تقتل الشعوب ثم تتباكى عليها.. هذه جرائم فرنسا في الوطن العربي

آدم يحيى | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب 2020، حاولت فرنسا أن تبدو كالأم الحنون، الحريصة على أرواح البشر وحامية الحقوق والحريات في العالم.

بعد الحادث بيومين فقط، بدا الرئيس إيمانويل ماكرون خلال زيارته العاجلة إلى موقع الانفجار في بيروت، حزينا ومتأثرا للغاية، معزيا الضحايا ومواسيا أهاليهم.

لكن الزيارة العاجلة ومظاهر التأثر والحزن التي حاول ماكرون إبداءها لم تنس اللبنانيين والعرب حقيقة الأمر، وأن فرنسا تحاول جاهدة تقديم نفسها كوصي على لبنان، معتبرة هذا البلد ضمن حصتها الإقليمية، ساعية بكل السبل لتلميع صورتها وتحسين سمعتها.

صفحات سوداء كتب بها تاريخ فرنسا في الوطن العربي والقارة الإفريقية، فهو تاريخ سيئ السمعة، ومليء بالممارسات الوحشية وارتكاب المجازر، ونهب الثروات، والتجارة بالعبيد، ودعم الانقلابات، وتمويل جرائم الحرب.

جرائم فرنسا مازالت مستمرة حتى الآن، وذلك من خلال اعترافها بدعم مليشيات اللواء الانقلابي المتقاعد خليفة حفتر في ليبيا، في ارتكاب جرائم حرب تحقق فيها الأمم المتحدة وانتهاكات منظورة لدى محاكم أميركية، ما يمثل امتدادا لسجل فرنسا الإجرامي الذي بدأ قبل 5 قرون ومازال مستمرا حتى يومنا هذا.

سايكس بيكو

ذلك الدور الملائكي الذي تتقمصه فرنسا حاليا، لن ينسي العرب تاريخها في تمزيق أراضيهم واحتلالها بموجب اتفاقية سايكس بيكو السرية التي وقعتها مع بريطانيا، وقضت بتقسيم منطقة الهلال الخصيب الواقع في شمال الجزيرة العربية، بين بريطانيا وفرنسا، بعد انهيار الدولة العثمانية التي كانت تحكم هذه المنطقة قبل انهيارها أثناء الحرب العالمية الأولى.

عقدت هذه الاتفاقية بين شهري نوفمبر/تشرين الثاني 1915 ومايو/أيار 1916، إثر مفاوضات سرية بين السير البريطاني مارك سايكس، المستشار الدبلوماسي وعضو حزب المحافظين البريطاني، والدبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو، القنصل الفرنسي في بيروت قبل الحرب العالمية الأولى، بمصادقة من روسيا القيصرية.

وبموجب تلك الاتفاقية احتلت فرنسا الجزء الأكبر من الجناح الغربي من سوريا ولبنان ومنطقة الموصل في العراق، وأقرت عصبة الأمم المتحدة في عام 1920 ذلك التقاسم وتلك المحاصصة، وانتدبتها بحجة مساعدة تلك الدول الضعيفة ومساعدتها في بناء مؤسساتها.

كانت الاتفاقية بالغة السرية لدرجة أن العرب أنفسهم لم يعلموا بالأمر إلى حين كشفه البلاشفة بعد سقوط القيصر، ونشروا نص الاتفاقية عام 1917، الأمر الذي كشف المستور وزاد من سوء صيتها.

سوريا ولبنان

منذ سيطرتها على سوريا، في الفترة منذ 1920 وحتى جلاء آخر جندي فرنسي في 1946، ارتكبت القوات الفرنسية آلاف الانتهاكات الجسيمة بحق السوريين، فنفذت مجازر وإعدامات ميدانية تفوق وحشية ما يقوم به "تنظيم الدولة" بحق الشعب السوري، وقطعت باريس رؤوسا ونفذت عمليات تهجير واسعة.

في أبريل/نيسان 2015، نظم مرصد التراث العمراني بسوريا معرض صور بكلية الهندسة المعمارية في دمشق، بالتزامن مع عيد الجلاء كشف النقاب لأول مرة عن عدد من الجرائم التي ارتكبتها قوات الاحتلال الفرنسي في سوريا، أثناء فترة الاستعمار، وعرض صورا للرؤوس التي جزتها القوات الفرنسية وصورا أخرى للإعدامات الميدانية وعمليات التنكيل والقتل وتكبيل الأهالي التي قامت بها.

