"استعباط وتهريج".. إنجازات مجمع اللغة العربية بالقاهرة في ظل حكم العسكر

داود علي | منذ عام واحد

12

طباعة

مشاركة

منذ سنوات طويلة، تشهد اللغة العربية في مصر تراجعا لافتا في مختلف مناحي الحياة، بداية من معرفة قواعدها والقدرة على التحدث بها وحتى استخداماتها في المجالات السياسية والثقافية والتعليمية.

ووسط هذا الانهيار، بقيت اللغة العربية في مصر، بلا دعم ولا حماية من الأوساط الرسمية في الدولة، وحتى مجمع اللغة العربية المنوط به هذه المهمة منذ عقود طويلة بات أشبه بالميت إكلينيكيا.

ومن أبرز أسباب اضمحلال دور مجمع اللغة العربية العريق في مصر، إبعاد الكوادر المنتخبة القادرة على بث الروح فيه من جديد، وتعيين مكانهم دميات تابعة للنظام العسكري الذي يهوى السيطرة على كل شيء.

عسكرة العربية

وفي 10 ديسمبر/ كانون الأول 2022، أعلن مجمع اللغة العربية في مصر وفاة رئيسه المعين من قبل النظام العسكري، الدكتور صلاح فضل عن عمر ناهز 84 عاما.

وللدكتور فضل مسيرة مثيرة للجدل، لا سيما قصة صعوده إلى رئاسة المجمع، عندما تدخل النظام العسكري للإطاحة بالشيخ الدكتور حسن الشافعي لصالح فضل، المفضل لدى رئيس النظام عبد الفتاح السيسي.

ورحل فضل وترك خلفه مجمع لغة عربية يعاني من مشاكل عديدة تتجاوز البعد الإداري والبيروقراطي، إلى مشكلة وجود حقيقية، بعد أن فقد دوره والهدف الذي قام لأجله، من الحفاظ على روابط اللغة العربية والنهضة بها بين عموم المصريين والعرب جميعا. 

لكن العكس تماما حدث، حين تراجعت واضمحلت اللغة العربية في البلاد، ولم يعد الاهتمام بها مجديا لصالح لغات أجنبية، إضافة إلى تفشي العامية في معظم مناحي الحياة الرسمية، بما فيها الثقافية والإعلامية.

وأعادت وفاة الدكتور صلاح فضل ذكريات السنوات الأخيرة للمجمع، التي لم تكن على ما يرام.

ففي 19 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، عقد مجمع اللغة العربية جلسة لانتخاب رئيسه، أسفرت عن فوز الدكتور الشافعي لمدة 4 سنوات مقبلة، بعد حصوله على 17 صوتا، مقابل 9 أصوات فقط لمنافسه فضل.

وفقا لنتيجة الانتخابات، والإجراءات الاعتيادية المترتبة عليها، كان يجب تمكين الشخصية المنتخبة، وتسلمها زمام قيادة هذه المؤسسة العريقة.

لكن في 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، أصدر وزير التعليم العالي (آنذاك) خالد عبد الغفار، قرارا بتولي الناقد والكاتب الدكتور صلاح فضل، منصب القائم بأعمال رئيس مجمع اللغة العربية، في إشارة لعدم الاعتراف بنتيجة الانتخابات التي أسقطت فضل.

وصلاح فضل معروف بمواقفه الموالية للسيسي وانقلابه في 3 يوليو/ تموز 2013.

على عكس الشافعي، صاحب المواقف الوطنية المشرفة، والذي أعلن رفضه للانقلاب، وما تبعه من جرائم ومجازر، ما جعله يدفع الثمن طيلة سنوات حكم السيسي.

ولم يدفع الشافعي وحده ثمن غضب السيسي ورغبته، بل مجمع اللغة العربية، واللغة نفسها دفعوا ثمن الاضمحلال في كل شيء، وكان انحدار اللغة العربية دليلا دامغا على انحدار الثقافة والتعليم في بلد يحكمه العسكر. 

التاريخ والهدف

وتأسس مجمع اللغة العربية بالقاهرة في 13 ديسمبر/ كانون الأول 1932، لكن العمل بدأ فيه رسميا خلال عام 1934. 

ونص مرسوم إنشاء مجمع اللغة العربية الذي أصدره الملك فؤاد الأول على أن يتكون المجمع من 20 عضوا من العلماء المعروفين بتبحرهم في اللغة العربية، نصفهم من المصريين، ونصفهم الآخر من العرب والمستشرقين.

