النظام المصري يحجب نسب الفقر ويدعي وجود فائض بالموازنة.. ما القصة؟

إسماعيل يوسف | منذ ٦ ساعات

12

طباعة

مشاركة

يتعمد نظام عبد الفتاح السيسي في مصر حجب نسب الفقر في البلاد وادعاء تحقيق فائض في الموازنة العامة للتغطية على ارتفاع الديون والفشل والتخبط في إدارة الاقتصاد.

فقد حجب النظام نسب الفقر الرسمية وتجاهل نشرها لمدة 3 سنوات ثم غيّر طريقة حسابه منتقلا من "المؤشر النقدي" أي بما ينفقه المواطن، إلى طريقة "متعدد الأبعاد".

كما احتفت الحكومة في 17 أغسطس/آب 2025، بتحقيق "أعلى فائض أولي" في الموازنة الحالية بلغت قيمته نحو 629 مليار جنيه (قرابة 13 مليار دولار)، وفق مجلس الوزراء.

وهو ما عدته منظمات مجتمع مدني "تدليسا"؛ لأن الصورة الحقيقية للفائض والموازنة ككل، تجاهلت الديون، والتي تستحوذ أقساطها وفوائدها على نحو ثلثي النفقات الحكومية الإجمالية.

أين نسب الفقر؟

منذ عام 2009 اعتاد "الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء" في مصر أن يصدر بانتظام تقريرا سنويا كل عامين، حول نسب ومعدلات الفقر، تحت عنوان "بحث الدخل والإنفاق".

لكنه منذ تقرير 2020-2021، توقف عن إصدار هذه التقارير، مدة 3 سنوات، ثم عاد لإصدار تقرير يونيو/حزيران 2025، في 5 أغسطس 2025، بدون تحديد نسبة الفقر أيضا.

وبعدما رفض الجهاز نشر نتائج بحث 2021-2022، أخفى أيضا نتائج بحث جديد أجراه في 2023-2024، ولم يُنشر حتى الآن، وسط توقعات أن يكون السبب هو ارتفاع نسبة الفقر في البحث الأخير.

وجاء ذلك بعد الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي مرّت بها مصر منذ 2022، والتي تسبَّبت في ارتفاع غير مسبوق في معدلات التضخم.

عقب انتقادات من صحفيين وباحثين، أصدر جهاز الإحصاء تقرير 2025، لكنه لم يحدد نسب الفقر وتحايل بعوامل مختلف، غير الإنفاق النقدي للأسرة، كي يقلص النسبة الإجمالية.

وحين عادت الانتقادات أعلن جهاز الإحصاء أنه سيصدر تقريرا مفصلا في أكتوبر/تشرين الأول 2025، دون أن يُجيب عن الأسئلة التي طرحها الباحثون وهي:

كم عدّد الفقراء في مصر؟ ما هو خط الفقر الذي يتم القياس عليه؟ وكيف تغير مستوى معيشة المصريين في السنوات الأخيرة؟

فقد اكتفى الجهاز بنشر مختارات من هذه النتائج خلال نشرته في يونيو 2025 تحت عنوان "مصر في أرقام"، ولم تتضمن النسبة المعتادة، مكتفيًا بمؤشر آخر يُعرف بـ "الفقر متعدد الأبعاد".

وهي المرة الأولى التي يُستخدم فيها هذا المؤشر في البحث، ما يجعل قياس معدل الزيادة في نسبة الفقر غير صحيح.

ويأتي ذلك رغم تأكيد الجهاز أن البحث جرى بمنهجية جديدة تتضمن مؤشرات الصحة والسكان والتعليم والأمن الغذائي وغيرها.

وأصرّت الحكومة المصرية على إجراء تعديلات جديدة على أرقام الدخل الفردي، من خلال إدراج دعم برنامجي تكافل وكرامة، ومساعدة الأمهات العازبات، ضمن الدخل السنوي للأسرة. 

وهو ما جرى عبر تغيير طريقة حساب جهاز الإحصاء للفقر بموجب "الإنفاق النقدي"، إلى "متعدد الأبعاد".

