تركيا تستعد لسيناريو الحرب بالملاجئ المُحصنة.. ماذا عن اقتراب ساعة الصفر؟

"هذه الخطوة يعني الانتقال إلى مرحلة التنفيذ العملي"
عقب الحرب الإسرائيلية الإيرانية، التي واكبها تصريحات من وزراء متطرفين بأن "الدور على تركيا"، واستخلاص أنقره أهم دروسها، مثل أهمية الملاجئ المُحصنة في الوقاية من الصواريخ والمسيرات التي باتت عماد الحروب الحديثة، قررت الحكومة التركية بناء حصون تحت الأرض.
وأسهم في صدور القرار، أن التقرير الذي أعدته "أكاديمية الاستخبارات التركية" بشأن تقييم حرب الأيام الـ12 بين إيران وإسرائيل، انتهى للتوصية بضرورة بناء أنظمة إنذار مبكر وطنية، وإنشاء ملاجئ مؤهلة في المدن الكبرى داخل تركيا.
وذكرت تقارير تركية وأجنبية أن السلطات التركية شرعت في تنفيذ مشروع ضخم لبناء ملاجئ بالفعل للحماية من القنابل والصواريخ في جميع الولايات الـ81؛ تحسبا لحروب مستقبلية عقب الحرب بين تل أبيب وطهران.
لكن السؤال هو لماذا قررت تركيا بناء الملاجئ وهي مخصصة للأخطار والحروب؟ وهل توصلت إلى نتيجة مفادها أن الحرب ستكون حتمية في نهاية المطاف بينها وبين إسرائيل؟
وهل الملاجئ للوقاية من حرب مع إسرائيل فقط أم تحسبا لاشتعال حروب عالمية تهدد تركيا الواقعة في منتصف نقاط التماس المختلفة للحروب المستقبلية المحتملة؟
قصة الملاجئ
وكشفت قناة "NTV" التركية، في 27 أغسطس/آب 2025، أن الحكومة أقرت خطة لإنشاء ملاجئ في جميع الولايات، وتكليف شركة "توكي" الحكومية بذلك، مع بدء التنفيذ في أنقرة، بعد دراسة أكدت نقص الملاجئ.
وقالت القناة إن وزارة البيئة والتخطيط العمراني والتغيير المناخي أجرت دراسة شاملة أظهرت أن تركيا تفتقر إلى بنية تحتية للملاجئ، وأن المنشآت القائمة لا تلبي المتطلبات لأي حروب أو كوارث محتملة في المستقبل.
وأشارت الدراسة الحكومية إلى تجارب عالمية في بناء الملاجئ، مثل إسرائيل واليابان وسويسرا، مؤكدة الحاجة إلى تطبيق نموذج تركي يراعي خصوصية المدن والتجمعات السكنية.
وأكدت صحيفة "ميدل إيست آي" البريطانية، في 27 أغسطس 2025 أن خطة بناء الملاجئ صادق عليها الرئيس رجب طيب أردوغان خلال اجتماع لمجلس الوزراء في يونيو/ حزيران 2025، عقب حرب تل أبيب وطهران، وحاليا تم قرار البدء بها.
وذكرت أن الهدف هو "إنشاء مناطق آمنة يمكن أن يلجأ إليها المدنيون في حال وقوع حروب أو كوارث محتملة"، بما في ذلك التهديدات النووية.
وأشارت الصحيفة إلى أن تركيا تعاني من نقص واضح في البنية التحتية للملاجئ، إذ إن العديد من المرافق المخصصة لذلك تُستخدم كمواقف سيارات أو مخازن، ولهذا السبب بدأت وزارة التخطيط العمراني بدراسة تجارب دول أخرى لتطبيقها.
وأفادت بـ"اندهاش المسؤولين الأتراك بشكل خاص من شبكة الملاجئ الإسرائيلية الواسعة النطاق في المدن الكبرى، والتي سمحت لهم باللجوء إلى أماكن آمنة أثناء القصف ومن ثم قلة أعداد القتلى والمصابين".
3 رسائل
ويرى محللون ومتخصصون بالشأن التركي أن قيام أنقرة بهذه الخطوة يعني انتقالها من مرحلة "التحذير النظري" إلى مرحلة "التنفيذ العملي"، خاصة أن هذا القرار جاء بعد توصيات تقرير أعدته "الأكاديمية الوطنية للاستخبارات"، بإنشاء ملاجئ مدنية.
وأكدوا أن القرار التركي بإنشاء الملاجئ خطوة إستراتيجية تعكس أربع رسائل مهمة.