كان معيار الاختيار هو القدرة والكفاءة، وكانت تلك أهم ميزة للمجمع المصري عن غيره من المجامع العربية الأخرى، التي اقتصرت عضويتها على مواطني البلد المعني فقط.

وأصبح مجمع اللغة العربية بمثابة قبلة للمفكرين والمثقفين العرب، ومثل واحدة من أذرع القوى الناعمة لمصر.

وتمثل الهدف الرئيس من إنشاء المجمع بحسب المرسوم الملكي المصري (آنذاك)، في أن يحافظ على سلامة اللغة العربية.

وأن يجعلها وافية بمطالب العلوم والفنون في تقدمها، وملائمة لحاجات الحياة في العصر الحاضر.

وأن يحدد في معاجم أو تفاسير خاصة، أو بغير ذلك من الطرق، ما ينبغي استعماله أو تجنبه من الألفاظ والتراكيب. 

وأن يقوم بوضع معجم تاريخي للغة العربية، وأن ينشر أبحاثا دقيقة في تاريخ بعض الكلمات، وتغير مدلولاتها.

وأن ينظم دراسة علمية للهجات العربية الحديثة بمصر وغيرها من الدول العربية.

وأول من ترأس المجمع هو الأستاذ محمد توفيق رفعت. وفي عام 1945، تولى رئاسته الأستاذ أحمد لطفي السيد رائد حركة النهضة والتنوير في مصر في ذلك الوقت.

وفي عام 1963 تولى الدكتور طه حسين، عميد الأدب العربي، رئاسة المجمع.

"استعباط وتهريج" 

وشتان بين وضع اللغة العربية ومجمعها أيام هؤلاء العظماء وبين حالها والقائمين عليها في السنوات الأخيرة التي شهدت سيطرة اللغة الإنجليزية على ألسنة المصريين، خاصة المثقفين منهم.

نظرا لأنها باتت تعبر عن وجاهة اجتماعية، لم تعد تمنحها اللغة العربية المهملة عمدا للمتحدثين بها.

ومطلع نوفمبر/تشرين الأول 2022، أجازت لجنة الألفاظ والأساليب بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، استخدام كلمة "استعبط" في اللغة العربية الفصحى، بعد أن كان ينظر إليها على أنها "من ابتكارات العامية المصرية".

وقال المجمع، عبر فيسبوك، إن "وجه الاعتراض هو عدم ورود كلمة استعبط في المعجمات"، مشيرا إلى أنّ "وجه الإجازة أنه جاء في المعجم الوسيط: رجل عبيط: أي أبله غير ناضج".
 
ونقلت صحيفة اليوم السابع المحلية، عن المتحدث باسم المجمع الدكتور مصطفى يوسف، قوله إن المجمع قد سبق له إجازة الكثير من الألفاظ والأساليب التي تشيع على ألسنة العامة".

وأضاف أن ذلك محاولة من المجمع "لبيان أن العامية –في بعضها– لغة فصيحة سليمة؛ إذ يتوهم بعض الناس عامية بعض ألفاظها، في حين تكون في الواقع غير ذلك؛ وذلك بهدف تقليل الفجوة بين العامية والفصحى".

وعرضت الصحيفة عددا من الألفاظ التي أجازها المجمع، من بينها: التهريجُ، عَمْرةٌ، خربشَ، شبرقَ، أَتَعَشَّم، بَرْطَمَ فلانٌ، تَلَطَّمَ، تَمَشْيَخَ، تهويش، جَرْجَرَ، خَمَّه، الخِناقة، دَبَّسَ فلانًا، دَرْدَبَ، دَكَّن الشيءَ، دَلَقَ/ انْدَلَقَ، رجل لَبْخَهَ، سَتَّفَ، الشَّطارة، شَطَحَ، شَطْحَة".

وفي 20 مايو/ آيار 2020 خلال احتفالية للهيئة العامة للكتاب في القاهرة، عبر الشاعر المصري أحمد عبدالمعطي حجازي، عن استيائه من الحالة التي وصل إليها مجمع اللغة العربية. 

وتحدث عن تبعات التردي للمجمع على اللغة العربية في مصر، موضحا أن العلاقة بين العربية والمصريين تمر الآن بأسوأ مراحلها.