كما عرض المعرض صورا لجنود سنغاليين يعملون تحت إمرة قادة فرنسيين،  استدعتهم فرنسا للقيام بعمليات قتل وحشية وإعدامات ميدانية.

بالإضافة إلى تلك الانتهاكات، قام هنري غورو المندوب السامي الفرنسي الذي قاد جيش بلاده لاستعمار سوريا عام 1920 بقصف دمشق بالمدافع، وقمع كل حركات المقاومة الوطنية، وقام إثر ذلك، بملاحقة أحرار سوريا المطالبين بالاستقلال، وتصفيتهم وقتلهم، حتى أنه استخدم الطائرات في مواجهتهم، وارتكب المجازر بحقهم وتفنن في الأساليب القمعية.

سقط العديد من المقاومين في تلك المعارك، من بينهم وزير الدفاع السوري يوسف العظمة الذي استشهد في معركة ميسلون عام 1920.

ومن أجل إضعاف المجتمع السوري، قامت القوات الاستعمارية الفرنسية بتقسيم سوريا إلى 4 دول على أسس طائفية (دولة دمشق، دولة حلب، دولة العلويين، دولة الدروز)، وغذت الصراعات الطائفية بين تلك الدويلات السورية.

في أبريل/نيسان 2018، أجرى جان لوي غورو حفيد هنري غورو قائد القوات الفرنسية في سوريا أثناء الاستعمار، زيارة إلى السويداء في سوريا وقدم اعتذارا للسوريين قائلا: "باسم عائلتي وباسم الشعب الفرنسي أتقدم بالاعتذار من الشعب السوري عما قامت به الحكومة الفرنسية خلال استعمارها لسوريا"، غير أن ذلك الاعتذار لم يكن رسميا من الحكومة الفرنسية، لكنه يمثل إقرارا بالجرائم التي ارتكبتها القوات الفرنسية في سوريا.

وعلى غرار ما حصل في سوريا، وقع أيضا في لبنان، التي استعمرتها القوات الفرنسية منذ عام 1920 وحتى عام 1943، بموجب اتفاقية سايكس بيكو.

شهدت فترة الاستعمار تلك مراحل هائلة من العنف، ومواجهات أدت إلى قتل عدد من اللبنانيين على يد الجنود الفرنسيين في مدينتي طرابلس وصيدا.

بالإضافة إلى ذلك، عملت القوات الفرنسية على محاولة عزل اللبنانيين عن محيطهم الإسلامي، فكرست التعاليم المسيحية، بغية القضاء على أي ثقافة إسلامية أو عربية.

ولم تكن القوات الفرنسية هناك تعمد إلى غزو الشعوب سياسيا فقط، بل عمدت إلى غزوهم ثقافيا، ومحاولة تغيير خريطتهم الوجدانية وإعادة رسمها بما يتوافق مع مشروعها الاستعماري.

"مليون شهيد"

الجرائم التي ارتكبتها فرنسا في الجزائر هي الأفظع والأشد وحشية، فمنذ احتلال الجزائر عام 1830، ورغم توقيعها معاهدة التزمت بموجبها باحترام حقوق الجزائريين وحمايتهم وحماية ممتلكاتهم العامة والخاصة، واحترام ديانتهم، إلا أن فرنسا ارتكبت أبشع الجرائم، ونفذت حملة قمعية شملت الجميع دون تمييز ودون استثناء للأطفال والنساء وكبار السن.

فترة الاحتلال التي استمرت من 1830 وحتى 1962، ارتكبت القوات الفرنسية مئات المجازر الجماعية، بالإضافة إلى الآلاف من حالات القتل الفردي، وفرضت قوانين عقابية تتعارض مع القوانين الدولية وحقوق الإنسان وأطلقت عليها مسمى "القوانين الخاصة" التي تتيح لها ارتكاب جرائمها تحت غطاء قانوني، وأجازت مبدأ (القتل لكل مقاوم).

