حشد عسكري صربي.. ما إمكانية تكرار جرائم الإبادة بحق مسلمي البوسنة؟

إسماعيل يوسف | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

يبدو أن الوضع في البوسنة والهرسك يتجه للانفجار مجددا، بعدما بدأ متطرفون صرب يقرعون طبول الحرب، مستفيدين من الانسحاب الأميركي من المنطقة، والتحولات الكبرى في العالم.

سلاح ودعوات تجييش، يجر بواسطتها صرب البوسنة، البلقان، إلى حرب جديدة، وسط تحذيرات للاتحاد الأوروبي من مخاطر تفكك البوسنة واشتعال الحرب مجددا.

وبتخلي أميركا عن حلفائها في أفغانستان والمنطقة العربية إضافة إلى أن نقاط تقاطع العالم بالشرق الأوسط والبلقان هي الأضعف والأكثر ميلا للانكسار، تتشجع روسيا على دعم حلفائها ومنهم الصرب.

مهددة بالخطر

الحرب التي دارت في البوسنة بين 1992 و1995، وانتهت باتفاقية "دايتون" للسلام نوفمبر/تشرين الثاني 1995، قسمت الجمهورية إلى جزءين متساويين تقريبا، هما: فدرالية البوسنة والهرسك (مسلمون وكروات) وجمهورية صرب البوسنة (صربسكا).

ومنذ التوقيع الرسمي على الاتفاقية بالعاصمة الفرنسية باريس في 14 ديسمبر/كانون الأول 1995، والبوسنة مهددة بالخطر؛ بسبب تخزين صرب البوسنة للسلاح وسعيهم لاختلاق مشكلات تتعلق برفض الهوية الإسلامية لاتحاد البوسنة والهرسك.

ونصت الاتفاقية ضمن خمسة عناصر رئيسة، على الالتزام بوحدة أراضي البوسنة، وتقسيمها إلى قسمين، أحدهما ذو طابع فدرالي للمسلمين والكروات، والثاني جمهورية للصرب داخل الاتحاد.

وظلمت اتفاقية "دايتون" المسلمين بنصوص غير مرضية لهم، لكن الرئيس البوسني الراحل علي عزت بيغوفيتش قال إن "اتفاقا غير منصف خير من استمرار الحرب".

لكن محاولات تمرد صرب البوسنة عادت، بعدما تعهد رئيس جمهورية صرب البوسنة ميلوراد دوديك، بتفكيك البوسنة والهرسك وتكوين جيش "جمهوري صربي"، ومخابرات وقضاء ومؤسسات مستقلة.

وأبرز في خطاب 22 أكتوبر/تشرين الأول 2021، رغبته في الانفصال، زاعما أنه "لم يعد لدولة بوسنية موحدة وجود"، ما قد يهدم اتفاق "دايتون" ويعيد الحرب.

طموحات انفصالية

خطط "دوديك" لإعادة إنشاء جيش جمهورية "صربسكا"، معناها إعلان حرب، لأن هذه هي نفس القوات العسكرية التي ارتكبت الإبادة الجماعية في البوسنة خلال التسعينيات.

وزاد من المخاوف رصد تقارير الأمم المتحدة نحو 750 ألف قطعة سلاح موروثة من حقبة الحرب الأهلية، وتزايد تهريب الأسلحة من صربيا للانفصاليين الصرب بالبوسنة، وعدم قدرة الحكومة البوسنية على منعه.

وكذلك إطلاق دولة صربيا المجاورة سباقا ضاريا نحو التسلح، وارتفاع ميزانية تسليح جيشها ما بين 2015 و2021 بنحو 70 بالمئة، وبـ 43 بالمئة فقط في 2020، وتحدث رئيسها عن أن جيشه "أصبح أقوى بخمس مرات من ذي قبل".

