"فعل فاضح في التاريخ العام".. مراحل تطور مصطلح التطبيع

"لا صلح ولا تفاوض مع إسرائيل ولا اعتراف بها"، 3 لاءات أعلن عنها القادة العرب في أعقاب هزيمة يونيو/حزيران 1967، وسادت حينها فكرة أن كل من يسعى لتجاوز هذه الثلاث المحرمة، فهو "خائن" باعتراف الجميع.
عقب أكثر من 50 عاما، ذكّر الرئيس التونسي قيس سعيّد العرب أنهم "في حالة حرب مع كيان محتل غاصب"، وذلك بعد هرولة دول عربية نحو "التطبيع" ومحاولة التأثير على المزاج الشعبي العربي.
ذهب سعيّد إلى أبعد من ذلك، حين تحدث عن المصطلح ذاته، فقال: إن "كلمة تطبيع خاطئة، بل هي خيانة عظمى"، ليشجع باحثين وناشطين عرب على إعادة توصيف ما يجري من علاقات مع "إسرائيل" بشكل أدق.
من أهم المصطلحات التي استخدمها الإسرائيليون في ترويج فكرهم ورأيهم، والولوج إلى عمق الآخر بكل سهولة ويسر، هو مصطلح "التطبيع".
من حيث المبنى هو لفظ رقيق رشيق وأنيق، يُعجب به كل من سمعه، ويظن به خير الظنون، هكذا يصفه الباحث الفلسطيني مصطفى أبو السعود، مستدركا: "لكنه من حيث المعنى فهو من المصطلحات التي ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، والتي ترتدي خمسين قناعا وترقص على خمسين حبلا".
في مقال نشره بشهر سبتمبر/أيلول 2017، يقول أبو السعود: "حسن استخدام المصطلحات عاد بفوائد جمة على إسرائيل، حيث نجح قادتها في تحويل المزاج النفسي الرسمي تجاه تل أبيب التي جارت علينا إلى دولة جارة لنا وصديقة يجب التعايش معها".
تاريخ التطبيع
هذا التعايش بدأ بعد أربع حروب طاحنة كانت مصر وإسرائيل طرفيها الرئيسيين في أعوام 1948 و1956 و1967 و1973، فوقع الجانبان إطار سلام عرف بـ"اتفاقية كامب ديفيد" أواخر 1978، ومن ثم معاهدة سلام في 26 مارس/آذار 1979، وبموجبها اعترفت مصر بإسرائيل، فكانت أول دولة عربية تقدم على مثل هذه الخطوة.
وظلت الشعوب وباقي الأنظمة العربية خارج هذه الاتفاقية المنفردة مع إسرائيل، إلى حين قدوم موجة التطبيع الثانية عام 1991 بعد انطلاق مفاوضات السلام العربية - الإسرائيلية إثر مؤتمر مدريد.
ومع توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية واتفاق وادي عربة مع الأردن في العام التالي، ساد تفاؤل في الشارع العربي بأن الصراع العربي - الإسرائيلي في طريقه للحل من بوابة إنصاف الفلسطينيين وحصولهم على دولة.
غير أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة راوغت في تحقيق سلام عادل منذ اغتيال إسحاق رابين عام 1995 الذي يطلق عليه لقب "بطل السلام"، وانكشفت مناوراتها في مؤتمر كامب ديفيد عام 2000.
كما تراجعت فرص السلام العربي الإسرائيلي منذ عام 2014 مع رفض إسرائيل وقف الاستيطان بأراضي فلسطين والقبول بحدود 1967 كأساس لحل الدولتين.
ورغم ذلك اتجه العرب لتطبيع العلاقات بشكل علني ومفضوح، خاصة مع طرح "صفقة القرن" التي تسعى لتسوية القضية، عبر إجبار الفلسطينيين على تقديم تنازلات مجحفة لمصلحة إسرائيل، بما فيها وضع مدينة "القدس الشرقية" المحتلة، وحق عودة اللاجئين.
وهنا يتساءل كامل حواش عضو اللجنة التنفيذية لحملة التضامن الفلسطينية: "ماذا قدمت إسرائيل لتكافئ بالتطبيع؟ الإجابة واضحة: لا شيء".
