"لا نقبل الذوبان".. هكذا ترد الجزائر على مزاعم خسارتها بتخليها عن الفرنسية

أحمد يحيى | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

على مدار قرنين من الزمن، وخلال الحقبة الاستعمارية الفرنسية للجزائر التي استمرت قرابة 132 سنة (1830 -1962)، حرص المستعمر على نشر لغته وثقافته، فأصبح البلد العربي الإسلامي يعاني من "الفرنسة" وصبغة المحتل التي قاومها، كما قاوم عساكره وجنوده على الأرض.

وفي الفترة الأخيرة مع تصاعد الخلافات السياسية بين باريس والجزائر، على وقع تصريحات الرئيس إيمانويل ماكرون التي شكك فيها بوجود "أمة جزائرية" قبل الاستعمار الفرنسي، أخذت الجزائر خطوات متقدمة في التخلص من اللغة الفرنسية واستبدال العربية أو الإنجليزية بها.

هذه الخطوات تعتبر، وفق مراقبين، دلالات على فقدان الإليزيه جزءا كبيرا من قوته الناعمة وسيطرته على منطقة نفوذه القديمة في شمال إفريقيا. 

وعلى الجانب الآخر، فإن سعي "بلد المليون شهيد" إلى تجاوز حقبة الاستعمار نهائية، وإرثه العتيق، له ميزات عدة على الأجيال الحالية والقادمة، مع استكمال عملية التحرر التي بدأت قبل عقود طويلة مع اندلاع ثورة التحرير الجزائرية، وما زالت مستمرة.

مسارات القطيعة

تتحرك العلاقات الجزائرية الفرنسية من أزمة إلى أزمة خلال الفترة الأخيرة، وفي مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2021، فجرت تصريحات ماكرون التي نقلتها صحيفة "لوموند"، إشكالية عميقة مع الجزائر، بعدما نالت "الأمة الجزائرية" وتاريخها.

وشكك الرئيس الفرنسي في وجود أمة جزائرية من الأساس، قبل الاستعمار الفرنسي للبلاد عام 1830، متسائلا بتعجب: "هل كانت هناك أمة جزائرية قبل الوجود الفرنسي في تلك الأرض؟". 

لكن رد الجزائر جاء "سريعا" عندما استدعت سفيرها لدى فرنسا للتشاور، واصفة تصريحات الرئيس الفرنسي بـ"غير المسؤولة".

وفي 10 أكتوبر/تشرين الأول 2021، طالب الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، باريس بـ"الاحترام الكامل" لبلاده، قائلا إن "على فرنسا أن تنسى أن الجزائر كانت مستعمرة لها في يوم من الأيام".

لكن الخطوات الأهم جاءت مع إعلان الجزائر شبه القطيعة مع اللغة الفرنسية، حيث بدأت منذ 28 أكتوبر/تشرين الأول 2021، قرارات إنهاء التعامل باللغة الفرنسية في عدة قطاعات حكومية، وسط دعوات لتعزيز مكانة العربية باعتبارها اللغة الرسمية للبلاد، وكذا دعم وجود الإنجليزية في التعليم.

وكانت أشد هذه القرارات إصدار ثلاث وزارات هي: التكوين المهني، والشباب والرياضة، والعمل، تعليمات إنهاء التعامل بالفرنسية، واستخدام العربية حصرا في جميع المراسلات والتقارير ومحاضر الاجتماعات والوثائق.

فضلا عن تداول معلومات مؤكدة داخل وزارات أخرى بوجود تعليمات شفهية من أعلى سلطات البلاد، بإنهاء التعامل بالفرنسية داخل سائر القطاعات الحكومية.

لكن الضربة الأخيرة للغة الفرنسية داخل منظومة الدولة الجزائرية، ليست جديدة أو وليدة الأزمة المستجدة، بل هناك توجه منذ سنوات بتخفيف التعامل بهذه اللغة داخل أروقة الدولة.

