جدل الأمازيغية يعود.. أصول حقيقية أم مؤامرة فرنسية؟

يوسف العلي | منذ ١٩ ساعة

12

طباعة

مشاركة

تجدد الجدل العربي فيما يتعلق بأصل الأمازيغية، وذلك بعد ظهور المؤرخ الجزائري محمد الأمين بلغيث في مقابلة تلفزيونية أثارت تقاذفات إعلامية بين كل من الجزائر والإمارات.

ووصف بلغيث الأمازيغيين بأنهم "مشروع أيديولوجي فرنسي- صهيوني"، وأنهم بربر أصلهم "عرب فينيقيون"، يمثلون مشروعا سياسيا هدفه تفتيت المغرب العربي.

ويقطن "الأمازيغ" الذين تصل أعدادهم إلى نحو 36 مليونا، في المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا وشمال مالي وشمال النيجر وبجزء صغير من غرب مصر إضافةً إلى جزر الخالدات، ويتحدثون اللغة الأمازيغيَّة، وهي فرع من عائلة اللغات الإفريقية الآسيوية. 

"مشروع صهيوني"

وفي تصريحاته التي أحدثت جدلا كبيرا، قال المؤرخ بلغيث في الأول من مايو/أيار 2025، إنه "ليس هناك شيء اسمه أمازيغية، وإنما هو مشروع أيديولوجي صهيوني- فرنسي بامتياز، لكن يوجد البربر، وهم عرب قدماء، وهذا ما يدين به المؤرخون في الشرق والغرب".

وأضاف بلغيث خلال مقابلة مع سكاي نيوز عربية (إماراتية): "أما الأمازيغية، فإنها بإجماع العقلاء عند ليبيا والجزائر والمغرب، مشروع سياسي لتقويض أركان وحدة المغرب العربي في مواجهة حلم فرنسا الاستعمارية بمغرب عربي فرانكفوني (يتحدث اللغة الفرنسية)".

وتابع: "الأمازيغ يعودون إلى العرب والفينيقيين، والكنعانيين، وهذا سر العداوة بيننا وبين خصومنا في الداخل والخارج، والوثائق تثبت أن ساكني شمال إفريقيا هم من البربر، وهؤلاء ليسوا عرقا ولا توجد لغة اسمها البربرية، وهذا أكده أيضا المؤرخ الفرنسي غابرييل كامبس".

ولفت بلغيث إلى أن "هؤلاء الذين يتبنون المشروع الثقافي الأمازيغي. إذا قلنا لهم أي صفة سواء أنت صهيوني أو يهودي أو مسيحي أو ملحد، فإنهم يتقبلونها، إلا العربي، بالتالي أصبح العرب فوبيا، ونحن هنا لا نضمر عداء ضد أحد".

وبحسب المؤرخ الجزائري، فإنه "منذ تأسيس الأكاديمية الأمازيغية في باريس عام 1967، فإنها تحرض على تفكيك مكوناتنا الاجتماعية، وإلا فنحن بربر أصلنا من العرب".

وأكد بلغيث أنه "ليس هناك شيء اسمها أمازيغ أو أمازيغية، وإنما هناك مكونات بربرية معروفة تصل إلى 13 مكونا، وهي الشاوية، الطوارق، الشلوح.. وغيرهم، وهؤلاء ينتمون إلى الشعب البربري".

وخلص إلى أن "الهوية الأمازيغية لا وجود لها إلا في باريس، وفي المخابرات الإسرائيلية. الناس في أكثر الأحيان يغضبون من الحق، وهو يعلو ولا يعلى عليه".

وعلى ضوء تصريحات بلغيث هذه، أصدرت محكمة الدار البيضاء في العاصمة الجزائرية، أمرا بإيداعه الحبس المؤقت، إذ رأت السلطات أن وصفه الأمازيغية بأنها "مشروع صهيوني فرنسي"، يعد انتهاكا للمبادئ الدستورية وتعديا على مكوّن أساسي من الهوية الوطنية.