أولها، التحول نحو عقلية "الدولة المحصّنة"، إذ أدركت تركيا أنه يجب عدم الاكتفاء ببناء قوتها الهجومية (مسيرات، صواريخ، صناعة دفاعية)، وبدأت تفكر في منظومات الصمود الداخلي، مثل الملاجئ والإنذار المبكر، وهي عناصر غابت عن معظم دول المنطقة رغم خطورة البيئة الأمنية.
والرسالة الثانية، سعي تركي للتكامل بين الأمن القومي والبنية التحتية، إذ إن تكليف شركة “TOKİ” (المعروفة بإنشاء ملايين الوحدات السكنية) ببناء الملاجئ يعني أن الدولة تريد إدماج البنية الدفاعية في الحياة المدنية.
أي أن الملجأ سيكون جزءا من العمارة أو المجمع السكني، كما في دول مثل سويسرا أو كوريا الشمالية، لا مجرد منشآت عسكرية معزولة.
الرسالة الثالثة، هي أن تركيا مستعدة لمعادلات إقليمية جديدة، وأنها تتوقع أن تمتد الصراعات المقبلة (ما بعد الحرب الإسرائيلية الإيرانية) إلى جبهات متعددة، وقد لا تكون المدن الكبرى (إسطنبول، أنقرة، إزمير) بعيدة عن المخاطر في سيناريو حرب إقليمية واسعة مقبلة.
الرسالة الرابعة، أن تركيا تُؤسس اليوم لجيل جديد من منظومة الدفاع الوطني، أشبه بما فعلته أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، لكن هذه المرة بروح عثمانية جديدة وبخطة مدروسة من الاستخبارات دخلت حيز التنفيذ.
توصية استخبارية
جاءت هذه الخطوة التركية في سياق تنفيذ توصيات تقرير "الأكاديمية الوطنية" التابعة للاستخبارات، والذي كان من ضمن توصياته ضرورة البدء في إنشاء "الملاجئ" في المدن الكبرى.
أيضا أوصى التقرير الذي جاء بعنوان "حرب الاثني عشر يوما والدروس المستفادة لتركيا" للاستفادة من الصراع الذي دار بين "إسرائيل وإيران"، بإنشاء أنظمة "إنذار مبكرة" للمدنيين، تحسبا للظروف الإقليمية غير المستقرة واستعدادا للسيناريوهات المحتملة في الفترة المقبلة.
ويبدو أن الحكومة تأخذ توصيات الأكاديمية على محمل الجد وتستعد لأي مواجهة قادمة.
ففي تقرير معمق أصدرته "أكاديمية الاستخبارات التركية" (MİA) مطلع أغسطس 2025، ختم التقرير بالتأكيد على أن "التجربة الإيرانية تدفع إلى ضرورة بناء أنظمة إنذار مبكر وطنية، وإنشاء ملاجئ مؤهلة في المدن الكبرى داخل تركيا".
وأرجع هذا إلى سيناريو محتمل لاستئناف الحرب بين كل من إسرائيل وأميركا من جهة وإيران من جهة أخرى، وتطور الضربات إلى هجوم شامل، سيجعل المواجهة أشد وأطول.
وقد تعيد إيران النظر في خيار تطوير سلاح نووي وسيلة ردعٍ، وفي حال شعر النظام بأنه فقد كل أوراقه، فقد يصبح إغلاق مضيق هرمز خيارا واقعيا، ما سيؤثر بشدة في سوق الطاقة العالمي والتوازنات الدولية، لذا على تركيا الاستعداد للأسوأ.
وجاء التقرير في 50 صفحة، وانقسم إلى ثلاثة محاور رئيسية.
المحور الأول، تضمن قراءة تحليلية للمعطيات العسكرية والتقنية والاستخباراتية، وتقييم لمنظومات الدفاع الجوي والهجوم الصاروخي والتقنيات المستخدمة.
أما المحور الثاني، فتناول الجوانب السياسية والدبلوماسية المرتبطة بالحرب، مسلطا الضوء على دور التحالفات الإقليمية والدولية في موازين الصراع.
وخُصص المحور الثالث لاستشراف السيناريوهات المستقبلية الممكنة، وتحليل الانعكاسات المحتملة على تركيا والمنطقة في المدى القريب والمتوسط.
وركز التقرير على أن التفوق العسكري لم يعد مرتبطا فقط بامتلاك القوة النارية، بل بمدى القدرة على توجيهها بفاعلية وقمع قدرات العدو في الوقت نفسه.
وأشار إلى أن اعتماد طهران على بنية دفاعية مركزية منخفضة المرونة جعلها عرضة للشلل المنهجي أمام الهجمات الإسرائيلية المركبة التي دمجت بين النيران الفعلية والتشويش الإلكتروني.
وركز على أن سيطرة إسرائيل على الطيف الكهرومغناطيسي ساعدتها في شل التنظيم الدفاعي الإيراني، في حين لعبت العمليات النفسية دوراً بالتأثير في الإدراك العام وصورة الحرب لدى الجمهور الإيراني.