ويوضح حواش لـ"الاستقلال" أن المبادرة العربية دعت لتحقيق السلام ومن ثم تطبيع العلاقات، وما زال ذلك هو الموقف الرسمي، "فمن يطبع أولا يخالف هذه المبادرة".
ومبادرة السلام العربية التي أطلقها الملك السعودي الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، انبثقت من قمة بيروت عام 2002 وتحدثت لأول مرة عن "القدس الشرقية" كعاصمة لدولة فلسطين المأمولة، بعدما كان الحديث قبل ذلك يجري عن القدس كلها.
واشترطت المبادرة أيضا انسحاب إسرائيل من الجولان السوري المحتل مقابل اعتراف عربي بـ"تل أبيب" وتطبيع العلاقات معها.
لم تمنح دولة الاحتلال الفلسطينيين عاصمتهم، بل أقر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن "القدس هي عاصمة إسرائيل" ونقل سفارة بلاده من "تل أبيب" إلى المدينة المقدسة، بل واعترف بسيادة الكيان على الجولان.
ومن المثير أن الدول العربية ما تزال تتمسك بهذه المبادرة التي نسفت إسرائيل جميع بنودها ولم تجد آذانا صاغية لها حتى الآن.
إشكالية التعريف
فالتطبيع من وجهة نظر إسرائيلية، يعني جعل ما هو غير طبيعي طبيعيا، دون أن يشمل إعادة الأمور إلى طبيعتها، حيث تطالب "تل أبيب" بالاستمرار في تطبيع العلاقات مع العرب دون أن تغيّر من أيديولوجيتها وأهدافها في إقامة ما تسمى "إسرائيل العظمى" على حساب الأرض والحقوق والثروات العربية.
ويشاطرها في هذا التعريف دول عربية لا ترى حرجا في التواصل العلني والسري مع "إسرائيل"، ويتبنى وزير الخارجية العماني يوسف بن علوي هذا الاتجاه، حيث نفى في فبراير/شباط 2019 أن يكون هناك أي تطبيع مع إسرائيل، مشيرا إلى أن ما يجري هو عملية سلمية لإيجاد تسوية للقضية الفلسطينية.
وتقول دعاء فريد، مؤلفة كتاب "الصورة الذهنية للمجتمع الإسرائيلي": "بما أن الدول العربية لم يكن بينها وبين إسرائيل علاقات من أي نوع، فإن التطبيع في سياق عملية التسوية يهدف إلى إنشاء علاقات لم تكن قائمة أصلا".
وتتابع في كتابها: أن هذا يختلف في الدلالة والمعنى عن التطبيع الذي يقصد به إعادة الشيء إلى أصله وجعله عاديا أو معتادا، ومن هنا يتضح عدم دقة اللفظ، وكيف جرى استخدامه بطريقة تهدف إلى الإيحاء بمعنى استعادة علاقات لم تكن موجودة بالأساس.
وإشكالية التعريف باتت تُتخذ ذريعة للتأسيس لأنماط معينة من العلاقات مع "إسرائيل" كالعلاقة مع المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية، أو صياغة عناوين كـ "الاشتباك السياسي" الذي يستدعي إقامة لجان للتواصل مع المجتمع الإسرائيلي، أو الدعوة إلى التواصل مع أوساط إسرائيلية معارضة لسياسات الحكومة الإسرائيلية، أو التبرير للتطبيع الإعلامي والرياضي وما شابه.
وعن هذا يقول الكاتب والباحث الفلسطيني ساري عرابي في مقال له: إن الزعم بغموض المصطلح، وتردده بين كونه ضيّقا أو فضفاضا، بات يُستخدم مدخلا لتبرير أشكال من التطبيع مع "إسرائيل"، وهو ما استدعى تعريفات تحاول تحديد معناه ومجالاته.
أما صبري محمد خليل أستاذ فلسفة القيم الإسلامية في جامعة الخرطوم فيرى أنه "يوجد تناقض فى المصطلح، فالتطبيع يجب أن يتم بين دول طبيعية، وهو الأمر الذي لا يتوافر في الكيان الصهيوني القائم على اغتصاب أرض فلسطين، لذا نستخدم مصطلح التطبيع بين قوسين، استنادا إلى قاعدة خطأ شائع خير من صواب نادر".
