رغم مقاومة الشمال الإفريقي.. غزو فرنسي جديد للمدارس المصرية

داود علي | منذ عام واحد

12

طباعة

مشاركة

بإيعاز من نظام عبدالفتاح السيسي في مصر، تسعى اللغة الفرنسية إلى التسلل بقوة إلى مدارس "أرض الكنانة"، رغم الجدل الدائر حول نجاعة "لغة موليير" في إنتاج المعرفة العلمية

وضمن خطوات فرض الأمر الواقع، اختارت القاهرة ووكالة فرنسية توقيع اتفاقية في هذا الإطار، ليطرح المتابعون تساؤلات عن خطط باريس لترسيخ لغتها في مصر، وتأثير ذلك على الهوية والوعي المصري.

قرار نظام السيسي يأتي في وقت اتخذت فيه دول شمال إفريقيا "تحجيم" التعامل بالفرنسية، وخاصة الجزائر وموريتانيا، وذلك في سعيها للخروج من "ربقة" الديك الفرنسي.

وعطفا على التاريخ، وبالضبط عام 1801 غادر آخر جندي فرنسي الأراضي المصرية، بعد فشل حملتهم التي استمرت 3 سنوات بقيادة نابليون بونابرت، حاول خلالها فرض الهوية والثقافة الفرنسية على مصر. 

لم ينجح نابليون، لكن بقيت نظرية فرض الهيمنة والثقافة الفرنسية قائمة، وما بين المد والجذر كانت القاهرة تتأرجح حسب رؤية الحاكم والنظام.

اليوم وبعد أكثر من قرنين، تطمح اللغة الفرنسية إلى وضع موطئ قدم لها في مدارس مصر، من خلال الاتفاقيات من جهة، وطبيعة العلاقات بين السيسي والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، من جهة أخرى.

أولوية مشبوهة

وفي 9 مارس/ آذار 2023، أعلنت وزارة التربية والتعليم المصرية، بدء تدريس اللغة الفرنسية إجباريا في المدارس الحكومية بداية من العام الدراسي 2024/ 2025.

وقالت الوزارة إن "برنامج تدريس الفرنسية سينفذ لما يقرب من 3 ملايين طالب، بالمدارس الحكومية في سائر محافظات القطر".

وذكر وزير التربية والتعليم، رضا حجازي، في لقاء جمعه مع سفير باريس في القاهرة، مارك باريتي، أن "مصر تولي اهتماما خاصا لتعزيز التعاون مع فرنسا، وأن مشروع دعم تدريس اللغة الفرنسية في المدارس الحكومية، هو إحدى ثمار التعاون".

بينما قال باريتي إن "تطوير تعليم اللغة الفرنسية في مصر، وتوفير برامج تدريبية للمعلمين، أصبح يمثل أولوية بالنسبة لفرنسا"، دون ذكر للأسباب.

بعدها وفي 11 مارس 2023، نشرت الجريدة الرسمية، قرار رئيس النظام رقم 630 لسنة 2023، بشأن تنفيذ مشروع التعاون الفني لدعم تدريس اللغة الفرنسية كإحدى اللغات الأجنبية بالمدارس الحكومية.

وجاء نص القرار أنه وافق على تعديل اتفاق الشراكة بين حكومة مصر والوكالة الفرنسية للتنمية لتنفيذ مشروع التعاون الفني لدعم تدريس اللغة الفرنسية كإحدى اللغات الأجنبية الإجبارية بالمدارس الحكومية، والذى يهدف إلى إضافة منحة بمبلغ 500 ألف يورو إلى المشروع. 

وكان الاتفاق الأول بين الوكالة الفرنسية والحكومة، بقيمة 1.5 مليون يورو، لكن مصر طلبت تمويلا إضافية بقيمة نصف مليون يورو، لتنفيذ المشروع.

وتضمنت التعديلات التي نشرتها الجريدة الرسمية، إلزام الحكومة المصرية بـ"إبلاغ الوكالة الفرنسية بأي شبهة من أفعال الفساد أو الاحتيال أو الممارسات المضادة للمنافسة"، كشرط مفروض من الوكالة على الحكومة مقابل إقرار المنحة المالية. 

وبدأت قصة إدخال اللغة الفرنسية في المناهج المصرية، والتمهيد لإقرارها في المدارس الحكومية منذ عام 2018، عندما أطلق وزير التربية والتعليم (السابق) طارق شوقي، وبأمر مباشر من السيسي، مشروع دعم تطوير تعليم اللغة الفرنسية (ADEFE) في مصر.

وذلك بالشراكة مع سفارة فرنسا بالقاهرة، والمعهد الفرنسي، والمركز الدولي للدراسات التربوية (CIEP) بفرنسا، وشبكة كانوبيه (Canope) التعليمية الفرنسية.

حينها تم الاتفاق على قيام السفارة الفرنسية بتحديث نظم تعليم اللغة الفرنسية وترجمة المناهج الجديدة باللغة الفرنسية، استعدادا لإدخالها في أطر التعليم المصرية. 

