"رفح الخضراء".. مدينة إنسانية أم مخطط أميركي–إسرائيلي جديد لعزل الفلسطينيين؟

خالد كريزم | منذ ساعة واحدة

12

طباعة

مشاركة

في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2025، عاد اسم رفح جنوب قطاع غزة إلى واجهة النقاش، ليس فقط كمدينة مدمّرة على حدود مصر، وإنما كعنوان لخطة إسرائيلية–أميركية جديدة تهدف إلى عزل الفلسطينيين.

فقد كشفت إسرائيل عن مشروع إنشاء مدينة جديدة تحت اسم "رفح الخضراء"، في خطوة تُعد محاولة للالتفاف على استحقاقات المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار الموقّع في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2025.

فما قصة هذه المدينة التي تسعى إسرائيل إلى بنائها قريبًا؟ وما أهداف تل أبيب من هذا المشروع؟ وكيف يمثّل محاولة جديدة للتهرب من التزامات الاتفاق، وفي مقدمتها إعادة إعمار القطاع المدمّر؟

طبيعة المشروع وأهدافه

يرتكز جوهر المشروع على إقامة ما تسميه إسرائيل "مدينة إنسانية" شرق رفح، داخل ما يعرف بـ"الخط الأصفر" الذي يشكل 53% من مساحة قطاع غزة، وهي المنطقة التي حددها اتفاق وقف إطلاق النار الأخير وتقع تحت السيطرة الإسرائيلية.

وبحسب قناة "آي 24 نيوز" الإسرائيلية، تقترح الولايات المتحدة إنشاء المدينة تحت اسم "رفح الخضراء"، وتقديمها كنموذج لـ"مدينة الأمل" مقابل ما تصفه بـ"غزة القديمة" الخاضعة لسيطرة حركة المقاومة الإسلامية حماس.

يقع المشروع على خط محور فيلادلفيا الحدودي مع مصر، في قلب مدينة رفح التي دمّرها الجيش الإسرائيلي واحتلّها منذ مايو/أيار 2024، وظل معبرها مغلقًا تحت السيطرة الإسرائيلية حتى بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار.

وتوضح القناة أن سكان المدينة الجديدة سيكونون من المدنيين الفلسطينيين، باستثناء عناصر حماس والفصائل المسلحة.

ووفق الرواية الأميركية–الإسرائيلية، يهدف المشروع المعلن إلى توفير "مجتمعات آمنة" للمدنيين بعيدًا عن سلطة حماس، عبر بنية تحتية تضم مساكن مؤقتة ومدارس ومراكز صحية وفرص عمل في مشاريع إزالة الأنقاض وإعادة الإعمار.

ويقوم المخطط على تقسيم قطاع غزة إلى منطقتين: منطقة "خضراء" تحت السيطرة الإسرائيلية المباشرة، ومنطقة "حمراء" تعد موالية لحماس، مع احتمال إشراك مليشيات مناهضة للحركة، مثل مليشيا أبو شباب، لتأمين المدينة الجديدة.

ويُعدّ رون ديرمر، وزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي المستقيل أخيرا، صاحب الفكرة الأصلية للمشروع، وفق ما أفاد مراسل الكنيست في "آي 24 نيوز" عميل يرحي. إذ قال ديرمر في اجتماع لمجلس الوزراء قبل استقالته في نوفمبر/تشرين الثاني 2025: "إذا لم تنزع حماس سلاحها، فسأقيم غزة جديدة على الجانب الإسرائيلي وأعيد تثقيفهم".

على الأرض، تشير تقارير أميركية وإسرائيلية إلى دخول المشروع مرحلة "التجهيز الميداني" وإن لم يبدأ التنفيذ الكامل بعد.

فقد نقلت صحيفة "وول ستريت جورنال" في 21 نوفمبر/تشرين الثاني عن مسؤولين أميركيين في مركز التنسيق المدني–العسكري التابع لواشنطن جنوب إسرائيل، أن فرقًا هندسية بدأت فعليًا إزالة الركام والذخائر غير المنفجرة في المواقع المحددة.

وبعد أيام، ذكرت "آي 24 نيوز" في 28 نوفمبر أن الجيش الإسرائيلي "يتوقع نشر معدات هندسية ثقيلة في رفح خلال الأيام المقبلة ضمن الاستعداد لإقامة المشروع"، مؤكدة أن الأعمال التمهيدية "قد بدأت بالفعل".