قتل خلال تلك الفترة أكثر من مليون ونصف المليون جزائري، حتى باتت الجزائر تُلقب بـ"بلد المليون شهيد"، وكانت أكبر مجزرة ترتكبها فرنسا في يوم واحد، حين خرج مئات الآلاف من الجزائريين، في 8 مايو/ أيار 1945، للاحتفال بنهاية الحرب العالمية الثانية (1939: 1945)، مطالبين فرنسا بالوفاء بوعدها بمنحهم الاستقلال، لكن الأخيرة استخدمت الرصاص الحي، وقتلت 45 ألفا من المتظاهرين العزل، فيما سمي بمجزرة 8 مايو.

جريمة نهر السين، كانت من ضمن الجرائم التي ارتكبتها القوات الفرنسية وتسببت بسمعة سيئة للبلد الذي يحاول تقديم نفسه كبلد حام للحقوق والحريات، ففي 17 أكتوبر/ تشرين أول 1957، خرج حوالي 60 ألف جزائري في فرنسا، للتظاهر ضد احتلال بلدهم، غير أن السلطات الفرنسية واجهت المحتجين بالرصاص الحي وألقت الكثير منهم في نهر السين، وبلغت الحصيلة حينها 1500 قتيل، بالإضافة إلى 800 مفقود، والآف معتقل.

علاوة على ذلك مارس الاستعمار الفرنسي أبشع أنواع التنكيل والتعذيب ضد الجزائريين، بحسب ما نقلته الأناضول عن  ضحايا جزائريين ومؤرخين.

في تقرير نشرته عام 2017، نقلت الأناضول عن الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان أن عدد ضحايا الاستعمار الفرنسي فاق 10 ملايين، وحسب الوكالة فقد اعتمد الاستعمار أسلوب الصعق الكهربائي، واستخدم الآبار المائية كسجون، وألقى معتقلين من مروحيات.

ملف المفقودين

ومن بين الملفات الأخرى العالقة بين البلدين، الأرشيف الوطني الجزائري الذي يضم ملايين الوثائق والتحف، الذي نهبته فرنسا وترفض إعادته للجزائر، بالإضافة إلى ملف المفقودين خلال الثورة، وعددهم 2200 شخص، حسب السلطات الجزائرية.

علاوة على ذلك، أجرت القوات الفرنسية سلسلة تجارب نووية في الصحراء الجزائرية بين عامي 1960 و1966، لدراسة مدى أثرها على البشر، من بينها 17 تجربة نووية، على الأقل بحسب مسؤولين فرنسيين، وتسببت تلك التجارب بمقتل 42 ألف جزائري وإحداث عاهات مستدامة للملايين، بسبب الإشعاعات النووية التي لا تزال آثارها مستمرة حتى اليوم، وهو ما تناولته الاستقلال في تقرير سابق.

الحراك الشعبي الذي اندلع بالجزائر منذ فبراير/شباط 2019، طالب باريس بضرورة الاعتراف بجرائهما الاستعمارية، والاعتذار والتعويض عنها، ورفع المحتجون الجزائريون شعارات، اعتبروا فيها فرنسا "عدو الماضي والحاضر والمستقبل".

كما حَمَّل المحتجون باريس مسؤولية تدهور الوضعين الاقتصادي والسياسي بالجزائر، منذ الاستقلال عن فرنسا عام 1962، وقالوا: إن باريس ارتبطت بشبكات جزائرية متواطئة معها، ومنعت بلادهم من التطور، رغم ما تحوزه من موارد مادية وبشرية هائلة.

أستاذ التاريخ الجزائري، محمد الأمين بلغيث، طالب عبر وكالة الأناضول، فرنسا، بالاعتراف بجرائم إبادة جماعية لسكان الجزائر منذ 1830، وأضاف بلغيث: أن "المستعمر نهب خزينة الدولة الجزائرية، ونهب الأموال والكنوز، وهي عبارة عن 5 سفن فرنسية كاملة الحمولة في الأشهر الأولى للاحتلال".

ورغم اعتراف مسؤولين فرنسيين بتلك الجرائم إلا أن الجزائر تطالب منذ الاستقلال باعتراف فرنسي رسمي عن جرائم الاستعمار، لكن باريس، وفي محاولة منها للتنصل من تلك الجرائم ومن تبعاتها، تؤكد في كل مرة، أن "الأبناء لا يمكن أن يعتذروا عما اقترفه الآباء"، وتدعو إلى طي الملف والتطلع للمستقبل المشترك.

