من يدعم استقرار سوريا ومن يعرقله؟ قراءة في خلفيات التحرك التركي

اللقاءات التي عُقدت في دمشق لم تقتصر على الجوانب الأمنية فحسب
لم تكن الزيارة التي قام بها وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، ووزير الدفاع يشار غولر، ورئيس جهاز الاستخبارات إبراهيم قالن، إلى العاصمة السورية دمشق، زيارة عادية أو ذات طابع بروتوكولي، بل جاءت لتعكس تحوّلًا مهمًا في مقاربة أنقرة للملف السوري، وذلك بعد مرور عام كامل على ثورة 8 ديسمبر/كانون الأول 2024.
ويشير توقيت الزيارة إلى جانب المستوى الرفيع للوفد المشارك فيها، بوضوح ـ وفق ما أورده الكاتب التركي عبد القادر سيلفي في صحيفة الحرية ـ إلى أن سوريا تدخل مرحلة جديدة، عنوانها الأساسي الانتقال من الفوضى والصراع إلى الاستقرار وبناء الدولة.
وقد أرادت تركيا من خلال هذه الزيارة التأكيد على أن ما يجرى في سوريا لم يعد حدثًا مؤقتًا أو مرحلة انتقالية غير محسومة، بل مسارًا ثابتًا نحو ترسيخ الدولة السورية الجديدة سياسيًا وأمنيًا.
كما تعكس الزيارة قناعة تركية متزايدة بأن استقرار سوريا لم يعد خيارًا مطروحًا، وإنما ضرورة إقليمية ترتبط بشكل مباشر بأمن تركيا وأمن محيطها الجغرافي.

انقسام واضح
ويستدرك الكاتب التركي بالقول: إن التطورات الأخيرة تكشف عن وجود انقسام واضح بين الدول المؤثرة في الملف السوري. فهناك محور يعمل على دعم الاستقرار، وإعادة الإعمار، وإعادة دمج سوريا في المجتمع الدولي، وفي مقدّمته تركيا والولايات المتحدة. وترى هذه الدول أن استمرار حالة الفوضى من شأنه أن يقود إلى أزمات أكبر تمتد آثارها السلبية إلى عموم المنطقة.
في المقابل، توجد دول ترى في استقرار سوريا تهديدًا مباشرًا لمصالحها، وتسعى إلى إبقاء الوضع هشًا وغير مستقر، وعلى رأس هذه الدول إسرائيل وإيران. وتعمل هذه الأطراف بوسائل متعددة، سواء عبر الضغوط السياسية، أو التحركات العسكرية، أو دعم قوى داخلية بعينها، بهدف الحيلولة دون تحوّل سوريا إلى دولة قوية وموحدة من جديد.
ويؤكد الكاتب أن هذا الانقسام لم يعد مجرّد تحليل سياسي نظري، بل أصبح واقعًا ملموسًا يمكن رصده من خلال المواقف العلنية، والتحركات الميدانية، وطبيعة العلاقات والتحالفات الإقليمية القائمة.
ويضيف أن اللقاءات التي عُقدت في دمشق لم تقتصر على الجوانب الأمنية فحسب، بل شملت تقييمًا شاملًا لمسار الدولة السورية بعد عام كامل على الثورة. فعلى الرغم من الإرث الثقيل الذي خلفته سنوات الحرب والانقسام والانهيار الاقتصادي، نجحت سوريا في تحقيق إنجاز بالغ الأهمية، تمثل في منع الانزلاق مجددًا إلى حرب أهلية جديدة.
كما بدأت دمشق تخطو خطوات ملموسة باتجاه الانفتاح على العالم، واستعادة موقعها على الساحة الدولية. ومع ذلك، فإن هذا المسار لا يزال بحاجة إلى دعم مستمر، لا سيما في مجالات الأمن، والاقتصاد، وبناء المؤسسات. ومن هنا، كان التخطيط للمرحلة المقبلة، خصوصًا لعام 2026، جزءًا محوريًا من النقاشات التي جرت بين الجانبين.
وبصورة عامة، تعكس الزيارة التركية إلى دمشق رسالة أساسية مفادها أن سوريا لم تعد ساحة مفتوحة للصراع الإقليمي والدولي، بل دولة تسعى إلى تثبيت الاستقرار وبناء مستقبل مختلف، في ظل صراع إقليمي محتدم بين أطراف تدعم هذا المسار وأخرى تحاول عرقلته.