سيناريوهات عالية
وخلصت الأكاديمية إلى أن الحرب الحديثة لم تعد تُخاض فقط في ميادين القتال التقليدية، بل تُحسم أيضا في الفضاء الرقمي والكهرومغناطيسي، حيث تُدار الإشارات والكابلات وتدفّقات البيانات.
لذا، فإن بناء التفوق في هذه الجبهات "يجب أن يُعدّ أولوية إستراتيجية لأي قوة تسعى للفوز في حروب المستقبل"، وفق التقرير الاستخباري.
وشددت على أن "الدفاع يُعدّ ظاهرة جماعية، ولا يمكن تحقيقه فقط من خلال السلاح والإجراءات العسكرية".
وحذرت من أنه مثلما يمتلك جهاز الاستخبارات الإسرائيلي "الموساد" بنية منظمة وفاعلة داخل إيران ويعتمد على تجنيد الأفراد، وجماعات منظمة، مثل أعضاء منظمة "مجاهدي خلق"، هناك مخاوف من سيناريو مشابه قد يهدد تركيا.
إذ يمكن أن تضطلع منظمات مثل تنظيم "غولن" (FETÖ) الإرهابي بأدوار موازية داخل تركيا، في حال نشوء بيئة إقليمية مشابهة.
وهذه التنظيمات زودت إسرائيل بمعلومات استخباراتية دقيقة عن أهداف حساسة داخل إيران، بل إنها أنشأت ورشا لتصنيع الطائرات المسيّرة داخل الأراضي الإيرانية.
وتؤكد أكاديمية الاستخبارات التركية أن هذه الوقائع تُظهر أن العمل الاستخباراتي يتجاوز كونه مسؤولية مؤسسات رسمية محددة، ليصبح جزءاً من منظومة أمن قومي شاملة على مستوى المجتمع بأسره.
ولذلك، فإن على تركيا العمل على تعزيز وعي المواطنين تجاه التهديدات المتعلقة بالتجسس والاختراقات الأمنية، بحسب توصيات التقرير.
ويشدد التقرير على أن أي ثغرة استخباراتية -حتى لو كانت بسيطة- في مواقع حساسة كالصناعات الدفاعية أو الأجهزة الأمنية، قد تؤدي إلى ضربات مدمّرة يصعب تداركها لاحقا.
وفي إطار الاستعداد المجتمعي والدفاع المدني، طالب تقرير الاستخبارات بتعزيز قدرات الدفاع المدني بشكل كبير، مثل إنشاء شبكة إنذار مبكر واسعة، وبناء أنظمة تحذير وإنذار ضد الهجمات الجوية، ولا سيما في المدن الكبرى.
ويشير إلى ضرورة إنشاء ملاجئ مزوّدة بالمعايير التقنية المناسبة ضمن المنشآت الإستراتيجية مثل المؤسسات الحكومية الحساسة، بالإضافة إلى بناء ملاجئ جماعية يسهل الوصول إليها في المدن الكبرى.
واتخاذ تدابير تمكن من استخدام محطات المترو تحت الأرض لهذا الغرض في حالات الطوارئ.
وخلص التقرير إلى أن من أبرز الدروس المستفادة لتركيا يتمثل في ضرورة تحديث الترسانة الجوية، وتكامل الطائرات المأهولة والمسيّرة في بنية عملياتية موحدة تتيح الاستجابة للتهديدات المتعددة بكفاءة أعلى.
ولفت إلى أن عجز إسرائيل عن اعتراض بعض الصواريخ فرط الصوتية الإيرانية، يؤكد أهمية تطوير نظام دفاع جوي متعدد الطبقات في تركيا، يضمن التغطية الشاملة والجاهزية للسيناريوهات عالية التهديد.

الحرب قادمة
منذ اندلاع العدوان على غزة وما تلاها من حروب إسرائيلية مع "حزب الله" وإيران، والحديث لا يتوقف في إسرائيل عن استهداف تركيا مستقبلا كخطر آخر على دولة الاحتلال، وظهر هذا في تصريحات مسؤولين إسرائيليين، يلمحون إلى أن الدور قادم على تركيا.
وأشارت تقديرات غربية إلى أنه لو نجحت إسرائيل في تعجيز إيران وإسقاط حكم النظام فيها، بالتعاون مع أميركا، ستواجه تركيا وأنظمة أخري في الشرق الأوسط "تحديات صعبة"، بحسب صحيفة "نيويورك تايمز" في 17 يونيو/حزيران 2025.
وأكدت أن ذلك سببه “مطامع النخبة الحاكمة الإسرائيلية ذات التوجهات الدينية التوراتية التي ترغب في التوسع في دول مختلفة منها تركيا وحديث رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عن أنه "لن يسمح بعودة الإمبراطورية العثمانية” كنوع من التحدي لتركيا.