"السياسة العقابية"

كانت تونس هي إحدى الدول التي احتلتها فرنسا منذ العام 1881، وبقيت فيها 75 عاما، حتى جلائها في مارس 1956.

وخلال تلك الفترة ارتكبت القوات الفرنسية جرائم وانتهاكات، ونفذت عمليات قتل وإعدامات عشوائية، ونكلت بالمعارضين، والمطالبين بالاستقلال، وقامت بتصفية العديد منهم، أبرزهم مؤسس الاتحاد العام التونسي للشغل فرحات حشاد، والزعيم الوطني الهادي شاكر، والطبيب المناضل عبد الرحمن مامي.

علاوة على ذلك، قام الجيش الفرنسي وبكل بربرية، باغتصاب النساء وقتلهن، والاعتداء على الممتلكات ومصادرتها، وإحراق المزارع، والمحاصيل الزراعية، وهدم المنازل بالجرافات في عدة مناطق على الأراضي التونسية.

وزادت وحشية القوات الفرنسية عقب اندلاع المقاومة الوطنية المسلحة سنة 1952، وتحديدا بعد قدوم جون دوهوت مطلع 1952 على متن بارجة حربية.

وفي كتابه "السياسة العقابية الاستعمارية الفرنسية بالبلاد التونسية"، ذكر المؤرخ التونسي الدكتور عبد اللطيف الحناشي، الكثير من الجرائم الفرنسية في تونس، منذ بداية الاحتلال وحتى ما بعد خروجه.

وعدد الحناشي جرائم القتل والإعدامات والتصفيات والاعتقالات والملاحقة، بالإضافة إلى حرق المزروعات، وأسر أفراد القبائل، ونفي قبائل تونس وتهجيرهم، وهو ما حصل مع 400 فرد من سكان "قبيلة" و"شتاتة"، عندما تم نفيهم إلى جزيرة سانت مارغريت الفرنسية.

بالإضافة إلى ذلك، قامت قوات الجيش الفرنسي بحملات تمشيط للمدن والقرى، في عام 1952 في مسعى منها لوأد كل حركات المقاومة المسلحة، ونفذت عمليات إعدامات وحشية، وحملات اعتقال عامة، خصوصا في مدينتي الوطن وبنزرت، فاعتقلت في حملة واحدة نحو 3 آلاف مقاوم، وأحالتهم إلى المحاكم العسكرية.


وفي نفس العام نفذت عددا من عمليات الاغتيال، كان من أبرز الضحايا الزعيم الهادي شاكر الذي كان يشغل منصب أمين عام الحزب الحر الدستوري، وكان شاكر قد ترأس قبيل اغتياله المؤتمر السري للحزب في يناير/ كانون الثاني 1952 الذي انبثقت منه المقاومة المسلحة.

المقاوم حمادي غرس كشف في أولى جلسات الاستماع العلنية أمام هيئة الحقيقة والكرامة بتاريخ 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، أن الفرنسيين وبمشاركة تونسيين حينما توجهوا لتازركة (إحدى مدن ولاية نابل بالشمال الشرقي التونسي) في يناير/كانون الثاني 1952، قاموا بإخراج الرجال من بيوتهم وتجميعهم في بطحاء تحت الحراسة المشددة، ثم قاموا بهتك أعراض النساء واغتصابهن.

وأضاف غرس أن القوات الفرنسية كانت تقوم بقتل كل رجل يحاول إنقاذ نسائه اللاتي كن يصرخن في مشهد مريع، حد قوله.

وبلغ عدد الشهداء نحو 10 آلاف، من بينهم نحو 7 آلاف شهيد في معركة بنزرت عام 1961، حسب رئيس هيئة الحقيقة والكرامة في تونس سهام بن سدرين، في حين تقول فرنسا: إن عدد القتلى في هذه المعركة لا يتجاوز 700 قتيل.

ورغم استقلال تونس في 20 مارس/آذار 1956 إلا أن الانتهاكات الفرنسية استمرت إلى ما بعد الاستقلال، ففي 8 فبراير/ شباط 1958، قصف الطيران الفرنسي قرية ساقية سيدي يوسف التونسية الحدودية مع الجزائر، مخلفا أكثر من 70 قتيلا و100 جريح.