وهذا على الرغم من أن مؤشرات الفقر ومستويات المعيشة للأسر المصرية أدوات أساسية لتحديد خط الفقر، والكشف عن عدد ونسبة الفقراء.

وبعدما كان جهاز الإحصاء طوال الخمسين عاما الماضية يعتمد على "الفقر النقدي" كأداة رئيسة لقياس نسبته، غاب هذا المؤشر عن تقريره الأخير الصادر في 5 أغسطس 2025.

ويقيس المؤشر الجديد الفقر عبر 7 أبعاد تشمل 19 بندًا، ما يجعل الأرقام المتوقعة غامضة ولا تعبّر عن الحقيقة.

ووفق مصادر حكومية، أصدر مجلس الوزراء تعليمات لجهاز الإحصاء، باعتماد آلية جديدة لاحتساب دخل الأسرة، تتضمن احتساب كل ما تتلقّاه الأسر من دعم حكومي، مثل برنامج "تكافل وكرامة"، إلى جانب الأجور الأساسية للأفراد.

وانعكس ذلك في مؤشر الفقر متعدد الأبعاد، الذي ضمَّ بند "الإنفاق الفعلي"، شاملا إجمالي التحويلات العينية، وتحويلات فرق الخبز وبطاقة التموين.

ووفق خبراء، لا يمكن الاعتماد على مؤشر الفقر "متعدد الأبعاد"، لقياس نسبته في مصر؛ لأنه مُضلل، ويركز على محاور غير حجم دخل وإنفاق الأسرة، مثل سوء تغذية الأطفال، وعدم امتلاك تأمين صحي، ومستوى الحرمان من بعض الحقوق.

 بينما يقيس "مؤشر الفقر النقدي" مدى قدرة دخل الفرد أو الأسرة الشهرية على تلبية احتياجاتهم الأساسية.

وفي بحث الدخل والإنفاق لجهاز الإحصاء لعام 2019- 2020، بلغت نسبة الفقر 29.7 بالمئة، بينما سجَّل مؤشر "متعدد الأبعاد" منه لعام 2021- 2022 نسبة 21.2 بالمئة فقط.

المعدل وسبب الإخفاء

ويرى محللون اقتصاديون أن "تغييب" إحصاءات الفقر، سببه ارتفاعها الحاد وعدم رغبة السلطات السياسية والأمنية في إعلانها لإظهار أن "الإصلاح" الذي تَعِدُ به يحقق نتائج.

وفي 10 أكتوبر 2024 كشف موقع "صحيح مصر" عن تدخل "جهات أمنية" لمنع نشر أحدث تقرير لمسح الدخل والإنفاق لعام 2021-2022، والذي شمل عدد الفقراء ونسبة الفقر، وهذا سبب تأخر صدوره.

وأشار الموقع إلى أن "جهات أمنية نافذة" منعت نشر التقرير، رغم اكتمال جمع بياناته؛ نظرًا لما تضمنه من أرقام صادمة تشير إلى ارتفاع ملحوظ في معدلات الفقر.

أيضا نقل موقع "مدى مصر" في 9 أغسطس 2025، عن مصدر حكومي، أن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لم ينشر تفاصيل نتائج البحث "بسبب ضغوط حكومية وارتفاع نسبة الفقر به".

وأشار الموقع نقلا عن مصادر في جهاز الإحصاء أن رئيسه اللواء خيرت بركات، طلب نشر "البيانات الخام" لبحث الدخل والإنفاق الأخير دون تحليل إحصائي يبيّن نسب الفقر الفعلية الحقيقية.

والجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الذي تأسس عام 1964 تهيمن عليه شخصيات عسكرية, يترأسه اللواء خيرت بركات منذ فبراير/شباط 2018، والذي كان يشغل سابقا منصب مستشار للرئيس، ومدير شؤون الضباط العسكريين، ورئيس إدارة السجلات العسكرية.

ورؤساؤه السابقون هم: اللواء جمال الدين محمود عسكر، ثم اللواء مختار عوض، ثم اللواء فاروق سعيد عبد العظيم، ثم اللواء إيهاب علوي، ثم اللواء أبو بكر الجندي.

