لبنان بين مرجعية النجف وولاية الفقيه.. صراع النفوذ السياسي والديني

"النجف ترى اليوم أن المرجعية الأساسية للشيعة العرب يجب أن تعود إليها"
مع احتدام التجاذبات داخل البيت الشيعي بين مدرستي النجف العراقية ومدينة قم الإيرانية، يعود الجدل حول المرجعية الدينية وتوظيفها السياسي إلى الواجهة، بوصفه أحد أبرز العوامل المؤثرة في مسار التحولات الجديدة داخل لبنان.
فإضعاف جماعة حزب الله، المدعومة من إيران، في المواجهة الأخيرة مع إسرائيل، أحدث انقساما في البيئة الشيعية التي كانت متماسكة سابقًا، وأثارت مخاوف راهنة من استمرار استغلالها لخدمة مصالح طهران.

رسالة إلى إيران
أصبحت العلاقة بين الطائفة الشيعية في لبنان وإيران من أكثر الملفات حساسية وإثارة للجدل في المشهد السياسي اللبناني. فهي علاقة تتداخل فيها الأبعاد الدينية مع الحسابات السياسية، وتُعد عاملا حاسما في قراءة موازين القوى داخل لبنان ومستقبل موقعه في معادلات المنطقة.
في هذا السياق، برزت في الآونة الأخيرة خلافات بين المرجع الأعلى للشيعة في العراق، علي السيستاني، وإيران بشأن ملف شيعة لبنان.
يعد آية الله علي السيستاني (95 عاما)، المقيم في النجف جنوب العراق، من أعلى المرجعيات الدينية لدى ملايين الشيعة حول العالم.
وكشفت مصادر خاصة لـ"الجريدة" الكويتية في 24 نوفمبر 2025 عن تحرك غير مسبوق للمرجع السيستاني مرتبط بشكل مباشر بالوضع اللبناني.
وبحسب هذه المصادر، بعث السيستاني أخيرا رسالة إلى إيران، أكد فيها على حساسية المرحلة التي تمر بها الطائفة الشيعية في لبنان، محذرا من أن الظروف الراهنة باتت "حرجة جدًا" وتتطلب حماية عاجلة.
وأشارت الرسالة إلى ضرورة عدم ترك المجتمع الشيعي اللبناني عرضة لحرب جديدة، لما قد يترتب على ذلك من موجات تهجير إضافية، وتدهور أمني في القرى والبلدات، وتعاظم هشاشة البيئة الاجتماعية التي أنهكتها الحرب خلال الأشهر الماضية.
وجاء تحرك السيستاني بالتزامن مع زيارة قام بها علي حسن خليل، المعاون السياسي لرئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، إلى إيران؛ حيث شارك في مؤتمر رسمي، وأجرى لقاءات مع أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي لاريجاني، ووزير الخارجية عباس عراقجي.
وبعد عام على توقيع اتفاق وقف الأعمال العدائية، يبدو الجنوب اللبناني أبعد ما يكون عن الهدوء الذي تضمنه الاتفاق حين جرى توقيعه في نوفمبر 2024.
لبنان الذي التزم بحذافير بنود الاتفاق، يجد نفسه اليوم أمام واقع عسكري وسياسي متوتر، وسط استمرار العمليات الإسرائيلية داخل أراضيه، وتحذيرات دبلوماسية من احتمال تصعيد واسع في المرحلة المقبلة.
وفي ظل تصاعد التوترات على الحدود الجنوبية للبنان، حددت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب مهلة نهائية لحكومة بيروت لنزع سلاح حزب الله بحلول 30 ديسمبر 2025، مهددة بعواقب في حال عدم الالتزام، بالتزامن مع تصعيد الغارات الجوية الإسرائيلية على عدة مناطق جنوبي لبنان.
وفي هذا السياق، تبرز طبيعة الدعوة التي وجهها المرجع السيستاني إلى القيادة الإيرانية، داعيًا إياها لأخذ الخطر الذي يهدد شيعة لبنان على محمل الجد، والعمل على تفادي تكرار حرب شاملة قد تؤدي إلى موجات تهجير وخسائر جسيمة.
