من شركة حكومية مصرية إلى ذراع عسكرية.. قصة ابتلاع "العربية لاستصلاح الأراضي"

داود علي | منذ ١٤ ساعة

12

طباعة

مشاركة

في تغول جديد لأحدث أذرع الجيش المصري الاقتصادية، أقدم جهاز "مستقبل مصر للتنمية المستدامة" التابع للقوات الجوية، على الاستحواذ على شركة “العربية لاستصلاح الأراضي”، وهي واحدة من أقدم وأربح الشركات الحكومية الزراعية، في صفقة مثيرة للجدل.

الاستحواذ الذي جرى في 18 أغسطس/ آب 2025، تم في غياب أي منافسة أو شفافية، وبقيمة لا تعكس مكاسب “الشركة العربية” التي حققت أرباحا جيدة في ميزانيتها الأخيرة، مما يثير تساؤلات حادة حول سر الإصرار على ابتلاع مؤسسة حكومية رابحة تحت ذريعة "إعادة الهيكلة".

كما أن الصفقة تعكس واقعا مريرا يتمثل في غياب الرقابة والمحاسبة على أنشطة الأجهزة العسكرية الاقتصادية، في وقت يطالب فيه صندوق النقد الدولي وخبراء الاقتصاد بضرورة انسحاب الجيش من الاقتصاد وترك المجال للاقتصاد المدني والقطاع الخاص.

وما يزيد الصورة قتامة أن جهاز "مستقبل مصر" لم يكتف بالسيطرة على شركات استصلاح الأراضي، بل تمدد خلال سنوات قليلة من الأراضي إلى البحيرات. 

ومن مشروعات التصنيع الزراعي إلى احتكار استيراد القمح والسلع الإستراتيجية، حتى صار جهازا واحدا يمسك بمفاتيح غذاء المصريين، بلا ضوابط أو مساءلة.

سطو ناعم 

ومما تتضمنه تفاصيل الصفقة التي أعلن عنها الجهاز التابع للجيش، أنه استحوذ على 89.66 بالمئة من أسهم الشركة العربية لاستصلاح الأراضي، إحدى أعرق شركات قطاع الأعمال الزراعية بمصر، مقابل 23.3 مليون جنيه فقط (أكثر من 4 ملايين دولار)، وفقا للإفصاح المقدم إلى البورصة المصرية.

وقد وصفت بكونها "سطوا ناعما" على المال العام، إذ جرى تقييم السهم عند 5 جنيهات بالقيمة الدفترية، بينما كان سعره السوقي يتجاوز 106 جنيهات عند إغلاق جلسة التداول الأخيرة، أي أن الجهاز اشترى الشركة بما لا يزيد على 5 بالمئة من قيمتها الحقيقية.

وأن الأسهم المباعة كانت مملوكة لـ الشركة القابضة لاستصلاح الأراضي وأبحاث المياه الجوفية، وهي شركة حكومية يملكها الشعب دستوريا. 

وبذلك يكون الجهاز قد استحوذ على شركة رابحة حققت في 2024 نحو 18 مليون جنيه (أكثر من 3 ملايين دولار) أرباحا صافية من إجمالي إيرادات بلغت 152 مليون جنيه، بثمن بخس لا يتناسب مع أصولها ولا مع نتائجها المالية.

شركة مربحة 

وتولت شركة "إي إف جي هيرميس" مهام نقل ملكية أسهم "العربية لاستصلاح الأراضي" إلى جهاز مستقبل مصر عبر البورصة المصرية. 

وبحسب بيان البورصة، جاءت الصفقة تحت غطاء "خطة إعادة الهيكلة"، وهو التبرير الرسمي الذي استخدم لتسويغ بيع الأسهم بالقيمة الدفترية القليلة، وهو ما وفر للجهاز العسكري وللشركة المبيعة إعفاء عمليا من الرسوم والضرائب والعمولات المرتبطة بالصفقات السوقية.

أما الشركة العربية نفسها، فهي ليست كيانا هامشيا بل مؤسسة راسخة في قطاع استصلاح الأراضي، تأسست بموجب القرار الجمهوري رقم 1016 لسنة 1964 كشركة مساهمة مصرية. 

وعلى مدار عقود، خضعت لتغييرات إدارية متتالية، حيث ألحقت عام 1983 بـ"هيئة القطاع العام للتعمير"، ثم نقلت عام 1987 إلى "هيئة القطاع العام لاستصلاح الأراضي". 