وكان الاتفاق بين وزارة التعليم المصرية والوكالة الفرنسية، يشمل تدريب معلمين متمكنين من اللغة الفرنسية.

حيث إن نظام التعليم الجديد سيشتمل على اللغة الفرنسية كلغة أساسية وذلك في جميع المدارس بداية من الصف الأول الإعدادي، وحينها لم يتم الاتفاق بشكل نهائي حول ما إذا كان سيتم إقرارها إجبارية أم اختيارية (حاليا تم إقرارها إجبارية).

تعزيز الفرانكفونية

وفي 29 سبتمبر/ أيلول 2020، أعلنت الوكالة الفرنسية، سير خطة تطوير برنامج اللغة الفرنسية تمهيدا لإدخالها في التعليم المصري.

وقالت إن "دعم تطوير تعليم اللغة الفرنسية يهدف إلى الإسهام في تعزيز الفرانكفونية في مصر". 

وأكدت أنه تم تحسين الكفاءات اللغوية والمنهجية لـ300 معلم ومدرب في اللغة الفرنسية بمقر المعهد الفرنسي في القاهرة.

غير أن هناك جانبا آخر بعيدا عن المدارس الحكومية تتحرك فيه فرنسا بقوة في مصر، وهو المدارس الفرنسية على الأراضي المصرية. 

ففي 21 يناير/ كانون الثاني 2021، قامت الوكالة الفرنسية بإمداد سفارة فرنسا في القاهرة بمبلغ يصل إلى 300 ألف يورو، لصالح دعم 7 مدارس فرنسية في مصر.

وتمثلت تلك المدارس في الليسيه الفرنسية بالقاهرة، والليسيه الفرنسية بالإسكندرية، وليسيه كونكورديا، والبير كامو، وفولتير، والكولاج دي لاسال، إضافة إلى كوليج دو لا سانت فامي (العائلة المقدسة).

ومثلت هذه الخطوة لفتة قوية من السلطات الفرنسية، التي أظهرت الحشد الكامل لصالح تنمية اللغة الفرنسية في مصر، خاصة أنها تتراجع في بلدان أخرى، كانت تعتمد الفرنسية كلغة أولى. 

إهمال العربية 

ومع ذلك، فإن اهتمام السلطات المصرية باللغة الفرنسية وتعزيزها، يأتي في وقت تشهد فيه اللغة العربية تراجعا لافتا في مختلف مناحي الحياة.

بداية من معرفة قواعدها والقدرة على التحدث بها حتى استخداماتها في المجالات السياسية والثقافية والتعليمية.

ووسط هذا الانهيار، بقيت اللغة العربية في مصر، بلا دعم ولا حماية من الأوساط الرسمية في الدولة.

حتى إنه في 20 مايو/ أيار 2020 خلال احتفالية للهيئة العامة للكتاب في القاهرة، عبر الشاعر المصري أحمد عبدالمعطي حجازي، عن استيائه من الحالة التي وصل إليها مجمع اللغة العربية. 

وتحدث عن تبعات التردي للمجمع على اللغة العربية في مصر، موضحا أن العلاقة بين العربية والمصريين تمر الآن بأسوأ مراحلها.

وذكر حجازي أن الفصحى لم يعد منها سوى بقايا، وفي مجالات محدودة جدا، وتتراجع يوما بعد يوم.

ذلك الوضع السيئ غير المسبوق للغة العربية في مصر دفع برلمانيين مصريين للحديث عن الأمر.

وفي 2 ديسمبر/ كانون الأول 2021، قالت رئيسة لجنة الثقافة والإعلام بمجلس النواب، درية شرف الدين، إن "الأخطاء في اللغة العربية أصبحت منتشرة بشدة في وسائل الإعلام".

وأضافت أن "الجرائد والمجلات تمتلئ بأسماء أجنبية، حتى أسماء الأماكن لم تعد عربية، وأصبح من يتحدث العربية وسط الناس كأنه غريب أو من درجة أقل، هكذا ينظر إليه".

ولكن النظام المصري بدلا من الاستماع لتلك الآراء ومعالجتها، توجه أكثر نحو فرنسا، التي يعد رئيسها ماكرون من أكبر داعمي السيسي في أوروبا. 

فرانكفونية زائلة 

ومع ذلك، فإن التقدم المصري نحو اللغة الفرنسية، جاء على النقيض من انحسارها في الجزائر وموريتانيا، على سبيل المثال، بعدما كانت مهيمنة لعقود طويلة. 

وبدأت الجزائر شبه القطيعة مع اللغة الفرنسية، حيث أعلنت في 28 أكتوبر/تشرين الأول 2021، قرارات إنهاء التعامل باللغة الفرنسية في عدة قطاعات حكومية، وسط دعوات لتعزيز مكانة العربية باعتبارها اللغة الرسمية للبلاد، وكذا دعم وجود الإنجليزية في التعليم.