وتشهد القرى اللبنانية الجنوبية ذات الغالبية الشيعية، الأقرب إلى الحدود مع إسرائيل، دمارا ممنهجا من قبل الجيش الإسرائيلي، الذي هدم مبانٍ وبنى تحتية بشكل واسع.
فقد بلغت نسبة الدمار في قرية كفركلا نحو 65%، وفي عيتا الشعب 57%، وفي يارين 55%، وفق حسابات مبنية على مقارنة صور الأقمار الصناعية التي أعدها الباحثان الأميركيان كوري شير وجامون فان دين هوك من جامعة أوريغون، مع آخر تحديث يعود إلى 30 يناير 2025.

ساحة اشتباك
في الآونة الأخيرة، تصاعدت لهجة الحكومة اللبنانية في انتقاد إيران وتدخلها في الشؤون الداخلية للبنان.
حتى وصل الأمر إلى اتهام وزير الخارجية اللبناني، يوسف رجي، لمستشار المرشد الإيراني علي خامنئي، علي أكبر ولايتي، بالتدخل في شؤون لبنان، وذلك عقب تصريحات له حول قضية نزع سلاح حزب الله.
ونقلت وسائل إعلام إيرانية في 26 نوفمبر 2025 عن ولايتي قوله: إن "الاعتداءات والجرائم المتواصلة التي يرتكبها الكيان الصهيوني ضد لبنان تظهر أن وجود حزب الله بات بالنسبة للبنان أهم من الخبز اليومي". وأضاف أن "خرق الكيان الصهيوني لوقف إطلاق النار أظهر النتائج الكارثية لنزع سلاح حزب الله بالنسبة للبنان". مؤكدا أن "إيران دعمت وستواصل دعم حزب الله وجبهة المقاومة".
في المقابل، يرى ساسة لبنانيون مناهضون لحزب الله وإيران، أن تسليم السلاح للدولة اللبنانية يشكل السبيل الوحيد لحفظ لبنان والوجود الشيعي فيه، ويرون أن المخاطر وجودية على أبناء الطائفة الذين باتوا اليوم مهددين بالتهجير.
لبنان، كما العراق، يبدو اليوم ساحة اشتباك بين المرجعيتين: مرجعية النجف، التي تحافظ على استقلالها التقليدي، وولاية الفقيه القادمة من قم، والتي تسعى لتكريس وصاية دينية وسياسية على الشيعة في العالم.
وفي ظل إحدى أعمق الأزمات الوجودية التي يعيشها لبنان، تتحول ساحته الوطنية إلى مجال صراع إقليمي يفوق قدرته على الاحتمال.
وسط هذه الأزمة المعقدة، تبرز معادلة شديدة التعقيد، تقوم على استثمار إيران في البيئة الشيعية وتحويلها إلى رافعة نفوذ تضيق هامش الدولة وتضعف وحدتها.
فالعلاقة التي تُقدّم شعبويًا تحت شعار "دعم المقاومة"، تحولت في الواقع إلى شبكة متشابكة من السيطرة السياسية والعسكرية والاقتصادية، أعادت صياغة موقع الطائفة الشيعية داخل النظام اللبناني، وربطت جزءًا أساسيًا منها بمشروع خارجي لا يتوافق مع المصالح الوطنية.
لذلك، تكشف التصريحات الإيرانية المتكررة، وعلى رأسها مواقف علي ولايتي، عمق هذا الارتباط، وتبرز كيف أصبح الوجود المسلح لحزب الله يُسوّق كضرورة "وجودية" للبنان، بينما يدفع أبناء الطائفة الشيعية الثمن الأكبر من استقرارهم.
إن رسالة المرجع السيستاني الأخيرة، التي حذّرت من خطورة المرحلة، تؤكد أن القضية لم تعد سياسية فحسب، بل تحولت إلى مسألة حماية طائفة أنهكتها الحروب وتهدد بنية وجودها.