مع هذا، يرى مراقبون غربيون أن تهديدات "دوديك" سبق أن تكررت عدة مرات وغرضها الابتزاز والحصول على مكاسب للصرب أو حكم ذاتي، ويستبعدون الحرب وربما مصادمات محدودة.

الباحث في مركز أبحاث "مجلس سياسة التحول الديمقراطي" البريطاني، توبي فوجل، قال لقناة "BBC" الإنجليزية في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، أنه "لا يتوقع تفكك البوسنة أو صراع خطير محتمل".

لكن حذر من تقديم تنازلات لروسيا أو الصرب في البوسنة، "لما له من تأثير ضار على المدى الطويل، قد يسمح للصرب بإعلان النصر".

وقال فوجل إن "الصرب لا يريدون الوصاية الدولية الأوروبية التي يمثلها الألماني، كريستيان شميدت، المندوب السامي للبوسنة، الذي يشرف على تطبيق اتفاق دايتون، ويريدون التخلص منه باعتباره خط الدفاع الأخير ضد طموحاتهم الانفصالية".

بداية الأزمة

بدأت الأزمة الأخيرة بالبوسنة في 23 يوليو/تموز 2021، حين قاطع ورفض رئيس جمهورية صرب البوسنة دوديك ومسؤولون آخرون قانونا يجرم إنكار مجازر البوسنة، كان قد أصدره مكتب الممثل السامي في البلاد.

هدد "دوديك" باتخاذ "خطوات انفصالية متطرفة" تتعلق بتشكيل جيش وقضاء وضرائب مستقلة لجمهوريته "صربسكا" التي تعد جزءا من البوسنة والهرسك.

وزعم خلال مؤتمر صحفي ببلغراد في 11 يناير/كانون الثاني 2017، أن "البوسنة كدولة لا مستقبل لها"، و"الأفضل لكياناتها المكونة من جمهورية صرب البوسنة والفدرالية الإسلامية الكرواتية، الانفصال بشكل سلمي". 

ولوح أيضا بالانسحاب من الوثيقة الدستورية لاتحاد البوسنة، متعهدا بتقديم تعديلات عليها "تمكن صربسكا من نيل حكمها الذاتي الكامل".

هدف "دوديك" هو قيام "صربيا الكبرى" التي دعا لها في يناير/كانون الثاني 2017، بحيث ينفصل الصرب الموجودون داخل اتحاد البوسنة، ويتوحدون مع دولة صربيا المجاورة وكذا صرب إقليم كوسوفو المسلم.

وأبدى طموحه أن تنضم لهم لاحقا جمهورية الجبل الأسود، كطرف رابع، بعد عودة هيمنة الصرب إليها.

الباحثة في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، والمتخصصة في شؤون البلقان، ماجدة روج، قالت لموقع "New statesman" البريطاني في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 إن "هذه أخطر أزمة تشهدها البوسنة منذ إبرام اتفاق دايتون للسلام".

وأوضحت أن الزعيم الصربي دوديك، الذي يحظى بدعم روسيا في حملته، "يسعى لإزالة الرقابة الدولية (المندوب السامي الأممي) التي تحمي مؤسسات البوسنة، حتى يتمكن من تفكيكها لاحقا".

وأضافت أن ما يزيد طموح الصرب أن لدى الاتحاد الأوروبي "القليل من الرغبة في التدخل"، برغم البيان المشترك الصادر عن واشنطن وبروكسل في 20 أكتوبر/تشرين أول 2021 المتخوف من "الخطاب المثير للانقسام بشكل متزايد" في البوسنة.

وأكدت "روج" أن "مسؤولي الاتحاد الأوروبي يتبنون حاليا سياسة استرضاء دوديك ومنحه تنازلات لتهدئة الأزمة بدلا من مواجهته بقوة"، ومنها الإغراء بإدخال البوسنة في عضوية الاتحاد الأوروبي لتحسين اقتصادها المحتضر.

