحفتر في الكفرة، وتحديدا كتيبة سبل السلام، التي لا تتحرك إلا بأوامر عليا، وتحت غطاء سياسي وأمني معروف المصدر".

وأوضح أن "هذا النمط من التنسيق يذكرنا بالعمليات التي نفذتها الإمارات سابقا عبر وكلاء محليين في اليمن، حيث يتم توفير الغطاء الجوي أو الدعم اللوجستي من الخارج، بينما تتولى القوات المتحالفة الميدانية تنفيذ المهمة على الأرض".

ولفت نصر إلى أن "الإمارات لا تدعم حفتر وحميدتي لأسباب أيديولوجية فقط، بل لأهداف إستراتيجية تتعلق بالتحكم في ممرات التهريب والموارد".

وأشار إلى أن "المثلث الحدودي ليس مجرد صحراء، بل هو مفصل جغرافي حساس تمر عبره شبكات التهريب من الذهب والوقود والبشر والسلاح، ومن يسيطر عليه يتحكم في واحدة من أهم بوابات العبور في شمال إفريقيا".

وشدد نصر على أن "هذا التموقع يخدم الإمارات في أكثر من ملف، سواء فيما يتعلق بتهريب الذهب السوداني، أو في ضبط ممرات حركة السلاح، أو حتى في الضغط غير المباشر على مصر عبر خاصرتها الجنوبية".

تحالف ثلاثي

وعن سبب تورط كتيبة سلفية مثل "سبل السلام" في هذا التحالف، أوضح نصر أن “الإمارات تعتمد على القوى التي تحمل طابعا أيديولوجيا منضبطا وقابلا للتوظيف العقائدي والسياسي”.

ونبه إلى أن "الإمارات، رغم عدائها المعلن للإسلام السياسي، تميل إلى توظيف الجماعات السلفية التقليدية في صراعاتها الخارجية، خصوصا تلك التي تملك بنية قبلية قوية وقابلية للتجنيد والانضباط، مثل كتيبة سبل السلام".

وبين أن "العلاقة بين هذه الكتائب والجهاز الأمني الإماراتي ليست مباشرة بالضرورة، لكنها تمر عبر قنوات تمويل وتسليح وإشراف غير مرئي، تديرها غرف عمليات غير رسمية داخل ليبيا."

وأكد نصر أن “هذا التحالف العسكري الثلاثي (أبوظبي – حفتر – حميدتي) يمهد لتثبيت معادلة إقليمية جديدة تقوم على السيطرة في الميدان بدل النفوذ السياسي”.

وقال: "نحن أمام نموذج جديد من التمدد العسكري غير النظامي، يعتمد على تقاطعات المصالح والمال والسلاح بين ثلاثة أطراف: رجل الإمارات في ليبيا، ورجلها في السودان، وشبكة مصالح مفتوحة على مستوى تهريب الموارد والضغط على دول الجوار".

واختتم نصر تصريحه بالقول: إن "احتلال المثلث الحدودي ليس نهاية المطاف، بل بداية لمرحلة جديدة من التدخل الإقليمي في السودان، تتخذ طابعا غير معلن لكنه أكثر خطورة من أي وقت مضى".