وكانت وزارة الدفاع الجزائرية سباقة لإنهاء التعامل بالفرنسية في مختلف إداراتها العسكرية وشبه العسكرية، وذلك منذ سنوات طويلة، لكن العملية تسارعت وتيرتها خلال العقد الأخير تحديدا، باستبدال الإنجليزية بالفرنسية في كل لافتات المؤسسات التابعة لها.

هذا المسار اتخذته وزارة العدل أيضا خلال السنوات الماضية، باستبدال العربية بالفرنسية في معاملاتها الإدارية، كما أن القضاة يرفضون محاكمة المتهمين الناطقين بالفرنسية دون حضور مترجمين، ويصدرون أحكامهم ويوثقونها باللغة العربية حصرا.

وفي 27 أكتوبر/تشرين الأول 2021، أعلن عبد الرزاق قسوم، رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وهو أكبر تجمع للدعاة في البلاد، أن أفضل رد على تصريحات ماكرون، المسيئة إلى الجزائر "هو التخلي الكامل عن لغة فرنسا وثقافتها".

وقال قسوم لوكالة "الأناضول" التركية الرسمية، إن "أحسن جواب نجيب به هؤلاء (الفرنسيين) هو وحدة الصف والكلمة والعودة إلى الذات، لأنها تعني التخلي عن لغة العدو وثقافة العدو، وكل ما من شأنه أن يلحق المساس بسيادتنا وهويتنا وشخصيتنا".

لا للفرنسة 

عادة ما تشهد الجزائر جدلا بشأن مكانة "الفرنسية" في الأوساط الرسمية بالدرجة الأولى، والاجتماعية كذلك، حيث يحتج معارضون، لا سيما من المحافظين القوميين والإسلاميين، على خطابات رسمية بالفرنسية، وتداول وثائق في الإدارات الحكومية بهذه اللغة الأجنبية، التي تمثل تهديدا للأمن القومي. 

هذه الظاهرة دفعت الباحث السوسيولوجي الجزائري رابح سعد، لإصدار كتابه عام 2015، بعنوان "الجزائر واللغة الفرنسية أو الغيرية المتشاركة"، مقدما معالجة متقدمة لأزمة الهوية بين اللغة العربية، التي تمثل للمجتمع الجزائري رمز هويته ودينه، واللغة الفرنسية التي لا تزال تفرض وجودها رغم أنها ترمز إلى الاستعمار.

وقال سعد: "يمكن القول إن تجذر اللغة الفرنسية في الواقع المعيش للجزائري وفي مخيلته الجمعية يرجع لحقائق لا ينبغي إنكارها لفهم التناقض الوجداني الذي يعيشه المجتمع بين هيام بسحر الثقافة الفرنسية ولغتها كونه أكثر المجتمعات استهلاكا لها، وبين الخطاب الرافض لها باعتبارها لغة أجنبية ترمز إلى وجود عدائي استعماري في حقبة مضت". 

وذكر أن "الفرنسية مثلت لمدة زمنية طويلة لغة تعامل بها الجزائريون في انتقالهم من مجتمع قبلي إلى الدولة الموحدة المبنية على مؤسسات إدارية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، لا يجب طمس حقيقة أن أغلب النخبة الدارسة عشية الاستقلال كانت مفرنسة أكثر من كونها معربة".

وهو الأمر الذي شدد عليه الكاتبان الجزائريان حمدان خوجة، وأحمد باي في كتابهما "مظاهر مقاومة سياسة الفرنسة والحفاظ على اللغة العربية"، إذ ذكرا في مقدمته أن "الفرنسيين قاموا بجرائم ثقافية أرادت محو أصول الشعب الجزائري، واقتلاعه من جذوره، على غرار ما فعل الاستيطان الأوروبي في أميركا".

واستدركا قائلين: "لكن هذا الشعب بأطيافه المختلفة سجل عبقريته وصلابته وقوة انتمائه الحضاري منذ البداية إلى غاية الاستقلال بأنه شعب غير قابل للذوبان". 