وكانت أشد هذه القرارات إصدار ثلاث وزارات هي: التكوين المهني، والشباب والرياضة، والعمل، تعليمات إنهاء التعامل بالفرنسية، واستخدام العربية حصرا في جميع المراسلات والتقارير ومحاضر الاجتماعات والوثائق.

فضلا عن تداول معلومات مؤكدة داخل وزارات أخرى بوجود تعليمات شفهية من أعلى سلطات البلاد، بإنهاء التعامل بالفرنسية داخل سائر القطاعات الحكومية.

وفي 27 أكتوبر/تشرين الأول 2021، طلب عبد الرزاق قسوم، رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وهو أكبر تجمع للدعاة في البلاد، "التخلي الكامل عن لغة فرنسا وثقافتها".

تحجيم الفرنسية

وفي 19 يونيو/حزيران 2022، أعطى الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، الضوء الأخضر لتدريس اللغة الإنجليزية في المرحلة الابتدائية، لأول مرة في تاريخ البلاد.

ورحبت "جمعيات أولياء التلاميذ والنقابات التربوية" في الجزائر، بقرار إدراج تدريس الإنجليزية، في الطور الابتدائي الذي كان يعتمد على الفرنسية كلغة أجنبية أولى.

ويرى المرحبون بالقرار أن الإنجليزية باتت لغة العلم والتطور والتعامل بين الشعوب، وهو ما يجعل أمر اتخاذها كلغة أجنبية أولى في الجزائر، "حتمية لا مفر منها". 

وكذلك دولة موريتانيا التي تنتشر فيها اللغة الفرنسية على نطاق واسع، ووصل الأمر أن اللغة العربية تعاني لتجد لنفسها موطئ قدم في مناهج التعليم بموريتانيا.

إذ ما يزال استعمالها في التعليم ضعيفا مقارنة بالفرنسية، وهو ما يعد مخالفة صريحة لنص دستور 2017، الذي يجعل العربية لغة دستورية وحيدة.

لكن الدولة العربية بدأت تغير نهجها رويدا رويدا، بعد إقرار الجمعية الوطنية (البرلمان) في 25 يوليوز/تموز 2022، "القانون التوجيهي للتعليم".

والذي يسعى إلى إقامة "نظام تربوي قادر على بناء شخصية الموريتاني المعتز بمقدساته وثوابته، المنفتح على العصر، والمدرك لقيمة التنوع الثقافي واللغوي لمكونات مجتمعه".

ما عد خطوة مهمة نحو تحجيم الهيمنة الفرنسية على التعليم وعلى الجوانب المجتمعية، والخروج من ربقة الفرانكفونية التي استفحلت لسنوات طويلة. 

إرباك للأجيال 

المنهجية المتبعة من قبل النظام المصري لإقحام اللغة الفرنسية بهذا الشكل في دوائر التعليم، دفعت الخبير التعليمي خالد خيري، المدرس السابق بوزارة التربية والتعليم المصرية، للتعليق على الأمر قائلا: "في مصر لا شيء يخضع للدراسة ولا القواعد".

وشدد في حديث لـ"الاستقلال" على أن "العملية التعليمية تسير بشكل عشوائي، وفق رؤية أحادية من الرئيس أو الوزير، وإذا شكلت لجان لإقرار أمر ما، تكون لجان شكلية دورها فقط تزيين المشهد وتجاوز العقبات القانونية والدستورية". 

ولفت إلى أن "مسألة تدريس لغة أجنبية في مراحل معينة أثبتت أنها تؤثر بالسلب على اللغة الأم، وتربك الأجيال التي من المفترض أن تتشرب تماما اللغة العربية، ومن ثم يمكن الحصول على قدر من لغة أجنبية أخرى".  

واستطرد: "لكننا لا حافظنا على اللغة العربية ولا تعلمنا اللغات الأخرى كما ينبغي، فالطالب في المدارس الحكومية يدرس الإنجليزية منذ الصغر، ويتخرج من الجامعة، ولا يستطيع إجراء محادثة بسيطة بعد كل تلك السنوات". 

وأوضح: "حاليا يريدون حمل الطالب على اللغة الفرنسية، بلا طائل، فما جدوى الفرنسية الآن في سوق العمل العالمي؟ وهل هي لغة العلوم أو الحواسيب أو البرمجة أو حتى الدبلوماسية الرفيعة كما كان في السابق؟ بالقطع لا وبالتالي يدل هذا أن القرار عشوائي، له أغراض أخرى". 

واختتم خيري حديثه بالقول إن "اللغة هي الهوية الأولى للأمم، عليها يقام الدين والأخلاق والوازع الوطني، والفكر والثقافة، وإذا اضمحلت أي أمة اضمحلت لغتها واستهانوا بعلومها، قديما كان ملوك أوروبا يتفاخرون بالكلمات العربية وبحفظ أبيات من الشعر العربي".

وتابع: "الآن العكس يحدث، تتسابق بلادنا على اللغات المختلفة فرنسية أو إسبانية أو ألمانية، بينما يهملون أعظم وأرقى اللغات، اللغة العربية".