مقابر الأسد الجماعية في سوريا.. من أدوات الطمس إلى أدلة الإدانة

"المقابر الجماعية تحتوي على أدلة حاسمة على ارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية"
فتح سقوط نظام بشار الأسد الباب واسعا على مصراعيه، أمام معاينة مسارح الجريمة وأدوات طمس الأدلة لسنوات عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها بحق الشعب السوري عقب اندلاع الثورة.
إذ بات يشكل العثور على مزيد من المقابر الجماعية في أكثر من محافظة سورية عقب سقوط الأسد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، أحد أكبر الدلائل المادية على تلك الجرائم.

أكبر مقبرة جماعية
وأمام ذلك، فإن توثيق مواقع تلك المقابر الجماعية، ومنع العبث بها وتحديد هوية الضحايا هو الأساس لكشف حقيقة الانتهاكات الجسيمة ومعالجة هذا الإرث الثقيل عبر مسار العدالة الانتقالية في ضوء التغير السياسي الجذري الذي شهدته البلاد.
وتعد العدالة الانتقالية المنهج الأمثل لتحقيق تعاف شامل للمجتمع السوري، وإعادة بناء الدولة والمجتمع بعد عقود من الاستبداد والقمع المنظم.
وقد تمكنت فرق الدفاع المدني السوري من العثور على عدد من المقابر الجماعية عقب سقوط الأسد بمساعدة من السكان المحليين، وعملت على حفظها وتوثيق الحالات والأعداد ومنع طمس آثار الجريمة.
وجديد ذلك، العثور على خنادق بريف دمشق مليئة برفات آلاف المعتقلين السوريين زمن حكم بشار الأسد حيث تعد هذه المقبرة الجماعية الأكبر في سوريا.
وكشفت وكالة رويترز في تقرير لها نشر في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2025 عن مخطط إعادة الدفن السري في الصحراء السورية، حيث صدرت أوامر نقل الجثث من بشار الأسد شخصيا وقد أدار العملية عقيد معروف باسم "أستاذ التطهير"، من 2019 حتى 2021.
وكانت المقبرة الأولى، في بلدة القطيفة بريف دمشق، تضم خنادق مليئة برفات أشخاص قتلوا في السجن أو أثناء الاستجواب أو خلال القتال. وكشف نشطاء مدافعون عن حقوق الإنسان عن وجود تلك المقبرة الجماعية خلال السنوات الماضية.
لكن تحقيقا أجرته رويترز خلص إلى أن حكومة الأسد قامت سرا بالحفر في موقع القطيفة ونقلت آلاف الجثث بالشاحنات إلى موقع جديد في منشأة عسكرية تبعد أكثر من ساعة في صحراء مدينة الضمير بريف دمشق.
وتحدثت رويترز إلى 13 شخصا على دراية مباشرة بالجهود التي استمرت عامين لنقل الجثث، والموقع السري الذي اكتشفته رويترز يعد من بين أكبر المواقع المعروفة.
ومع ما لا يقل عن 34 خندقا يبلغ طولها الإجمالي كيلومترين، تعد المقبرة الواقعة بالقرب من مدينة الضمير الصحراوية من بين أوسع المقابر التي تم حفرها من قبل مخابرات الأسد.
وتشير روايات الشهود وأبعاد الموقع الجديد إلى احتمال دفن عشرات الآلاف هناك.
ووفقا لمنظمات حقوقية سورية اختفى ما يربو على 160 ألف شخص على يد جهاز الأمن الضخم التابع للدكتاتور المخلوع، ويُعتقد أنهم مدفونون في عشرات المقابر الجماعية التي أمر بحفرها.
وقدّرت الحكومة عدد المفقودين منذ بدء حكم عائلة الأسد عام 1970 بما يصل إلى 300 ألف شخص.
ويمكن أن تساعد عمليات التنقيب المنظمة وتحليل الحمض النووي في الكشف عما تعرض له هؤلاء، وقد تسهم هذه الجهود في تضميد أحد الجراح الغائرة في تاريخ سوريا.
وقال ضابط سابق بالحرس الجمهوري لرويترز: إن فكرة نقل آلاف الجثث بدأت في أواخر 2018، عندما اقترب الأسد من تحقيق النصر حينها.
وأضاف الضابط الذي لم تكشف الوكالة اسمه، أن الأسد كان يأمل في استعادة الاعتراف الدولي بعد تهميش لسنوات جراء العقوبات والاتهامات بارتكاب فظائع.