وكانت سهام بن سدرين، رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة قد فتحت ملف فترة ما بعد الاستقلال وطالبت فرنسا بالاعتراف والتعويض عما ارتكبته في تونس من "جرائم"، لا سيما هجماتها في عامي 1956 و1961 التي أسفرت عن سقوط آلاف القتلى أغلبهم من المدنيين.

ونددت الناشطة الحقوقية بن سدرين، بالانتهاكات التي ارتكبتها فرنسا، مشيرة إلى أحداث جرت في الجنوب التونسي عام 1956 عندما قصفت القوات الفرنسية "كل الجنوب بالإضافة إلى ما وقع في عام 1961 من "مجزرة بنزرت الكبرى".

ولم تقتصر جرائم فرنسا عقب الاستقلال على الانتهاكات الإنسانية، بل طالتها للاقتصاد، فقد عملت على نهب الثروات التونسية حتى بعد خروجها.

في وثيقة الاستقلال الداخلي التي وقعت في يونيو/حزيران 1955، أعطت فرنسا لنفسها امتيازات مجحفة في استغلال الأراضي التونسية لاستخراج مواد الطاقة ونقلها، دون أن يكون لتونس الحق في تغيير العقود أو مراجعتها، رغم محاولات تونس في السبعينيات تحسين شروط التفاوض.

دروع بشرية

المغرب هو الآخر تعرض للاحتلال الفرنسي، منذ عام 1912 وحتى استقلاله عام 1956، حيث مارست القوات الفرنسية خلال هذه الفترة انتهاكات جسمية، تشابه تلك الانتهاكات التي ارتكبتها في الدول الخاضعة لسيطرتها في القارة الإفريقية.

قتل وإعدام واعتقالات بالجملة وقصف عشوائي واغتصاب للنساء وإحراق للمزارع، كانت هي الإجابة التي تقولها القوات الفرنسية ردا على سؤال التحرر والاستقلال، في محاولة منها لقمع أي حركة للمقاومة.

وكالعادة زادت هذه الممارسات وحشية، بعد اندلاع حركات تحرر وطني، حيث كثفت من حملاتها وزادت من مستوى القمع والتنكيل.

الجرائم التي ارتكبتها القوات الفرنسية في المغرب، سبقت فترة الاحتلال بخمس سنوات (1912ـ 1956)، ففي أغسطس/آب 1907، قصفت البحرية الفرنسية الدار البيضاء لمدة يومين كاملين، مخلفة نحو 1500 ضحية ما بين قتيل وجريح، وانتشرت الجثث في الشوارع.

جاء القصف العشوائي ردا على عصيان قام به مغربيون احتجاجا على مشروع توسيع ميناء الدار البيضاء وخطط فرنسا لمد السكة الحديدية فوق مقبرة سيدي بليوط.

وإلى جانب الممارسات الإجرامية، استخدمت القوات الفرنسية، المغاربة كدروع بشرية في الحرب العالمية الأولى، فمع اندلاع الحرب في صيف 1914، حشد الحاكم العام الفرنسي في المغرب الجنرال هوبير ليوتي آلاف المغاربة وزج بهم في الصفوف الأولى في الحرب العالمية.

بالإضافة إلى ذلك قامت القوات الفرنسية الغازية بمحاولة فصل المجتمع المغربي عن هويته وتغييب ذاكرته الوطنية والثقافية، فقد أصدر المستعمر الفرنسي في 30 من مايو/أيار 1930 ما سماه "الظهير البربري"، وهو قانون يمنع الأمازيغ في المغرب من التحاكم في قضاياهم المختلفة إلى الشريعة الإسلامية، أو إلى العرف البربري.

كما منعت فرنسا المغاربة الأمازيغ من تعلم الإسلام واللغة العربية، بغية محو الهوية الإسلامية للمجتمع الأمازيغي والقضاء على كل ما هو عربي في هذا المجتمع التقليدي والمحافظ.