وأفاد بيان النيابة العامة الجزائرية في 3 مايو، بأن التصريحات تضمنت "مساسًا صارخًا بالوحدة الوطنية ورموز الأمة"، مما استدعى فتح تحقيق ابتدائي أسفر عن توقيف المشتبه فيه ومتابعته قضائيا بتهم تشمل "المساس بسلامة وحدة الوطن" و"نشر خطاب الكراهية والتمييز".

كما أججت المقابلة أزمة دبلوماسية إعلامية بين الجزائر وأبوظبي، حيث بث التلفزيون الجزائري بعدها تقريرا لاذعا وصف فيه الإمارات بأنها “دويلة”، وأطلق على قادتها ألقابا مثل “اللقطاء فاقدي الشرف والأقزام”، مبينا أنهم "تجاوزوا هذه المرة كل الحدود والخطوط الحمراء".

وسبق أن صرح الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، خلال مقابلة تلفزيونية انتشرت على يوتيوب في 20 سبتمبر/ أيلول 2022، بأنه أمازيغي أبا عن جد، وأن هناك طرحا تاريخيا يفيد بأن الجزائر أمازيغية عرّبها الإسلام.

كما تنص ديباجة الدستور الجزائري على أن “الجزائر جزء لا يتجزأ من المغرب العربي الكبير، وأرض عربية وأمازيغية، وبلاد متوسطية وإفريقية تعتز بإشعاع ثورتها، ثورة أول نوفمبر (تشرين الثاني 1954)”.

جدل واسع

وفجرت تصريحات بلغيث، جدلا واسعا في الأوساط السياسية الجزائرية، ففي الوقت الذي اتهمه فيه البعض بأنه يحمل أهدافا "ماسونية"، فإن آخرين دافعوا عن طرحه ووصفوه بأنه "مناضل بعلمه وكلمته ومواقفه".

وشن الكاتب والمستشار الثقافي الجزائري السابق احميدة العياشي، هجوما حادا على بلغيث، وذهب إلى حد وصفه بأنه "يتكلم بلسان الموساد (جهاز الاستخبارات الإسرائيلي)"، وأن تصريحاته ليست زلّة بل "كلمات مسمومة مدروسة" تستهدف إعادة فتح ملفات الفتنة العرقية.

وربط العياشي خلال تدوينة على "فيسبوك" في 2 مايو، بين خطاب بلغيث وسرديات "الماك" الانفصالية، متهما إياه بلعب دور ناطق غير رسمي لمشاريع وصفها بـ"المشبوهة"، وأنه مرّ بتحول جذري من خطاب توفيقي إلى طرح إقصائي.

و"ماك" حركة جزائرية ذات توجه انفصالي تأسست عام 2002، ويرأسها المغني فرحات مهني، الموجود في فرنسا مع معظم قادتها، وفق السلطات.

وتطالب الحركة باستقلال محافظات يقطنها أمازيغ شرقي الجزائر، وأعلنت في 2010 تشكيل حكومة مؤقتة لهذه المنطقة، وصنفتها الجزائر في مايو 2021 بأنها "منظمة إرهابية".

وعلى الوتيرة ذاتها، هاجم الباحث الجزائري مصطفى صامت، طرح بلغيث، واتهمه بالجهل الفاضح بتاريخ المنطقة.

ورأى أنه يكرّر مزاعم خرافية عن أصول "البربر" وعروبتهم مستندًا إلى روايات أسطورية مثل تلك المرتبطة بإفريقش الحميري (شخصية شبه أسطورية تُنسب إلى العرب البائدة أو العاربة، وتحديدًا إلى ملوك حمير في اليمن).

وبحسب كلام صامت عبر "فيسبوك" فإن الأدلة التاريخية والأثرية تثبت أن مصطلح "أمازيغ" يعود إلى ما قبل الميلاد، وقد ورد بأشكال متعددة في كتابات مؤرخين يونانيين ورومان أمثال هيرودوت وبليني وبطليموس وأميانوس وبروكوبيوس. 