وعي ثقافي

ووصف المحامي الجزائري قاسم يحيى، فرنسا بـ"العدو اللدود التاريخي للأمة الجزائرية"، مشددا على ذلك بالقول: "لم يفعل عدو بالجزائر وأهلها مثلما فعل المستعمر الفرنسي".

وأوضح يحيى في حديث مع "الاستقلال" أن "الجزائر دفعت أكثر من مليون شهيد وهي تقاومه وتطلب خروجه من بلادها، التي نهب خيراتها على مدار 130 سنة كاملة، من الفساد والتخريب، ومحاولات تغيير الهوية وطمس التاريخ، وتحويلها إلى مقاطعة فرنسية خالصة، وهو ما رفضه شعب الجزائر الأبي". 

واستطرد: "يبدو أن المستعمر لم يكفه ما فعل وما فات، ويحاول محق التاريخ بأكمله حين شكك ماكرون في وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي، وهي أطروحة ممزوجة بالجهل والمكر في آن واحد".

وتابع: "ماكرون يريد من جهة مخاطبة اليمين المتطرف ودعاة القومية في بلاده المناهضين للوجود الجزائري، والذين يرون أن النفوذ الفرنسي مازال ممتدا في الجزائر، ومن جهة أخرى يحاول أن يغسل ثوب عار المحتل والجرائم البشعة التي ارتكبتها القوات الفرنسية في بلادنا خلال الثورة وما قبلها".

وقال يحيى: "ومع كل ذلك يجب ألا نغفل أن الإشكالية القائمة حول وضعية اللغة الفرنسية داخل المجتمع الجزائري لا يمكن تغييرها بسهولة، نتيجة الوعي الثقافي والتاريخي الجماعي القديم والمتجذر". 

وأضاف: "لفهم أسباب انغماس لغة أجنبية في جوانب مختلفة من الحياة اليومية للجزائريين، لابد من ذكر التناقض الذي يستمر يوميا، ما بين العدائية للاستعمار، وهو ما ولد حالة الرفض للغة، وما بين أهميتها في وسائل التعليم وتطلعات الهجرة والسفر إلى فرنسا، ما ولد رغبة أيضا في تعلمها وممارستها".

وشدد يحيى على أن "مشروع تجاوز اللغة وترسيخ اللغة الأم، هو مشروع قومي يحتاج إلى تعاضد كامل من أجهزة الدولة والمنظمات المدنية والجمعيات بمختلف توجهاتها الاجتماعية والدينية".

وأضاف "نحتاج إلى علماء لغة وعلماء نفس واجتماع، ووضع قاموس كامل لاستبدال المصطلحات العربية بالمصطلحات الفرنسية التي غزت لغتنا، مع عمل وسائل الإعلام، خاصة الموجهة للأطفال، لأن العملية لن تكون سهلة بعد مرور كل هذه السنوات، ولكنها ستكون ضرورية لاستكمال مشروع التحرر الوطني الجزائري". 

وأكد يحيى أن "الجزائر في حاجة ماسة إلى التخلص من اللغة الفرنسية بطريقتها الحالية لمجموعة من الأسباب، أولا أن فرنسا خطر على الجزائر كونها مستعمرا قديما وترى لها قدما ونفوذا بالداخل، وتحاول أن تجعل لها نخبة خاصة بها في الحكومة والجيش ومراكز الأمن، فضلا عن المؤسسات التعليمية والثقافية، وهذا يضر بالأمن القومي والاستقلالية". 

وأردف: "الأمر الثاني أن اللغة الفرنسية ليست لغة العلم والتداول العالمي كالإنجليزية، وبالتالي اعتمادها لغة أساسية يؤخر الجزائر عن مواكبة الحركة العلمية الكبرى في مختلف المجالات، وكذلك ليست لغة ديننا وهويتنا كالعربية، التي نحتاج إلى الارتكاز عليها وتعليمها لأبنائنا، حتى يتعلموا دينهم وثقافتهم الأصيلة".