فساد ينخر السلطة.. كيف انعكس على الواقع الفلسطيني؟

عدنان أبو عامر | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

أثارت فضائح فساد السلطة الفلسطينية، التي ظهرت مؤخرا، والمتعلقة بإهدار المال العام، واستغلال النفوذ، وغسيل الأموال، والتكسب من الوظيفة العمومية، تساؤلات كثيرة حول انعكاساتها على الواقع الفلسطيني، عقب مطالبات دولية تطالب بالتحقيق في هذه القضايا.

ولعل أبرز تلك التساؤلات، تدور حول الظهور المفاجئ لهذه الفضائح، وهل المسألة تتعلق بتصفية حسابات بين مسؤوليها، وتحضير لغياب متوقع للرئيس محمود عباس، وإزاحة المنافسين لبعضهم البعض؟ وكيف ستكون مآلاتها؟ وهل تحدث تحقيقات قضائية جادة، أم إسقاط لقرارات سياسية فقط؟

شهادات وإفادات

انشغل الفلسطينيّون في الأيّام الأخيرة بمتابعة الكشف عن مزيد من فضائح فساد السلطة الفلسطينية، الّتي حملت أسرارا جديدة عن علاقات عدد من رجالاتها بقضايا الفساد والتهرّب الضريبيّ والتكسّب من المال العام، ولعلّ خطورتها أنّ بعض الأسماء الواردة على صلة وثيقة بدوائر صنع القرار الفلسطينيّ، وصولا إلى محمود عبّاس.

بدأ مسلسل نشر الفضائح من الناشط فايز السويطي، الذي أسس "الحراك الفلسطيني ضد الفساد"، أوائل يونيو/حزيران الجاري، حتى تم اعتقاله بعد أيام من جهاز الأمن الوقائي، بعد نشر وثائق تدين حسين الشيخ وزير الشؤون المدنية بالفساد وشراء الأراضي على حساب المال العام.

وزير الشؤون الاجتماعية السابق شوقي العيسة، كشف عن بعض قضايا الفساد، ومنها ملف بدل السفر للوزراء الفلسطينيين، الذي يثقل كاهل الميزانية، وفيه كثير من الاحتيال، وفي حال فتح هذا الملف بأثر رجعي، فسيتم تحصيل ما صرف بغير حق، مما سيزيد من موازنة السلطة الفلسطينية.

وكشف العيسة، أن استقالته من حكومة التوافق الوطني في 2017، كانت بسبب رفض رئيسها رامي الحمدلله تعيين موظفين أكفاء غير فاسدين، وترقية سواهم من الفاسدين في السلك الحكومي.

ولفت إلى أنه حتى زيارة وفد الحكومة الفلسطينية إلى غزة في 2018، كلفت موازنة السلطة قرابة مائة ألف دولار خلال ثلاثة أيام فقط، شملت إيجار الفندق، وتكلفة الطعام، والصرف على المرافقين الذين يفوق عددهم خمسة أضعاف الوزراء، وهذه المصاريف بحاجة للجان تحقيق لوقف إهدار ميزانية السلطة.

وعلى الوتيرة ذاتها، كشف نقيب الموظفين الفلسطينيين السابق بسام زكارنة، أن ما صرف للوزراء حصل خارج نطاق القانون، لأنه تم بناء على طلب الوزراء من الرئيس عباس، وليس وفقا للأصول القانونية، ومنح الوزراء بدل السكن بقيمة عشرة آلاف دولار شهريا.

أما الخبير الاقتصادي نهاد نشوان، فقد قال، إن مراجعة البيانات المالية الفلسطينية الموجهة لهيئة الإذاعة والتلفزيون ووكالة الأنباء الرسمية "وفا"، تبين أن موازنتهم تعادل موازنة هذه الوزارات مجتمعة: الاقتصاد، الإعلام، النقل والمواصلات، شؤون المرأة، العدل، السياحة، بقيمة 182 مليون شيكل سنويا (1 شيكل إسرائيلي= 0.28 دولار أمريكي)، وهذه سابقة في فساد الحكم، وكيفية تخصيص أموال شعب محتل لتلفزيون فاشل.