وحذر من خطورة استعمال مصطلح "بربر" الذي يحمل حمولة استعمارية سلبية تعني "الهمجية"، مقابل التسمية الذاتية "أمازيغ" التي حافظت على حضورها في مناطق الطوارق والجنوب وحتى في المصادر الإسلامية القديمة، وفق تعبيره. 

وفي المقابل، دافع عبد السلام باشاغا النائب في البرلمان الجزائري عن حركة “مجتمع السلم” الجزائرية، عن المؤرخ بلغيث بقوله إنه “لم يقل شيئا جديدا، بل أعاد طرح أطروحة موجودة في المدارس التاريخية منذ عقود”.

وبين أن الأطروحة "تفترض وجود جذور فينيقية كنعانية لسكان شمال إفريقيا، وأن الهوية الأمازيغية بالشكل الذي تُطرح به اليوم ليست سوى قراءة حديثة لتاريخ قديم، صيغت بتأثير فرنسي – استعماري واضح".

ورأى باشاغا عبر تدوينة عل "فيسبوك" في 2 مايو، أن "الحملة ضد بلغيث تخفي خلفها استغلالا سياسيا لموضوع الهوية لفرض رؤية أيديولوجية بعينها"، لافتا إلى أن "الأمازيغية تُستخدم في بعض الأوساط كأداة للإقصاء بدل التعايش، وهو ما حذر من تبعاته". 

واتفق النائب مع ما طرحه بالغيث من أن مصطلحي "أمازيغ" و"أمازيغية" لم يكونا متداولين في الأدبيات التاريخية القديمة، وأن مصطلح "البربر" هو السائد تاريخيا.

وأشار إلى أن "الأمازيغية" كمفهوم سياسي برز في سياق الاستعمار الفرنسي ومحاولته لتفتيت الوحدة الوطنية. 

وعلى الصعيد ذاته، وقف الناشط الجزائري، إبراهيم بوحديبة، إلى جانب بلغيث بوصفه "مناضلا بعلمه وكلمته ومواقفه"، مؤكدا أن من يعرف الأخير ويتابع لقاءاته يدرك أن ما جاء في كلامه خلال المقابلة التلفزيونية، هو قول قديم وليس رأيا حديثا.

وأوضح بوحديبة عبر تدوينة على "فيسبوك" في 3 مايو، أن "بلغيث بربري نموشي من تبسة (أقصى الشرق الجزائري)، فهو لا ينكر أصله وانتماءه، كما لا ينكر وجود بربر سكنوا البلاد قبل مجيء المسلمين بقرون".

وشدد على أن "ما يصرح به هو وغيره من عقلاء ووطنيي المؤرخين والعلماء، أن الأمازيغية كفكرة سياسية مناوئة، لم تبرز إلا مع وجود الملعونة فرنسا على أرضنا، وأنها خُلقت لتفريق الشعب الواحد وأن أيادي وتحركات الصهيونية قديما وحديثا، بارزة (حقيقة) لا تحتاج للتدليل عليها".

"فرّق تسد"

التباين والجدل الأخير لم يكن جديدا، فهو يظهر على الساحة الجزائرية بين الحين والآخر، وسبق أن تحدث مؤرخون جزائريون عن هذه القضية.

ويرى هؤلاء أن "الأمازيغ" هم عرب في أصلهم، ويؤكدون على الدور الذي لعبته الأكاديمية الأمازيغية بباريس في هذا السياق.

وقال المؤرخ الجزائري، مصطفى نويصر: إنه “قبل 1830 ميلادية، لم يكن الجزائريون يعرفون شيئا اسمه البربرية”.

وأردف: "كما هو معروف لدى جميع المؤرخين والمهتمين بالتاريخ، فإن الفترة ما بين الفتح الإسلامي لبلاد المغرب في القرن السابع الميلادي وأواسط القرن التاسع عشر كانت بحق فترة انسجام وانصهار تام بين السكان سواء المتحدثين بالعربية أو بمختلف اللهجات البربرية".