في ذلك الوقت، كان الأسد متهما بالفعل باحتجاز آلاف السوريين لكن لم تتمكن أي من الجماعات السورية المستقلة أو المنظمات الدولية من الوصول إلى السجون أو المقابر الجماعية.
وقال الضابط: إنه في اجتماع عام 2018 مع المخابرات الروسية، تلقى الأسد تطمينات بأن الحلفاء يعملون بدأب لإنهاء عزلته، ونصحه الروس بإخفاء أدلة على انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان، وأضاف الضابط "خصوصا الاعتقالات والمقابر الجماعية والهجمات الكيماوية".

"أستاذ عمليات التطهير"
واطلعت رويترز على شهادات في المحاكم وعشرات الوثائق الموقعة التي تظهر التسلسل القيادي من أسرّة الموتى في السجون إلى المشارح.
وحمل العديد من هذه الوثائق الختم الرسمي لنفس العقيد الذي أشرف على موقعي الدفن الجماعيين: العقيد مازن إسمندر.
وورد اسم العقيد مازن إسمندر التابع لفرع المخابرات الجوية في نظام الأسد المخلوع على لسان “حفار القبور” الشهير.
هو شاب سوري كان يعمل موظفا إداريا في بلدية العاصمة دمشق، وفي عام 2011 زار مسؤولو مخابرات النظام السوري مكتبه وأمروه بالعمل لديهم بالإكراه.
وقد تمكن هذا الرجل من الفرار من سوريا عام 2018، حاملا معه شهادته عن فظائع عمليات القتل الممنهجة داخل سجون النظام والتي كان يجري طمسها عبر المقابر الجماعية.
واستخدم هذا الشاهد الاسم الرمزي "حفار القبور"، خوفا من انتقام مخابرات الأسد منه ومن عائلته التي لحق بها إلى أوروبا.
وقال "حفار القبور" حينما كشف عن هويته في أبريل 2025: إن العقيد مازن اسمندر والعقيد أيمن الحسن من المخابرات الجوية كانا يشرفان عام 2011 على دفن عشرات الجثث المعبأة في أكياس في مقابر جماعية.
وأكد أنه التقى بهما في مقبرة نجها بريف دمشق التي دفن بها خلال أقل من أسبوع أكثر من 400 جثة.
وذكر "حفار القبور" واسمه الحقيقي "محمد عفيف بن أسعد نايفة" خلال مقابلة مع "تلفزيون سوريا" بثت في 19 إبريل/ نيسان 2025 أنه في بداية 2012 أبلغني العقيد مازن اسمندر بالانتقال إلى مقبرة جديدة في القطيفة قرب الفرقة الثالثة العسكرية. كانت الأرض هناك أسهل للحفر من نجها، والخنادق وصلت أطوالها إلى 200 متر.
بحسب ما نقلت رويترز عن ضابط في الفرقة الثالثة التابعة لقوات الأسد المخلوع (لم تذكر اسمه)، فإن العقيد مازن اسمندر تم تقديمه إلى أفراد الفرقة بصفته "أستاذ عمليات التطهير".
وبحسب وثائق ترجع لعام 2018 تحمل ختمه اطلعت عليها رويترز، كان منصب إسمندر الفعلي هو رئيس قسم الميزانية في إدارة الخدمات الطبية للجيش السوري. وكانت تلك الوحدة واحدة من أقوى الهيئات الحكومية في البلاد.
إذ كانت تشرف على الرعاية الطبية للجنود وأي شخص يتم نقله إلى المستشفيات العسكرية، بما في ذلك آلاف السجناء الذين تم تسجيل وفاتهم هناك.
ويؤكد كل من أنور حاج خليل، الرئيس السابق لمجلس مدينة القطيفة بريف دمشق والضابط في الفرقة الثالثة، أن إسمندر وقائدا بالفرقة الثالثة حددا قطعة أرض خاضعة لسيطرة الجيش في منطقة القطيفة لتكون موقعا لدفن جثث السوريين على يد الأجهزة الأمنية.
في البداية، كانت الجثث تأتي بالعشرات في المرة الواحدة من مستشفيين قريبين، وقال حاج خليل: إنها كانت في أكفان مكتوب عليها الأسماء. لكنه أضاف أنه في غضون بضعة أشهر، اعتاد على المكالمات الواردة من إسمندر بعد منتصف الليل للتخلص من الجثث القادمة من مستشفى تشرين العسكري خارج دمشق.