وتحدث مصدر مسؤول في الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة "أمان"، طلب عدم كشف هويته، لموقع "الاستقلال"، أن "تقارير الفساد في السلطة تؤكد الشكوك في شفافية آليات التوظيف للمناصب العليا، فالعام 2018 لوحده صدر فيه 39 قرارا للتعيينات العالية شملت 62 موظفا، لم يتم الالتزام فيها بمبدأ تكافؤ الفرص والمنافسة النزيهة، ومن أبرزها: سـفراء، مستشارين، رؤسـاء هيئات مؤسسـات عامـة، وكلاء وزارات، مـديرو عموم، محافظون، مما يكشف عن تراجع وتدهور خطير في مؤشر النزاهة والشفافية بأداء السلطة الفلسطينية في التعيينات والموازنة العامة، واستحواذ الطبقة المتنفذة على التعيينات العليا، بسبب غياب الرقابة".

غياب المحاسبة والرقابة

منذ نشأة السلطة الفلسطينيّة عام 1994، دأبت منظّمات محليّة ودوليّة على إصدار تقارير تتابع ملفّات الفساد داخل وزاراتها ودوائرها الحكوميّة، حيث لم يقتصر فسادها على تجاوزات إداريّة وماليّة بحتة يرتكبها أفراد غير مسؤولين بدافع المصالح الشخصيّة، بل فساد مزمن ومتأصّل في هيكل السلطة الأساسيّ.

كشفت أول عملية تدقيق فلسطينية في 1997، أن 40 بالمئة من ميزانية السلطة، بما يصل 326 مليون دولار أُسيء استعمالها، فيما حوَّلت إسرائيل 500 مليون دولار لحسابات بعض المسؤولين الفلسطينيين في بنوكها.

كما اغتنت النخبة السياسية المرتبطة بالسلطة الفلسطينية على حساب بقية الفلسطينيين، عبر التفاوت المفرط في مستويات الدخل، ففيما يتقاضى بعض كبار الوزراء والمسؤولين مرتبات شهرية تفوق عشرة آلاف دولار، مع امتيازات أخرى، فإن ثلثي موظفي القطاع العام يتقاضون بين 515 إلى 640 دولار شهريا.

وسادت حالة من الغضب في الشارع الفلسطيني، بعد تسريبات كشفت الزيادة السرية برواتب وزراء السلطة، وأظهرت أن رئيس السلطة عباس، صادق على زيادتها بنسبة 67 بالمئة ومكافآت سخية، فيما يعاني الاقتصاد الفلسطيني من أزمة خانقة، وضائقة مالية بسبب تقليص الحكومة لرواتب موظفيها، وتحمل العائلات الفلسطينية نفقات مرتفعة.

كشفت الوثائق المسربة، عن ارتفاع الرواتب الشهرية لوزراء السلطة من 3 إلى 5 آلاف دولار، وارتفع راتب رئيس الوزراء لـ6 آلاف دولار، وتم الإبقاء على الزيادات سرا عن الجمهور، في تجاهل واضح لقانون 2004 الذي يحدد رواتب الوزراء، وتمت زيادة الرواتب بأثر رجعي، مما منحهم زيادة إضافية بقيمة عشرات آلاف الدولارات.

يحيى موسى، رئيس لجنة الرقابة وحقوق الإنسان في المجلس التشريعي، قال في حديث لـ"الاستقلال": إن "هذه الفضائح كشفت المزيد من الحقائق عن فساد السلطة الفلسطينيّة، فهي تمنح بيئة مثاليّة لظهور الفساد، لأنها ذات مهام أمنيّة لصالح إسرائيل، ومقابل أدائها لها يتغاضى المجتمع الدوليّ عن فسادها، فأصبح شريكا لها، ويغضّ الطرف عن الفساد المالي والاقتصادي لكبار رجالاتها من المحيطين بالرئيس عباس، ويتركهم يتلاعبون في المساعدات الاقتصادية الآتية من الدول المانحة".

وأضاف، أن "قرار عباس في يناير/كانون الثاني الماضي، حل المجلس التشريعي ساهم بغياب الرقابة عن أداء السلطة التنفيذية، وانتشار قضايا الفساد بدون محاسبة، مما يجعلنا نعتقد بوجود مأسسة للفساد لدى السلطة، وعدم النظر إليه على أنه حالات فردية لهذا المسؤول أو ذاك".