ومع صدور قانون شركات قطاع الأعمال العام عام 1991 أصبحت إحدى الشركات التابعة للشركة القابضة لاستصلاح الأراضي، قبل أن تدمج لاحقا في الشركة القابضة للأشغال واستصلاح الأراضي.

ورغم هذه التحولات، ظلت "العربية" حاضرة في السوق وتحقق نتائج إيجابية. 

بمعنى آخر، لم تكن الشركة خاسرة أو على وشك الانهيار كما يروج مبررو الاستحواذ، بل كيان اقتصادي قائم ومربح، وهو ما يجعل بيعها بالقيمة الدفترية أشبه بعملية نقل أصول عمومية إلى ذراع عسكرية بسعر لا يذكر.

ثغرة قانونية

ومطلع عام 2025، صدر القانون رقم 170 لتنظيم ملكية الدولة في الشركات، ليحدث تحولا جذريا في قواعد ملكية القطاع العام. 

ونص القانون على إلغاء المادة 27 من قانون هيئات القطاع العام وشركاته، والتي كانت تحظر على الأشخاص العامة والشركات وبنوك القطاع العام التصرف في أسهم شركات القطاع العام إلا فيما بينها.

وبإلغاء هذا القيد التاريخي، فتح الباب واسعا أمام إعادة توزيع ملكية الشركات العامة بعيدا عن رقابة المجتمع، لتصبح عرضة للاستحواذ من جهات غير خاضعة للشفافية، وفي مقدمتها الأجهزة العسكرية. 

وهكذا تحول القانون الجديد إلى الثغرة التشريعية التي نفذت منها أذرع الجيش للسيطرة على مؤسسات وشركات حكومية، مثل ما جرى في حالة الشركة العربية لاستصلاح الأراضي.

القانون لم يتوقف عند ذلك، بل مد مظلته لتشمل جميع الشركات التابعة للجهاز الإداري للدولة والوحدات المحلية والأجهزة ذات الموازنات الخاصة والهيئات الخدمية والاقتصادية. 

كما نص على إنشاء وحدة جديدة بمجلس الوزراء تحت اسم "وحدة الشركات المملوكة للدولة"، تتولى مهام إعادة هيكلة القطاع العام، من تقييم جدوى استمرار ملكية الدولة لشركاتها أو المساهمة فيها، إلى تحديد آليات التخارج الأنسب. 

وكذلك إعداد قواعد بيانات تفصيلية عن العمالة وحصر الفائض منها، واقتراح طرق التعامل معه دون تحميل الموازنة العامة أعباء إضافية.

ويُفترض أن تنفذ هذه الوحدة الجديدة مهامها في إطار ما يعرف بـ وثيقة ملكية الدولة، التي أقرها مجلس الوزراء في 2022 لتحديد القطاعات التي تعتزم الدولة التخارج منها، في محاولة لتشجيع القطاع الخاص وتعظيم عوائد الخصخصة. 

غير أن التطبيق العملي كشف أن هذه الوثيقة لم تؤد إلى تعزيز المنافسة أو فتح المجال أمام المستثمرين المدنيين، بقدر ما وفرت مظلة قانونية سمحت بتمدد الأجهزة العسكرية في الاقتصاد، مثل "مستقبل مصر"، لتستحوذ على شركات عامة رابحة تحت غطاء "إعادة الهيكلة" و"التخارج المنظم".

ردود غاضبة

ولم تمر صفقة استحواذ جهاز "مستقبل مصر" على "العربية لاستصلاح الأراضي" دون ردود فعل غاضبة من شخصيات عامة وحقوقية بارزة. 

فقد أعلن المحامي الحقوقي، والمرشح الرئاسي السابق خالد عليو، تطوعه وفريق مكتبه لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة لإبطال الصفقة. 

وأكد في منشور عبر صفحته على "فيسبوك" أن بيع أسهم شركة عامة بهذه الأسعار المتدنية يمثل إضرارا مباشرا بالمساهمين، وأنهم على استعداد كامل للتدخل القانوني دفاعا عن المال العام.

أما المخرج والبرلماني السابق خالد يوسف، فقد وجه بلاغا رسميا إلى رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء والنائب العام، مطالبا بفتح تحقيق عاجل حول الصفقة. 