وذكر حجازي أن الفصحى لم يعد منها سوى بقايا، وفي مجالات محدودة جدا، وتتراجع يوما بعد يوم.

وشدد على أن الاهتمام باللغة العربية أصبح شكليا، موضحا أنه في الوقت الذي يحتفل فيه العالم بلغتنا تتراجع اللغة على ألسنة المسؤولين، والكتاب، والمواطنين، والمعلمين، ومن يكتبونها في مصر. 

والوضع السيئ غير المسبوق للغة العربية في مصر دفع برلمانيين مصريين للحديث عن الأمر.

وفي 2 ديسمبر/ كانون الأول 2021، قالت رئيسة لجنة الثقافة والإعلام بمجلس النواب درية شرف الدين، إن "الأخطاء في اللغة العربية أصبحت منتشرة بشدة في وسائل الإعلام".

وأضافت أن "الجرائد والمجلات تمتلئ بأسماء أجنبية، حتى أسماء الأماكن لم تعد عربية، وأصبح من يتحدث العربية وسط الناس كأنه غريب أو من درجة أقل، هكذا ينظر إليه".

وأشارت في كلمتها إلى "الدور المفقود الذي يجب أن يلعبه مجمع اللغة العربية في حماية اللغة من غزو اللغات الأجنبية، وفرض استعمالها في مختلف المحافل والفضائيات والمؤسسات الإدارية والتربوية والإعلامية".

حصاد الاستبداد

وفي قراءته للمشهد، أكد أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر الدكتور محمد أبو زيد، أن تعطيل دور مجمع اللغة العربية لم يكن وليد العصر الحالي فقط، بل هو نتاج 70 عاما من حكم العسكر لمصر.

وقال لـ"الاستقلال"، إن "التعليم الذي كان يتولى زمامه أحمد لطفي السيد وطه حسين وغيرهم من رواد الفكر والثقافة والأدب، آل إلى مجموعة من الجنرالات لا يكادون يفقهون قولا ولا يحسنون فعلا". 

وأضاف: "سنوات ما بعد عام 1952 شهدت بداية عصر الاضمحلال العلمي والثقافي في مصر، وظلت مصر تمضي على قوة الدفع الذاتي التي خلفتها الحركة العلمية في مطلع القرن العشرين، حتى نفد الوقود تماما، وخرجت أجيال بعيدة عن العلوم اللغوية والتكنولوجية". 

حتى من يزعمون أن تخلف اللغة العربية في مصر بسبب طغيان لغات أجنبية كالإنجليزية والفرنسية، هم واهمون، يوضح أبو زيد، فكل ذلك محض أكاذيب، فنحن تراجعنا حتى في حصيلة اللغات الأجنبية.

وأكد أن مصر في وقت من الأوقات كانت مركزا للترجمة ونقل العلوم بين الشرق والغرب.

ودلل على ذلك بالقول: فعلماء مثل رفاعة الطهطاوي وأحمد فتحي زغلول، قاموا بترجمة ونقل أمهات الكتب والروايات الاجنبية إلى العربية الفصحى بطلاقة وبراعة ما زالت باقية حتى اليوم، وأعمالهم تشهد على مدى ثقل العقلية المصرية في ذلك الوقت، والتي كانت متقدمة بسنوات ضوئية عن جيرانها. 

ولفت أبو زيد إلى أن "الأمم القوية الآن مثل تركيا والصين وألمانيا تسعى إلى ترسيخ لغتها وثقافتها، ونشرها في العالم، بينما في مصر يتم الانسلاخ من اللغة والدين معا".

ومضى يقول: "حتى الأفلام العربية تسخر من اللغة ومن مدرسي اللغة العربية، إضافة إلى ما يعرف بظاهرة المهرجانات الشعبية التي أتت على البقية الباقية من الأخلاق واللغة". 

فإن كان مجمع اللغة يحاول بناء لبنة فإن ألف معول يهدمونها، وعلى رأسهم المعول العسكري، الذي أمعن في تهميش كل شيء، فوصلنا إلى هذه المرحلة السحيقة، يضيف الأكاديمي المصري.

وختم بالقول: "حتى إننا على وشك الوصول لسنوات مستقبلية قادمة قد لا يفهم بعضنا بعضا بسبب الهوة بين الطبقات في اللغة والمعرفة، فالوضع يتخطى تطلعات التقدم إلى إنقاذ الأمن القومي المصري".