ومن وجهة نظر حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات "BDS"، فالتطبيع هو المشاركة في أي مشروع أو مبادرة أو نشاط، محلي أو دولي، مصمم خصيصا للجمع سواء بشكل مباشر أو غير مباشر بين فلسطينيين أو عرب وإسرائيليين (أفرادا كانوا أم مؤسسات) ولا يهدف صراحة إلى مقاومة أو فضح الاحتلال وكل أشكال التمييز والاضطهاد الممارس على الشعب الفلسطيني.
لكنه في نظر شريحة كبيرة من العرب والفلسطينيين "خيانة"، تحدث عنها الأديب غسان كنفاني عندما وصف محادثات السلام دون منح الحقوق بأنها "استسلام، ونوع من المحادثة بين السيف والرقبة".
من غسّان كنفاني إلى المهرولين في وارسو: أما بعد، فإن #التطبيع_خيانة.
— أحمد بن راشد بن سعيّد (@LoveLiberty) February 16, 2019
(غسان صحافي وروائي فلسطيني أنتج 18 كتاباً، وُلد في عكا عام 1936،وعاش في يافا حتى أُجبر على اللجوء إلى لبنان في نكبة 1948. استشهد في بيروت عام 1972 مع ابنة أخته لميس في جريمة تفجير سيارة نفّذها الموساد الصهيوني). pic.twitter.com/XnVLSsVsgP
ولذلك تقول دعاء فريد: إنه "يجب التفرقة بين السلام والتعايش، والعلاقات الحميمية والوثيقة، فالأولى تقررها الحكومات والمعاهدات، أما الثانية فهي تعبر عن نبض الشعوب ووجدان الأمم، ولذا فكلمة التطبيع غير دقيقة، فهو أمر لا يتحقق بقرار ولا يأتي باتفاق".
لذا يقر منظرو التطبيع من الإسرائيليين أن المصطلح غير عادي ولا يرد في معاهدات السلام التي تنظم العلاقات بين الدول، وأنه نشأ من عدم التناسق في الصراع العربي الإسرائيلي.
فالإسرائيليون برأي دعاء فريد يدركون أن أي اتفاق سلام مع دول عربية يعني تنازلهم عن أشياء محددة جدا، وأن ما يتوقعونه من العرب شيء مثالي، مثل الاعتراف والقبول والاستعداد للحياة في سلام، وأن هذه الصعوبات الكامنة في عدم التناسق، تمت ترجمتها في مفهوم "التطبيع".
خيار شعبي
ولذلك، يقول المؤرخ والروائي الفلسطيني أسامة الأشقر: إن المقاطعة ورفض التطبيع تجاوزت كونها خيارا لشريحة محدودة من المثقفين وأصبحت خيارا شعبيا فاعلا".
ويستدرك في مقال له: "ارتفعت أصوات تقول: ما المشكلة في أن نتعامل مع كتاب (إسرائيليين) يدافعون عن الحق الفلسطيني؟ وما الغلط في توقيع عقود مع دور نشر إسرائيلية مساندة للعرب تريد أن تنشر إنتاجنا؟ وما الذي يضير لو ذهبنا لحضور مهرجان فني فلسطيني في الضفة؟".
وهذه الأصوات تهدف إلى الالتفاف وخلط الأوراق في الدعوات والمؤتمرات والجوائز وإرباك الصفوف بدعاوى ضرورة إعادة النظر في تعريف مفهوم التطبيع، بحسب الأشقر.
لكن، يعتقد محمد العبسي منسق تجمع "اتحرّك لدعم المقاومة ومجابهة التطبيع" في الأردن أن المسألة ليس لها علاقة بالتوصيف، بقدر ما هي وعي بخطورة التطبيع.
وفي حديثه لـ"الاستقلال"، استشهد العبسي بالكويت التي لم تنخرط بأي تطبيع رسمي أو شعبي، مؤكدا أن "هناك دول تطور قوانينها لتجريم المطبعين، كما أن الشعوب العربية ما تزال ترفض التطبيع وتخشى التورط فيه أو الارتماء بأحضان الاحتلال".
وقال: "الدول المطبعة هرولت لإقامة علاقات مع إسرائيل، وشجعت شعوبها على ذلك وأتاحوا لهم الفرصة لزيارة الكيان عبر نشر فكرة التطبيع".
واستدرك "لكن، حتى في داخل الدول التي تقيم علاقات مع تل أبيب، هناك أشخاص مناهضين للتطبيع، ويسجلون مواقف مشرفة عبر انسحاباتهم من البطولات الدولية التي تضم إسرائيليين".