وفي 26 نوفمبر، أفادت صحيفة "جيروزالِم بوست" بأن قوات الجيش المنخرطة في بناء المشروع "واجهت مسلحين خرجوا من نفق وهاجموا الموقع"، في مؤشر على أن المنطقة تتحول تدريجيًا إلى ساحة اختبار ميدانية مبكرة.

كما أعلن جيش الاحتلال بدء إزالة الركام من شرق رفح خلال الأيام المقبلة تمهيدًا لعملية البناء، وفق ما أوردته القناة الإسرائيلية الخامسة عشرة.

وبحسب المخطط، سيتولى الجيش الإسرائيلي إدارة المدينة الجديدة بالكامل، في ظل استمرار رفض تل أبيب إدخال قوات دولية أو تبني نموذج إدارة مدنية للقطاع.

عزل وتهجير

بعيدًا عن الأهداف المعلنة، تتزايد المخاوف من أن المشروع الإسرائيلي–الأميركي في رفح يهدف بالأساس إلى عرقلة الانتقال إلى المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار، والتي تتضمن إنهاء العدوان بشكل كامل، وفتح المعابر، وإدخال المساعدات الإنسانية دون قيود، إلى جانب انتقال غزة إلى هيئة حكم مدنية وانتشار قوة استقرار دولية، واستكمال انسحاب جيش الاحتلال من "الخط الأصفر".

كما تذهب التقديرات إلى أن الخطة تهدف إلى عزل الفلسطينيين ضمن منطقة محدودة، ثم تهجيرهم تدريجيًا خارج قطاع غزة، في إطار مساعي تهجير مستمرة فشلت إسرائيل في تنفيذها خلال عامين من الحرب.

ففي 7 يوليو/تموز 2025، أعلن وزير جيش الاحتلال الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، نيته إنشاء "مدينة إنسانية" ضخمة على أنقاض رفح، تنقل إليها مئات الآلاف من الفلسطينيين، حيث عرض أمام مراسلين عسكريين خطة لتحويل أطلال رفح إلى "مدينة تحت رقابة عسكرية مشددة"، يبدأ بنقل نحو 600 ألف فلسطيني من النازحين في منطقة المواصي جنوب القطاع، ثم نقل "كامل سكان غزة" في النهاية.

وفي منتصف يوليو، أكدت وكالة رويترز البريطانية أن المشروع قد يحول رفح إلى ما يشبه "جزيرة بشرية" معزولة داخل غزة، يخضع الدخول والخروج منها لإذن عسكري، محذرة من أن هذا النموذج يعزز واقعًا تقسيميًا حيث تصبح مناطق واسعة من القطاع صالحة للعيش بشروط محددة، في مقابل مناطق أخرى مدمرة وغير قابلة للإعمار.

ويأتي هذا المشروع في أعقاب اقتراح قدمه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وأيده رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ويقضي بتهجير سكان غزة إلى دول ثالثة بهدف إعادة إعمار القطاع.

وحاليًا، تُشير التصورات الإسرائيلية المتداولة إلى أن فكرة "رفح الجديدة" تعتمد على نقل عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين إلى منطقة محددة شرق رفح المدمرة، بعد إخضاعهم لـ"فحص أمني" دقيق.

ويحذر خبراء الإغاثة الدوليون من أن هذا النهج يُعد في جوهره "إعادة توطين قسرية داخل أرض محتلة"، حتى لو تم ترويجه تحت مسميات إنسانية.

وهذا التمييز المكاني قد يدفع آلاف الفلسطينيين إلى القبول بالانتقال القسري بحثًا عن الحد الأدنى من الخدمات، وليس خيارًا طوعيًا حقيقيًا، خاصة إذا لجأت إسرائيل إلى قطع المساعدات عن باقي المناطق.

من الناحية الديمغرافية، نقلت رويترز عن خبراء في شؤون السكان أن المشروع يشكل خطوة أولى لإعادة تشكيل الخريطة السكانية في جنوب قطاع غزة، عبر تفريغ مناطق محددة وإعادة تركيز السكان في جيوب صغيرة، مما يضعف الكثافة السكانية في رفح ويُعيق إمكانية عودة النازحين إلى أحيائهم الأصلية مستقبلًا.

“فقاعات إنسانية”

يرى المحلل السياسي الفلسطيني إبراهيم المدهون أن مشروع  رفح الخضراء أو “غزّة الجديدة”، محاولة لإعادة تشكيل القطاع عبر صناعة “فقاعات إنسانية” ومدن هادئة خالية من المقاومة، تنعم بالاستقرار تحت إشراف الاحتلال، وربما تديرها لاحقًا قوات دولية. 