الموقف الأميركي
ويشير الكاتب التركي إلى أن الموقف الأميركي يُعدّ من أبرز المتغيرات التي طرأت على المشهد السوري في المرحلة الأخيرة.
فعلى الرغم من الضغوط الإسرائيلية المستمرة، ومحاولات اللوبي اليهودي داخل الولايات المتحدة عرقلة أي تقارب مع دمشق، اتخذت واشنطن قرارًا إستراتيجيًا بدعم استقرار سوريا، انطلاقًا من قناعة مفادها أن استمرار الفوضى سيقود إلى أزمات أوسع تهدد المصالح الأميركية ومصالح حلفائها في المنطقة.
ولم يقتصر هذا التحول الأميركي على مستوى الخطاب السياسي، بل تُرجم إلى خطوات عملية واضحة. فقد جرى رفع عقوبات "قيصر" التي كانت تشكل عبئا ثقيلا على الاقتصاد السوري، كما أُلغيت المكافأة المالية التي كانت مرصودة بحق الرئيس أحمد الشرع.
وإلى جانب ذلك، استُقبل الشرع في البيت الأبيض، ثم أُتيحت له فرصة الظهور وإلقاء خطاب من على منبر الأمم المتحدة، وهي خطوات تحمل دلالات سياسية عميقة، وتعكس اعترافا دوليا متزايدا بالإدارة السورية الجديدة، وتؤسس لمرحلة مغايرة تمامًا لسنوات العزلة السياسية والعقوبات الاقتصادية.
ومع ذلك، يلفت الكاتب إلى أن هذا التحول لا يعني وجود توافق كامل بين الولايات المتحدة وتركيا حول جميع تفاصيل الملف السوري؛ إذ إن لكل طرف حساباته وأولوياته الخاصة. غير أن ما يجمعهما في هذه المرحلة هو تقاطع واضح في المصالح، يتمثل في أولوية تثبيت الاستقرار ومنع عودة الفوضى أو اندلاع صراعات جديدة قد تخرج عن السيطرة.

محور الفوضى
في الجهة المقابلة، تقف إيران وإسرائيل بوصفهما الطرفين الأكثر تضررًا من قيام دولة سورية مستقرة وموحدة، وهو ما يدفعهما إلى العمل، كلٌّ بأساليبه الخاصة، على تقويض مسار الاستقرار وإبقاء سوريا في حالة توتر دائم.
فقد حاولت إيران استغلال الانقسامات الطائفية، لا سيما في الساحل السوري، عبر التحريض داخل بعض الأوساط العلوية في طرطوس واللاذقية، بهدف خلق اضطرابات داخلية تعيد خلط الأوراق. غير أن هذه المحاولات لم تنجح في إشعال فتنة واسعة، في ظل قدر من التماسك الداخلي، وغياب البيئة المناسبة لعودة الصراع الأهلي.
أما إسرائيل، فتتبع سياسة أكثر تعقيدا وطويلة الأمد؛ إذ تعمل على توسيع وجودها العسكري في الجنوب السوري، وتسعى إلى تحريض بعض المكونات المحلية، وعلى رأسها الدروز، لخلق بؤر توتر جديدة.
وفي الشمال، تحاول منع دمج قوات سوريا الديمقراطية في الجيش السوري، بما يضمن استمرار حالة الانقسام وغياب السلطة المركزية الموحدة.
ويرى الكاتب أن الهدف المشترك لإيران وإسرائيل من هذه التحركات واحد، ويتمثل في منع تشكّل دولة سورية قوية، مستقرة، وموحدة، قادرة على استعادة سيادتها واتخاذ قراراتها بعيدًا عن التدخلات الخارجية.
إلا أن توازن القوى الحالي إلى جانب الدعم الإقليمي والدولي لمسار الاستقرار، يجعل من الصعب إعادة سوريا إلى مربع الفوضى الذي عاشته في السابق.
ويضيف الكاتب أن ملف قوات سوريا الديمقراطية يُعدّ من أعقد الملفات المطروحة على طاولة البحث؛ فهذه القوات التي لعبت دورًا بارزًا في محاربة تنظيم داعش بدعم أميركي، تجد نفسها اليوم أمام استحقاق جديد يتعلق بمستقبلها داخل الدولة السورية.
ويقوم الطرح الأساسي الذي تدعمه كل من دمشق وأنقرة، على دمج قوات سوريا الديمقراطية في الجيش السوري ضمن إطار وطني جامع يحفظ وحدة البلاد. غير أن هذا المسار يواجه عراقيل جدية، في مقدّمتها التدخل الإسرائيلي الذي يسعى إلى إبقاء هذه القوات ككيان منفصل يُستخدم كورقة ضغط سياسية وأمنية.
ويشير الكاتب إلى أن "قسد" تقف اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما: إما القبول بالاندماج ضمن مؤسسات الدولة السورية، بما يعني نهاية دورها كقوة مستقلة، أو الاستمرار في الرفض، وهو ما قد يضعها في مواجهة مباشرة مع الدولة السورية وحلفائها.
وتلعب الولايات المتحدة دورًا محوريًا في هذا الملف؛ فعلى الرغم من علاقتها الوثيقة بـ"قسد"، فإنها تميل إلى دعم خيار الاندماج، بصفته السبيل الوحيد لضمان الاستقرار. وتشير المعطيات إلى وجود ضغوط أميركية متزايدة باتجاه حل هذا الملف ضمن جدول زمني محدد.
غير أن استمرار المماطلة قد يقود إلى تصعيد خطير؛ إذ يبقى الخيار العسكري مطروحًا في حال فشل المسار السياسي، لا بوصفه خيارًا مفضّلًا، بل كحل أخير تفرضه تقديرات الأمن ووحدة الدولة.
ويجعل هذا الاحتمال المرحلة المقبلة شديدة الحساسية؛ حيث ستتحدد ملامح سوريا بين خيارين متناقضين: إما دولة موحدة ومستقرة، أو ساحة مفتوحة لصراعات جديدة.