زواج المال بالسياسة

الأخطر في قضايا فساد السلطة، أن جمعية "يدا بيد نحو وطن خال من الفساد" كشفت الرواتب الشهرية الضخمة لعدد من الوزراء والمسؤولين الفلسطينيين، ومنهم وزير الاقتصاد السابق ورئيس صندوق الاستثمار محمد مصطفى، الذي بلغ 65 ألف دولار، وراتب رئيس سلطة النقد عزام الشوا وصل لـ 50 ألف دولار، أما رئيس سلطة مكافحة الفساد رفيق النتشة، فبلغ 12 ألف دولار، ووصل راتب الرئيس السابق للمجلس التشريعي روحي فتوح لـ 10 آلاف دولار.

أثار تورط بعض الشخصيّات الفلسطينيّة الرسمية بقضايا الفساد، قلقا في أوساط السلطة، الأول سياسيّ، خشية خضوعها لضغوط ومساءلة دوليّة حول دورها في الاستخدام السيئ للأموال، والثاني، ضرر اقتصادي تمويليّ مرتبط بتراجع الجهود الدوليّة للنهوض بالاقتصاد الفلسطينيّ، دون رؤية تحرّك قضائيّ على المستوى الفلسطينيّ المحليّ للتّحقيق بهذه الملفات.

يتزامن نشر فضائح الفساد مع نتائج استطلاع للرأي العام أجراه المركز الفلسطينيّ للبحوث السياسيّة والمسحيّة في الضفّة الغربيّة، ونشره في أبريل/نيسان الماضي، جاء فيه، أنّ نسبة الفلسطينيّين الّذين يعتقدون بوجود فساد في السلطة تبلغ 82 بالمئة، وقال 47 بالمئة أنها أصبحت عبئا على الشعب الفلسطيني.

العلاقات الزبائنية

محمد أبو جياب، رئيس تحرير صحيفة الاقتصادية، قال لصحيفة "الاستقلال": إن "نشر القضايا الأخيرة، يسلط الضوء على شبهات بالفساد ثقيلة العيار في السلطة، كتبييض الأموال والتهرّب الضريبيّ، لكنّ مظاهر فساد السلطة أكثر من أن تحصى، بين السرقة المباشرة للمال العام، وتلقّي رشاوى ماليّة مقابل تقديم خدمات حكوميّة، ومشاركة مسؤولين فلسطينيّين رفيعي المستوى في شركات تجاريّة خاصّة، ونقل ملكيّة بعض الأراضي الحكوميّة لمسئولين، والقيام بجولات شخصيّة خارجيّة حول العالم على حساب السلطة، وتعيين الأقارب في الوظائف الحكوميّة".

وأضاف، أن "ردود الفعل الأولية على نشر فضائح الفساد لا تشير إلى صحوة ضمير لمسؤولي السلطة الفلسطينية، بدليل أننا لم نسمع في الأيام الماضية عن أي إجراءات إدارية أو حكومية لكبح هذه الظواهر السيئة، بل هناك حالة من التستر عليها، واتهام من يكشفها بالعمل ضد السلطة الفلسطينية".

وبحسب مراقبين، فإن الفساد في مؤسّسات السلطة يقوم على "الشبكات الزبائنيّة"، الّتي تحكم طبيعة العلاقات في مؤسّساتها وإداراتها، وتمنح النخبة الفلسطينيّة الحاكمة أداة إستراتيجية للسيطرة على القواعد الشعبية، وتوسيع شبكة مؤيّديها بإعادة توزيع الموارد العامّة لشراء الولاءات السياسيّة، ممّا ساعدها في المحافظة على الوضع الراهن، والهيمنة على الأصول السياسيّة والاقتصاديّة، وتنفيذ أجندتها السياسيّة دون معارضة فاعلة.

وأشاروا إلى أن فضائح الفساد هذه تؤكّد أنّ السلطة أصبحت كأنها منظّمة غير حكوميّة، والفساد أحد مكوّناتها، وتتقاضى الريع الماليّ لتثبيت "اتّفاق أوسلو" مع إسرائيل، وتمارس "بيزنس" علنيّا، وتنتج فسادا يكتسب الشرعيّة، إضافة إلى أن الدول المانحة لا تمارس رقابتها على السلطة، ممّا يوصلنا لنتيجة مفادها بأنّ كشف هذه الفضائح، لن يؤثّر على استمرار الدعم الدوليّ للسلطة الفاسدة، بل سيتواصل، طالما أنّها تواصل التزامها بمشروعها السياسيّ مع إسرائيل.