ولهذا، ترى بيروت أن استعادة الدولة لسيادتها وتقوية مؤسساتها يعيد دمج أبناء الطائفة الشيعية في مشروع الدولة فقط، ويرفض تحويل لبنان إلى ساحة تصفية حسابات خارجية.
ويعتقد الخبراء أن المرجعية العراقية تحاول بذلك إخراج شيعة لبنان من دائرة الاستغلال الإيراني الذي استمر لعقود.

فصل المرجعية
في سياق الصراع السياسي والديني المتصاعد في المنطقة، يؤكد الباحث المتخصص في الشأن الإيراني، عمار جلو، في حديثه لـ"الاستقلال"، أن "انتهاء دور المرجعية الشيعية في جبل عامل بلبنان والقضاء عليها نهائيًا، أدّى إلى حصر مركز الثقل بين مرجعيتين رئيستين: قم الإيرانية والنجف العراقية، وظهر تنافس كبير بينهما منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران عام 1979".
ويضيف جلو أن "هذا التنافس لم يكن فقط سياسيًا، بل شمل خلافات فقهية عميقة؛ حيث كان من أبرز المعارضين لنظرية ولاية الفقيه المرجع الشهيد محمد محمد صادق الصدر الذي رأى أن ولاية الفقيه ليست ذات أساس ديني راسخ، ولا تقوم على منطق التبعية المطلقة كما تقضي نظرية ولاية الفقيه".
ويشرح جلو أن "ولاية الفقيه تعني عمليا أن العالم الإيراني يصبح المسؤول الأول عن كل الشيعة في العالم، في حين كانت النجف سابقًا المرجعية الأساسية لشيعة العرب، مما خلق خلطًا بين الأبعاد الدينية والقومية وأدى إلى التباس كبير".
ويشير إلى أن "المرجع السيستاني كان من أبرز الشخصيات التي لم تؤمن بولاية الفقيه إلا في حدود ضيقة، مثل مسائل الخمس والأحوال الشخصية، دون تبعية سياسية أو سلطوية".
ويضيف: "رغم غياب الصدام المباشر بين النجف وقم، إلا أن الخلافات واضحة وعميقة، والمرجع السيستاني حافظ على موقفه الرافض للولاية السياسية طوال السنوات الماضية".
ويرى الباحث أن "الهدف الإيراني الحالي يتمثل في القضاء نهائيًا على مرجعية النجف، خاصة في مرحلة ما بعد السيستاني، خوفًا من ظهور مرجع جديد في النجف يعارض السياسة الإيرانية".
ويتابع: "التحولات السياسية في لبنان يجب أن تقترن بتحولات دينية؛ لأن المواطن الشيعي مرتبط دائمًا بمرجعيته".
ويشير إلى أن "النجف ترى اليوم أن المرجعية الأساسية لشيعة العرب يجب أن تعود إليها، وأن التحولات السياسية في لبنان والعراق تخدم هذا الاتجاه".
ويوضح جلو أن "الانفتاح العربي، وعلى رأسه السعودية، على شيعة العرب والشيعة الخارجين عن ولاية الفقيه، يلعب دورا مهما، ويظهر ذلك في زيارات مسؤولي الرياض لمراجع مثل مقتدى الصدر، ولقاءات السفير السعودي مع فعاليات شيعية عراقية معارضة لولاية الفقيه الإيرانية".
ويؤكد أن "هذه العملية تهدف غالبًا إلى عزل البيئة الحاضنة لحزب الله أو إعادة توجيهها نحو مرجعية دينية بعيدة عن إيران، وهو ما يحدث أيضًا في العراق؛ حيث تستفيد مرجعية النجف من هذا التحول".
ويختم جلو حديثه بالقول: إن "الظروف السياسية في العراق ولبنان تؤجج التوتر بين مدرستي النجف وقم، ويبرز ذلك بوضوح في الخلاف حول نزع سلاح حزب الله وتحويله إلى حزب سياسي؛ حيث يرتبط هذا الملف السياسي ارتباطًا وثيقًا بالموضوع الديني".