واستدرك في حديث لـ"الاستقلال": “هذا المشروع، فاقدٌ لأساسه الثقافي والاجتماعي والسياسي، ولا يمكن أن يستقيم على أرض الواقع الفلسطيني، فالمجتمع الفلسطيني بطبيعته رافض لأي تقسيم داخلي، سواء كان جغرافيًا أو مجتمعيًا".

وأكد أن فكرة أن يُقسم الشعب إلى “مجتمع مقاوم متمسّك بحقوقه” مقابل “مجتمع خاضع ينعم بالهدوء مقابل التخلّي عن مسؤولياته الوطنية” هي فكرة مستوردة لا تعكس تركيبة الفلسطيني ولا تجربته ولا منظومته القيمية وتصطدم بأحد أهم خصائصه ومسلماته.

وأوضح أن “هذه الفكرة جُرّبت سابقًا نسبيا تحت إشراف الجنرال الأميركي (كيث) دايتون، وبمتابعة إسرائيلية مباشرة، حين سعت واشنطن وتل أبيب إلى صناعة جيل فلسطيني جديد يتعايش مع الاحتلال وينفصل عن واجباته الوطنية. لكن النتيجة كانت عكسية تمامًا”.

وكيث دايتون جنرال أميركي عرف فلسطينيا بعمله منسقا أمنيا بين السلطة الفلسطينية ودولة الاحتلال بين عامي 2005 و2010 بتكليف من الإدارة الأميركية، وكانت مهمته تتمثل في جعل قوات الشرطة والأمن تعمل لصالح المصالح الإسرائيلية على حساب مواطنيها في الضفة الغربية.

لكن يؤكد المدهون أن “من هذه البيئة نفسها خرج جيل أكثر وعيًا وعنادًا وصلابة، وكان رأس حربة في هبة 2015 (التي انطلقت بالضفة والقدس بسبب إصرار مستوطنين إسرائيليين على مواصلة اقتحام ساحات المسجد الأقصى) وموجات المواجهة اللاحقة”.

وشدد المحلل السياسي على أن “ما لا تدركه واشنطن وتل أبيب أن النسيج الفلسطيني عصيّ على الفرز والانقسام المصطنع، ففي كل شارع ستجد الحمساوي والفتحاوي واليساري والمستقل، وفي البيت الواحد تجد أكثر من انتماء واتجاه”.

وأشار إلى أن “حماس ليست تنظيمًا قائمًا في قرى معزولة يمكن فصلها أو تفكيكها، بل هي امتداد طبيعي لشعبها، خرجت من بيئته الاجتماعية، وتتشابك جذورها مع كل عائلة وحارة ومخيم”.

ولهذا، فإن وهم “الفرز الاجتماعي” أو “إعادة الهندسة الديمغرافية” هو مشروع محكوم عليه بالفشل قبل أن يبدأ، وفق تقدير المدهون.

ورأى أن “إسرائيل نفسها — رغم كل الطروحات الأميركية — لا تريد فعليًا بيئة فلسطينية مستقرة ولو كانت إنسانية الشكل”.

فالاحتلال غير معنيّ باستدامة أي مرحلة هادئة، ولا بخلق نموذج للفلسطيني “المطمئن تحت السيطرة”، بحسب المدهون.

وأكد أن “كل ما يريده الاحتلال هو تثبيت قواعد اشتباك جديدة تمنحه حرية الحركة، وتقيّد الفلسطيني، وتبقيه تحت السقف الذي ترسمه تل أبيب”.

ولهذا، فالمشهد برمّته ما يزال غامضًا، مضطربًا، وغير ممسوك، والمشاريع المطروحة حتى الآن ليست سوى أفكار فضفاضة بلا بنية حقيقية.

وعليه، يعتقد المحلل السياسي الفلسطيني أن “أي محاولة لفرض غزّة جديدة بلا مقاومة، أو خلق مجتمعات معزولة متصالحة مع الاحتلال، ستصطدم أولًا وأخيرًا بوعي الناس، وصلابتهم، وترابطهم، وعمق انتمائهم الوطني”.

وشدد بالقول: “شعبنا سيُفشل هذه المشاريع كما أفشل ما قبلها، وسيواجه أي محاولة لتقسيمه أو إعادة تشكيله وفق الرؤية الأميركية – الإسرائيلية”.