وكان ضابط آخر يتصل به للتخلص من الجثث القادمة من سجن صيدنايا سيئ السمعة.
وتشكل معالجة المقابر الجماعية بعد النزاعات المسلحة تحديا قانونيا وإنسانيا يتطلب اتخاذ تدابير دقيقة ومبنية على أسس القانون الدولي الإنساني، وقانون حقوق الإنسان، والقانون الجنائي الدولي، وكل ذلك يندرج ضمن ضمان احترام كرامة المتوفين، وتحقيق العدالة للضحايا، ومساءلة الجناة.
وفي تقرير لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" نشر في 16 ديسمبر 2024 قالت فيه: إن حالة مقبرة جماعية في دمشق وشهادات أشخاص يعيشون في المنطقة المحيطة بها تشير إلى أن المنطقة مسرح جريمة جماعية، وربما كانت موقع تنفيذ إعدامات موجزة.
ودعت "رايتس ووتش" حينها السلطات السورية لتأمين الأدلة وجمعها وحفظها، بما فيها تلك الموجودة في مواقع المقابر الجماعية والسجلات والأرشيفات الحكومية، والتي ستكون أساسية في المحاكمات الجنائية والإجراءات القانونية المستقبلية، إتاحة الإجراءات القانونية الواجبة والمحاكمات العادلة لمرتكبي المذبحة المزعومين أمر أساسي.
وأضافت "ينبغي للسلطات الانتقالية ضمان تمكين المراقبين المستقلين الذين يمكنهم المساعدة في حفظ الأدلة، بمن فيهم الآلية الدولية المحايدة والمستقلة لسوريا ولجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة بشأن سوريا، من الوصول بدون عوائق. وينبغي للسلطات والهيئات المستقلة إشراك المنظمات الحقوقية السورية في هذه الجهود. وعلى الدول الأخرى أن تساعد في جهود تأمين الأدلة وحفظها".

“قبول قضائي”
وضمن هذا السياق، أكد المحامي السوري أنس نبهان لـ"الاستقلال" أن "اكتشاف المقابر الجماعية يعد دليلا ماديا بل غالبا قويا على ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والقانون الدولي مثل الإعدام خارج القضاء، الاختفاء القسري، التعذيب، وغيرها".
وأضاف نبهان أن "المقابر الجماعية تحتوي على أدلة حاسمة على ارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، وهي تسهم في نهاية المطاف بتوثيق الأدلة وعدها مقبولة قضائيا في حال جر بشار الأسد وضباطه إلى المحاكمة سواء بسوريا أو في الخارج".
وتابع: "من دون هذه الموارد المادية، تصبح المحاسبة أصعب بكثير.. فالأدلة في مواقع المقابر الجماعية تُستخدم في تحقيقات الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب. مثلا، منظمات حقوق الإنسان تؤكد أن الحفاظ على هذه المواقع أمر ضروري لتقديم مسؤولي النظام السابق إلى العدالة".
وأشار نبهان إلى أن "كشف المقابر الجماعية خلال حكم نظام الأسد البائد يوفر للضحايا وعائلاتهم فرصة لمعرفة مصير أحبائهم، وهو أحد أركان العدالة الانتقالية، ومحاسبة المسؤولين وتقديم تعويضات".
ولفت إلى أن "توثيق المقابر الجماعية في سوريا يُساعد على كسر حالة الإفلات من العقاب وهي مسألة ملحة اليوم في البلاد".
وأوضح أن "حماية هذه المواقع أمر ملحّ وضروري في هذا المرحلة من عمر الدولة السورية الجديدة قبل أن يتم العبث بها أو تدميرها، ما قد يمحو الأدلة وأهم معالم الحقيقة على وجود جرائم ارتكبها نظام الأسد لقمع الثورة".
إذ إن "الحفاظ على الأدلة وضمان سلاسة التحقيقات: إذا لم تُحم المقابر فورا، قد يعرض الأدلة للتلف أو التلاعب أو التدمير، وهذا يُضعف إمكانيات المحاكمة"، وفق نبهان.
وبيّن نبهان أن "بروتوكول بورنموث بشأن حماية المقابر الجماعية، يُعد مرجعا رئيسا، إذ يقدم إرشادات واضحة لكيفية حماية المقابر الجماعية مع التأكيد على دورها المحوري في تحقيق العدالة والمصالحة وكشف الحقيقة".