وآخر معدل للفقر أعلن عنه رسميًا في مصر، وفقا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، صدر في ديسمبر/كانون الأول 2020، وقدر بنحو 29.7 بالمئة من إجمالي السكان. لكن البنك الدولي أكَّد ارتفاع النسبة إلى 32.5 بالمئة بنهاية عام 2022.

وقد انتقدت علياء المهدي أستاذة الاقتصاد والعميد السابق لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، غياب الشفافية وعدم إعلان أرقام بحثين لميزانية الأسرة والإنفاق والدخل في مصر، بداية 2022، ومنتصف 2024.

ورجَّحت أن يكون السبب هو التخوف من ارتفاع النسبة عن الأرقام المعلنة قبل ذلك، مرجحة أن تكون نسبة من هم على خط الفقر أو تحته قريبة من 40 بالمئة.

وفى مايو/أيار 2023، أكد تقرير صادر عن البنك الدولي أن نسبة الفقر في مصر بلغت 32.5 بالمئة عام 2022، وفقًا لما نشرته جريدة "البورصة".

فيما توقعت الدكتورة هبة الليثي مستشارة الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وصول المعدلات إلى 35.7 بالمئة في يوليو 2023. بحسب تقرير صادر عن مركز "حلول للسياسات البديلة".

وتوقعت دراسة مستقلة أجرتها الليثي، ارتفاع خط الفقر إلى 1478 جنيهًا شهريًا، وازدياد المدقع منه إلى 1069 جنيهًا شهريًا (1 دولار = 48,66 جنيها).

وكان سعر صرف الدولار 16 جنيها عام 2020، حين نُشر آخر بحث عن الفقر رسميا، وحينها جرى إعلان أن 29.7 بالمئة من المصريين فقراء.

ولكن سعر الدولار ارتفع إلى قرابة 50 جنيها، كما تغير عدد السكان ومعدل التضخم ومؤشرات أخرى ما يعني ارتفاع خط الفقر ومعدله أيضا.

لذا يتوقع خبراء أن يكون معدل الفقر القومي وصل عام 2025 إلى أعلى مستوى له منذ إطلاق بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك في 1999-2000.

وقد رجح تقرير لموقع "مدى مصر"، استنادا لتحليل خاص أن تكون نسب الفقر بلغت في ريف الوجه القبلي (جنوب مصر) 40.7 بالمئة، و30.4 بالمئة من الفقراء في ريف الوجه البحري (شمال)، و11.7 بالمئة في المحافظات الحضرية.

وكانت توقعات الفقر الكلي في مصر، التي نشرها البنك الدولي نهاية أبريل/نيسان 2025، رصدت ارتفاع معدلاته بشكل كبير لتصل إلى 29.7 بالمئة.

وفي تقريره المنشور أبريل 2025، ذكر أن "التقديرات المستندة إلى منهجية قياس الفقر الوطنية تشير إلى أن 33.5 بالمئة من سكان مصر كانوا فقراء، وهي نفس نسب عام 2021.

وفي عام 2022 عانى 21 بالمئة من السكان المصريين من الفقر متعدد الأبعاد، وكان حوالي 1.5 بالمئة منهم يعيشون على أقل من المعدل الدولي البالغ 2.15 دولارًا أميركيا، وفق موقع "إحصاءات".

الفائض والديون

لم تكتف الحكومة بإخفاء نسب الفقر، بل احتفت في 17 أغسطس 2025، بتحقيق "أعلى فائض أولي" في موازنة 2024 - 2025، بلغت قيمته نحو 629 مليار جنيه (قرابة 13 مليار دولار) حسبما أعلن وزير المالية أحمد كجوك.

دفع هذا محللين وخبراء للبحث لحل هذا اللغز، ليتبين أن الحكومة المصرية تجاهلت واستبعدت ما ستدفعه من أقساط وفوائد الديون التي بلغت حينها 27 مليار دولار من حساب النفقات مقابل الإيرادات، لتُظهر أن هناك "فائضا".