وكتب على صفحته أن ما جرى "إن صح، يعد كارثة تستوجب محاسبة المسؤولين وإعادة أصول الشعب إليه"، مضيفا أنه "وإن كان غير صحيح، فلا بد من محاسبة من روج له بتهمة نشر أخبار كاذبة".

هذه المواقف العلنية تعكس تصاعد الغضب الشعبي والحقوقي من الصفقات التي تجري في الظل، وتؤكد أن عملية بيع "العربية لاستصلاح الأراضي" لم تعد مجرد ملف اقتصادي، بل قضية رأي عام ترتبط مباشرة بمستقبل ملكية المال العام في مصر، ما بين القطاع المدني والعسكري.

الجهاز الأخطبوط

ويوصف جهاز مستقبل مصر للتنمية المستدامة بـ"الأخطبوط" في الاقتصاد المصري، بعد أن تمددت أذرعه سريعا لتبتلع قطاعات حيوية في الزراعة والغذاء. 

أنشئ الجهاز بقرار رئاسي رقم 591 لسنة 2022 كذراع تنموي للجيش، لكنه ولد في الظل، إذ لم ينشر القرار في الجريدة الرسمية حتى اليوم، في مخالفة قانونية صارخة. 

ويعمل الجهاز تحت إشراف القوات الجوية، وبدأ نشاطه بمشروعات استصلاح صحراوي، قبل أن يتوسع من الضبعة إلى أسوان، ومن سيناء إلى سيوة.

حيث استحوذ على ما يشبه ملف الأمن الغذائي الوطني، من استصلاح الأراضي، إلى التصنيع الزراعي، وصولا إلى استيراد القمح. 

ويقوده اليوم الجنرال بهاء الغنام الذي يقدم نفسه بوصفه "رجل المهام الزراعية الكبرى".

وحصل الجهاز منذ تأسيسه على صلاحيات استثنائية واسعة بلا رقابة مؤسسية أو قنوات قانونية، ما جعله أقرب إلى حكومة موازية تعمل بمعزل عن الدولة. 

وخلال عامين فقط، أعلن استصلاح 800 ألف فدان، وهو رقم ضخم لم يظهر في بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، ولم ينعكس على أي مؤشرات إنتاج زراعي.

بل تجاوزت طموحاته المعلنة حدود المنطق، إذ يستهدف رفع المساحة الزراعية لمصر بنسبة 50 بالمئة خلال أربع سنوات، أي بما يعادل أكثر من مليوني فدان سنويا، في حين أن المعدل التاريخي للاستصلاح لم يتجاوز 110 آلاف فدان سنويا خلال العقد الأخير.

من الأرض للبحيرات

لم يكتف الجهاز بقطاع الأراضي الزراعية، بل استحوذ تدريجيا على شركات ومشروعات إستراتيجية، منها قها وأدفينا للصناعات الغذائية، فضلا عن مشروعات الثروة الحيوانية وإنتاج الألبان والدواجن. 

وفي خطوة أكثر إثارة للجدل، سيطر على البحيرات الكبرى مثل ناصر، المنزلة، البرلس والبردويل، منتزعا صلاحيات "جهاز حماية وتنمية البحيرات".

وفي عام 2024، انتزع من وزارة التموين ملف استيراد القمح والسلع الإستراتيجية، كما حصل على صلاحيات كانت منوطة بوزارة الزراعة لمنح موافقات استيراد الماشية. 

أما في 2025، فقد استحوذ على الحصة الأكبر في بورصة السلع المصرية، ليضيف إلى ترسانته أداة تمكنه من التأثير المباشر في تسعير السلع الغذائية الأساسية.

وظل الجهاز سنوات يعمل في الظل، إلى أن خرج إلى العلن في مايو/ آيار 2025 عندما افتتح رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي مقره الجديد، حيث عرض رئيسه الجنرال بهاء الغنام خططا توسعية طموحة. 

وفي اليوم ذاته، أعلن الجهاز مشروعا ضخما بقيمة 500 مليون دولار لإنشاء أول مصنع محلي لإنتاج ألبان الأطفال، يشمل استيراد 40 ألف بقرة وزراعة 50 ألف فدان برسيم.

لكن اللافت أن هذه المشاريع أطلقت دون إعلان أي دراسات جدوى، ما يعزز الانطباع بأن التوسع يجري بقرارات فوقية لا تخضع لمعايير اقتصادية شفافة.