ومع انطلاق الاحتجاجات المطالبة باستقلال المغرب، كثفت القوات الفرنسية من أدوات قمعها للمحتجين، فحصلت أحداث يناير/كانون الثاني 1944، وأحداث نيسان/أبريل 1947، وأغسطس/آب 1953، وكلها مجازر ارتكبتها القوات الفرنسية بحق آلاف المغاربة الذين سقطوا، لأنهم طالبوا برحيل القوات الفرنسية ونيل الحرية والاستقلال.

قامت فرنسا إلى جانب ذلك بتدمير قبائل مغربية مثلت حواضن اجتماعية لحركات مقاومة وتحرر وطني، فدمرت قبائل زيان وبني خيران والسماعلة وقصبة تادلة والقصبة الزيدانية، والبروج ووادي أم الربيع ووادي العبيد وخنيفرة، وكان من أبرز من قامت بإعدامهم المقاوم محمد بن حمو الزياني الذي يعتبر من أبرز رجال المقاومة في التاريخ المغربي الحديث.

علاوة على ذلك، نفذت القوات الفرنسية حملات اغتيال واسعة لرجال من المقاومة المغربية، من بينهم غرار علال بن عبد الله الذي قتل في سبتمبر/أيلول 1953، وهي العملية التي شكلت تصفيته انطلاقة ثورة الملك والشعب التي أعادت الشرعية والاستقلال للمغرب.

كما قامت فرنسا في نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام، بإعدام المقاوم الأول بمنطقة الأطلس المتوسط، أحمد الحنصالي رميا بالرصاص.

جمهوريات موز

جرائم فرنسا لم تنحصر على الفترات التي كانت تستعمر فيها الدول الإفريقية، بل عمدت حتى بعد رحيلها، إلى تحويل تلك الدول إلى جمهوريات موز، من خلال زعزعة استقرار النظام السياسي فيها، فقد دعمت خلال الخمسين عاما السابقة ما مجموعه 67 انقلابا في 26 دولة إفريقية، منها 16 دولة كانت خاضعة للاستعمار الفرنسي.

إستراتيجية فرنسا درجت على تنصيب موالين وعملاء لها، وفي حال لم تضمن ذلك، تقوم بتدبير انقلابات، ودعم مليشيات، غير آبهة بالكلفة البشرية والاقتصادية الهائلة التي يتكبدها ذلك البلد.

عندما حاول رئيس ساحل العاج "لوران غباغبو" إنهاء الاستغلال الفرنسي لبلاده، دبرت فرنسا انقلابا للإطاحة به، وتدخلت الدبابات والطائرات الفرنسية والقوات الخاصة مباشرة في الأزمة وأطلقت النار على المدنيين وقتلت الكثيرين، وبعد نجاح الانقلاب ونقل السلطة إلى "ألأسن أوتارا"، طلبت باريس من أوتارا دفع تعويضات لمجتمع رجال الأعمال الفرنسي لخسائرهم خلال الحرب الأهلية.

اتفاقية استعمارية

ورغم تمتع دول إفريقية بالاستقلال منذ أكثر من 50 عاما، إلا أن باريس حتى الآن تجبر 14دولة إفريقية، ومن خلال اتفاق استعماري، على وضع 85 % من احتياطاتها الأجنبية في البنك المركزي بباريس، وتحت سيطرة الوزير الفرنسي للرقابة المالية.

تلك الدول هي "بنين، بوركينا فاسو، غينيا بساو، ساحل العاج، مالي، النيجر، السنغال، توجو، الكاميرون، جمهورية إفريقيا الوسطى، تشاد، جمهورية الكونغو، غينيا الاستوائية، الجابون".

ومنذ عام 1961 وعقب توقيع الاتفاقية، أصبحت تلك الدول رغم تحررها من الاستعمار مقيدة بدفع استحقاقات البنية التحتية التي أقامتها فرنسا بها خلال احتلالها لها وفقا لما تحدده باريس. 

وإلى جانب ذلك الشرط، تنص الاتفاقية التي تتضمن 11 بندا على وجوب دفع تلك الدول ضريبة مقابل البنية التحتية التي بنتها فرنسا أثناء الاحتلال، ولفرنسا الأولوية بشراء الموارد الطبيعية الموجودة في أراضي تلك الشعوب، كما تنص على وجوب عرض العقود الحكومية على الشركات الفرنسية.


المصادر