وفي خضم تطوير المفاهيم وحرب المصطلحات، يرى أن "ما يجري لا ينكر حقيقة أن التطبيع جريمة وخيانة، ونحن فعلا نصفها بذلك في كثير من الأحيان".
وأشار إلى أن "العلاقة مع إسرائيل لا يجب أن تكون طبيعية، لكن كلمة تطبيع يمكن أن تصف الوضع كذلك، فالمطبع يخشى إطلاق هذه الكلمة الثقيلة عليه، والتطبيع لا يلغي بالضرورة مفهوم الخيانة".
"فعل فاضح"
ورغم نجاح حملات المقاطعة، يرى العبسي أن الحركات المختصة بذلك، تعاني من خلل في الاستمرارية والتنسيق. مبينا أن عملها يشتد في حالة الحروب والعدوان على غزة ولبنان مثلا، وتعود لحالتها في الأوضاع الطبيعية.
لكنه يوضح أن حركة "بي دي أس" تحقق نجاحات على المستوى الدولي بدعوتها للمقاطعة، فالأمر لم يتوقف عند بضائع المستوطنات، "فهم يطورون من أساليب معاداتهم للكيان".
والحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل -التي تعرف اختصارا بـ "بي دي أس"- تأسست سنة 2005 على يد قوى مدنية فلسطينية، وهي تنسق أعمالها مع اللجنة الوطنية الفلسطينية لمقاطعة وفضح ومعاقبة إسرائيل. وتصف نفسها بأنها مؤسسة تسمح للفعل الشعبي بأن يساهم بدور إيجابي في معركة الفلسطينيين من أجل الكرامة والعدل.
ويؤكد كامل حواش على ذلك بالقول: إن "حملات المقاطعة تحقق نجاحات قيمة وتقلق إسرائيل وحلفاءها، وهو ما دفعها لإنشاء وزارة خاصة لمناهضتها ورصد ملايين الشواكل (جمع كلمة شيكل وهي عملة إسرائيل) لذلك".
ويقول محسن صالح مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات": "كلما عبرت هذه الشعوب عن رأيها الحرّ، كلما أعادت الصراع إلى مربعه الأول، وظل الكيان الصهيوني كيانا سرطانيا غريبا في المنطقة".
وأضاف في مقال له: "لا أعتقد أن أي نظام عربي يقيم علاقة مع دولة الاحتلال يجرؤ على عمل استفتاء شعبي حر تجاه التطبيع".
ولإعادة القضية إلى مسارها الصحيح، يدعو مختصون إلى إيجاد مصطلحات أكثر دقة لتوصيف ما يجري.
رفعت سيد أحمد رئيس مركز يافا للدراسات والأبحاث بالقاهرة قال: "ألا يحق لنا بعد أن تأكد أن هذا التطبيع يغطي على جرائم الاحتلال بل ويمنحها شرعية تاريخية كان يفتقدها، أن نصفه بأنه بمثابة فعل فاضح في التاريخ العام للأمة، يستحق محاكمة ومعاقبة قانونية وسياسية وإنسانية مع مَن يرتكبه. أسئلة برسم النخبة وقادتها؟".
وفي مقال له في يناير/كانون الثاني 2019، يقترح رئيس مركز يافا، كلمة أكثر تعبيرا عن المقصود هنا، وهي "الهيمنة" أو الاختراق الصهيوني للأمة العربية.
المصادر
- التطبيع مع إسرائيل من «خيانة» إلى «ضرورة»
- مقال: التطبيع الإسرائيلي – الخليجي: الركض وراء السراب… د.محسن صالح
- بنود مبادرة السلام العربية
- من المقاطعة إلى التطبيع.. كيف فقد العرب بوصلتهم في 40 عاما؟
- دليل مكافحة التطبيع الثقافي
- "بي دي أس".. حركة عالمية بثلاث ركائز لمقاطعة إسرائيل
- لماذا نرفض التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي؟
- بن علوي: ما يجري بيننا وبين إسرائيل ليس تطبيعا
- مناهضه “التطبيع “مع الكيان الصهيوني:أسسه العقدية والسياسية والياته
- الصورة الذهنية للمجتمع الإسرائيلي
- فعل فاضح في التاريخ العام للأمّة