وأضاف بونصير خلال مقابلة مع صحيفة "الشروق" الجزائرية في 20 أبريل/ نيسان 2018، أن "الأمور بدأت تتغير بعد وصول الفرنسيين إلى الجزائر وبدأوا سياسة جديدة تتمثل في التمييز بين الناطقين باللغة العربية وبالبربرية وفق نظرية فرق تسد الشهيرة".

وأردف: "وقد فضح الباحثان التقدميان (الفرنسيان) فيليب لوكا وجون كلود فاتان في كتابهما -جزائر الأنثربولوجيين- هذه السياسة بالتفاصيل الدقيقة.. وهناك عشرات الكتب أيضا التي تطرقت إلى هذا الموضوع وهو قضية التفرقة والتمييز بين السكان".

ومن جهة أخرى، يؤكد المؤرخ أن “الفرنسيين حاربوا اللغة العربية وضيقوا عليها مند البداية بصفتها لغة الإسلام الذي يعدونه عدوهم الأبدي”.

وقد أقر بذلك غلاة الاستعماريين وهم كثر ومنهم جاك شوفالي الذي رأى أن تعليم اللغة العربية يعني دفع المسلمين أكثر فأكثر إلى الإسلام.

ويعني ذلك وفق بونصير "تمكين العلاقة مع الجامعة العربية وإدخال البربر تحت سلطة الإسلام عن طريق اللغة العربية"، بحسب معتقداتهم.

وقبله صرح أيضا "يوتي" (من غلاة المستعمرين الفرنسيين) بأن “اللغة العربية هي عامل الأسلمة؛ لأنها لغة القرآن، ومصلحتنا تحتمّ علينا أن نخرج البربر من إطار الإسلام”، وفق بونصير.

وأردف: “لذلك علينا أن نستعمل اللغة وهنا يستوجب علينا ربط البربرية بالفرنسية، لهذا نحن بحاجة إلى المتبربرين، وينبغي أيضا إنشاء المدارس الفرنسية البربرية”.

وأشار إلى أن الأكاديمية البربرية التي تأسست في العاصمة الفرنسية باريس في ستينات القرن الماضي استطاعت أن تنمي جيلا كاملا مؤمنا بأفكارها وأطروحاتها، وأنها ركزت كثيرا على القبائلية بصفتها اللغة البربرية وأعطتها الحروف اللاتينية، ولهذا في اعتقادي من الصعب تغيير الأمور بسهولة.

وفي السياق ذاته، سبق أن أكد الكاتب والدبلوماسي الجزائري الراحل عثمان سعدي، أنه "قبل دخول المستعمر الفرنسي المغرب العربي ابتداء من الجزائر سنة 1830، لم يكن هناك أمازيغي واحد قال بأنه أمازيغي وليس عربيا، أو طالب باعتماد اللغة الأمازيغية بدل العربية". 

وأضاف سعدي خلال مقال نشرته صحيفة "الرأي العام" في 18 ديسمبر/ كانون الأول 2018، أنه "حتى قبل الإسلام كانت توجد بالمغرب العربي لغة فصحى عروبية مكتوبة هي الكنعانية - الفينيقية، محاطة بلهجات شفوية أمازيغية عروبية قحطانية، ولمدة سبعة عشر قرنا.

وعندما جاء الإسلام حلت العدنانية التي نزل بها القرآن الكريم محل اللغة الكنعانية، وفق قوله.

وأردف: “استمر المغاربة بالتعامل مع العربية كلغتهم وأسهموا في تطويرها، مثل صاحب كتاب الآجرومية ابن آجرّوم العالم الأمازيغي من المغرب الأقصى المتوفى سنة 672 للهجرة”.

وأيضا "مثل ابن معطي الزواوي المتوفى سنة 628 للهجرة الأمازيغي من بلاد القبائل، الذي نظم النحو العربي في ألف بيت، سابقا بقرن كامل ابن مالك الذي توفي سنة 730 للهجرة".