أيضا صعدت تركيا ضد إسرائيل عبر رموز سياسية قوية، ربطت ما بين تحرير دمشق وإسقاط نظام الأسد، وبين تحرير القدس، وكيف أن سلاطين الدولة العثمانية حرروا دمشق وسيأتي دور القدس بعدها، في رسالة لإسرائيل أن عليها الدور أيضا.
فقد هدد زعيم حزب الحركة القومية، دولت بهجلي، المتحالف مع أردوغان، في 23 ديسمبر/ كانون الأول 2024، إسرائيل بحرب، بقوله: "من يضع عينيه على دمشق، سيتلقى صفعة عثمانية في تل أبيب والقدس".
وأضاف: "طالما تم فتح دمشق، فإن فتح القدس أيضاً بات قريبا"، ما يعني تهديده إسرائيل، بلغة صريحة، بحرب وشيكة قادمة.
أيضا قال وزير الداخلية السابق سليمان صويلو أن الأتراك نجحوا في الصلاة في مسجد آيا صوفيا، وصلوا في المسجد الأموي، و"سيمنح الله هذه الأمة فرصة الصلاة في المسجد الأقصى مع راياتنا"، في رسالة تهديد لإسرائيل.
وفتح عمر بن الخطاب دمشق عام 635 م وبعدها فتح القدس في 637 م، كما فتح صلاح الدين الأيوبي دمشق عام 1184م، بعدها بثلاثة أعوام، فتح القدس عام 1187.
وكان آخر من فتح دمشق من سلاطين دولة الخلافة الإسلامية العثمانية، هو السلطان التركي سليم الأول أو "يافوز سليم"، تاسع سلاطين الدولة العثمانية، والخليفة الـ74 للمسلمين، وبعدما فتح دمشق عام 1516، دخل إلى بيت المقدس في نفس العام ديسمبر 1516.
لذا يتوقع سياسيون ومحللون أتراك حدوث مواجهة تركية إسرائيلية مستقبلا وربما على أرض سوريا بعد تحريرها من حكم عائلة الأسد، عاجلا أم آجلا.
وقبل تصريحات "بهجلي" وتحرير سوريا، قال أردوغان إن "الهدف النهائي لإسرائيل هو تركيا، وجوهر القضية هو مشروع إقامة دولة إسرائيل الكبرى، كهدف عقائدي وتاريخي لإسرائيل".
وتعليقا على ذلك، قال الأستاذ بقسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة بن جوريون يبئر السبع، "درور زئيفي"، لـ"وكالة الأنباء اليهودية" إن "تطلعات أردوغان تشمل دائما تحرير القدس وإعادة ظهور الإمبراطورية العثمانية بقيادة تركيا".
أيضا أشار تحليل لـ"المعهد الأطلسي" في 21 ديسمبر 2024 إلى أن أردوغان يتحرك بموجب تفكير حضاري إسلامي في صراعه مع إسرائيل، أي "يضع تركيا الجديدة في موقع استمرار لإرثها العثماني كزعيمة للعالم الإسلامي".
وبدأت إسرائيل تحرض ضد تركيا بمزاعم أنها تقوم بتسريع مشروعها النووي في محطة "آق قويو" وتُصر على تخصيب اليورانيوم بشكل مستقل، وتخطيطها لامتلاك سلاح نووي، للتحذير من أن "أنقره قد تتحول إلى إيران جديدة"
ومع هذا المفاعل التركي الجديد لم يعمل بعد ومدني، حذر المحلل الإسرائيلي شاي غال في صحيفة "إسرائيل اليوم" في 7 يوليو/تموز 2025 من أن "النووي التركي قد لا يقل خطورة على إسرائيل من التهديد الإيراني".
وعقب العدوان على إيران، أصدر أردوغان في 18 يونيو 2025، قرارا بتوسيع إنتاج الصواريخ متوسطة وبعيدة المدى، ما عدته تل أبيب رسالة موجهة لها.
وأبدت صحف تل أبيب خشيتها أن تكون تركيا تركز على إنتاج صواريخ بعيدة المدي، لتحميل لاحقا برؤوس نووية، بالنظر لما قال أردوغان، 5 سبتمبر/أيلول 2019، عن امتلاك إسرائيل صواريخ ذات رؤوس نووية ومنع بلاده منذ ذلك.
وضمن الاستعدادات التركية، دشن الرئيس أردوغان في 27 أغسطس 2025 المرحلة الأولى من "القبة الفولاذية" لحماية تركيا بكلفة 460 مليون دولار، والمكونة من 47 مركبة عسكرية، في إطار التحضيرات الجارية استعداداً لأي حروب مستقبلية.