وكشف تقرير أصدرته "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية" أن تجاهل الصورة الحقيقية للفائض لحجم الديون (أقساطها وفوائدها) ترتب عليه تجاهل ثلثي النفقات الحكومية؛ لأن مدفوعات الفوائد بلغت ثلاثة أمثال "الفائض" الذي احتفت الحكومة بتحقيقه.

وأوضحت المبادرة أن قيمة هذا "الفائض" الذي يُخرج الديون من حساباته بالدولار حسب سعر الصرف الحالي، يعادل 13 مليار دولار، وهي لا تكفي لسداد التزامات الديون الخارجية المستحقة على مصر خلال النصف الأول فقط من 2025.

وكشفت بيانات البنك المركزي المصري، 16 أغسطس 2025، في تقديراته لخدمة الدين الخارجي (الفوائد+ أصل القرض) التي ستدفعها مصر عام 2026، أنها ارتفعت إلى 27.87 مليار دولار.

أي بزيادة قدرها نحو 1.9 مليار دولار عن تقديراته السابقة البالغة 25.97 مليار دولار، وهو ما يعني أن فائض الموازنة المعلن غير حقيقي، وأن إضافة الديون إلى الموازنة تعني تراجع الفائض الفعلي لا زيادته.

وخلال موازنة عام 2024-2025، استحوذ بند فوائد الاقتراض وحده (لا تشمل أقساط الديون) على 47 بالمئة من المصروفات العامة بالموازنة.

وكانت ورقة تحليلية نشرتها "المبادرة المصرية" في 11 أغسطس 2025، وصفت موازنة 2024-2025، بأنها "موازنة فوائد الديون"، مؤكده بسخرية أن "التقشف لنا (للمصريين) والأرباح للدائنين".

قالت: "تزامنت فترة إقرار الموازنة وبداية العمل بها مع سلسلة قرارات حكومية تنتهك الحقوق الأساسية للمواطنين في الغذاء والدواء والطاقة والحصول على الخدمات الطبية".

وذلك "بداية من قرارات رفع سعر الخبز المدعم, وزيادة أسعار الدواء, وخصخصة الخدمات الصحية في المستشفيات الحكومية، وزيادة أسعار تذاكر القطارات والمترو، وحتى رفع أسعار الوقود بكل ما يترتب عليها من آثار تضخمية تؤدي للمزيد من الارتفاع في أسعار السلع والخدمات".

وأكّدت أن الملمح الأساسي لميزانية العام المالي الجديد هو أن الديون والتزامات سدادها وفوائدها تبتلع جزءًا كبيرًا من أوجه الإنفاق التي تخطط لها الحكومة.

كما أن الطريقة الأساسية التي تعتمد عليها الدولة في الحصول على موارد جديدة لتغطي الفجوة بين الإيرادات والنفقات هي الحصول على قروض جديدة، مما يرشح هذا الوضع للاستمرار ويدفعه إلى التدهور مع تراكم مدفوعات خدمة الديون. 

ما يعني أن سياسات مصر الاقتصادية ستظل حبيسة تلك الحلقة المفرغة التي تحكمها خدمة الدين لعدد غير معلوم من السنوات في المستقبل.

وأوضحت الورقة التحليلية أن البند الوحيد الذي شهد نموًا في الإنفاق الحقيقي كان بند فوائد الديون، والذي ارتفع بنسبة 21 بالمئة.

وأشارت إلى سيطرة الديون وفوائدها على كل جوانب الموازنة؛ حيث تستحوذ على نحو 91 بالمئة من حصيلة الضرائب المتوقعة في العام المالي الجديد.

وهو ما يعني أن دافعي الضرائب يمولون في الحقيقة أرباح مقرضي الدولة من بنوك وأفراد ومؤسسات، في الداخل والخارج.

وأكد التقرير أنه إذا جرى حساب نصيب الفرد من مدفوعات فوائد الديون الحكومية المتضخمة، فإنه يبلغ 17.2 ألف جنيه (قرابة 350 دولارا) سنويًا، في حين يقل نصيب الفرد من الإنفاق الحكومي على الصحة مثلا عن 1900 جنيه سنويًا.