"روج" كتبت تقريرا منفصلا في موقع "فورين بوليسي" في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 أكدت فيه أن تكتيك دوديك هو "توجيه تهديدات بشأن انفصال صربسكا، للحصول على تنازلات متتالية من أميركا وأوروبا".

وقالت إن هدفه هو الحصول على "قطع صغيرة متتالية من الكعكة"، يهدف بعدها لإلغاء المؤسسات التي تحمي سيادة البوسنة.

وكشفت روج أن دوديك أعلن عن أكثر من 100 تشريع انفصالي لابتزاز الأوروبيين، مشددة على أن أوروبا تحتاج إلى "خطة لكسر نمط استرضاء تهديدات دوديك على الأرض"، ومنع الابتزاز الروسي في البوسنة أيضا.

وترى أنه "بدون رسالة واضحة مفادها أنه سيتم تعزيز الخطوط الحمراء، ستؤدي مفاوضات الغرب مع دوديك إلى مزيد من التنازلات لمطالبه، ومن ثم المزيد من إضعاف الحكومة المركزية البوسنية، خاصة لو استجابت أوروبا وسحبت القضاة الأوروبيين من المحكمة الدستورية البوسنية".

سفاح جديد

يُنكر "دوديك" العضو الصربي في الرئاسة الثلاثية للبوسنة، الإبادة الجماعية التي قام بها صرب البوسنة للمسلمين، ولا يفوت أي فرصة للتقليل من شأن اتحاد البوسنة وتقويضه.

ووصف مذبحة "سريبرينيتشا" التي وقعت في 11 يوليو/تموز 2021، وقتل فيها أكثر من 8 آلاف مسلم بوسني بأنها "أسطورة ملفقة".

وأعاد "دوديك" إحياء لغة سفاح الصرب رادوفان كاراديتش السابق، والذي تم الحكم عليه بالسجن 40 سنة، بأن البوشناق يريدون "دولة مسلمة"، رغم عدم قيام أي مسؤول أو زعيم بوسني مسلم بالحديث عن أي خطط من هذا القبيل.

أستاذ العلوم السياسية بجامعة سراييفو، حمزة كارسيتش، أكد أن "هذا الزعيم الانفصالي المستبد ومنكر الإبادة الجماعية، عمل بجد طوال سنوات على هدم الدولة البوسنية وشيطنة المسلمين البوسنيين".

وأشار كارسيتش في مقال رأي نشره بصحيفة "هآرتس" العبرية في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2021، إلى أن "دوديك يكثف هجومه على المؤسسات التي تضمن وحدة أراضي وسيادة البوسنة بعد الحرب وصولا لانفصال صربسكا".

وعقب قيام الممثل السامي الأوروبي ومبعوث السلام الدولي، كريستيان شميدت، المكلف بضمان التنفيذ المدني لاتفاق السلام، بإقرار تعديلات على القانون الجنائي، قاطع الصرب مؤسسات الدولة فأصيبت بـ"الشلل" منذ قرابة أربعة أشهر وتحديدا في يوليو/تموز 2021.

ونصت هذه التعديلات التي أغضبتهم على تجريم ومعاقبة منكري الإبادة الجماعية التي ارتكبها الصرب الأرثوذوكس ضد المسلمين البوشناق خلال فترة الحرب.

وتطورت المقاطعة إلى تصعيد أكثر خطورة بدعوة دوديك للانفصال عن الدولة البوسنية وسكانها المسلمين، والانضمام إلى كيانات صربية في المنطقة لتشكيل "صربيا الكبرى".

وأعلن أواخر سبتمبر/أيلول 2021، نيته تمرير تشريع لبرلمان جمهورية صربسكا المحلي لسحب الموافقة على إنشاء القوات المسلحة الوطنية للبوسنة والهرسك، وتشكيل جيش مستقل لجمهورية صربسكا.

وفي 18 أكتوبر/تشرين الأول 2021، أوضح موقع راديو "أوروبا الحرة" أن المدعين العامين في البوسنة والهرسك بدأوا تحقيقا مع زعيم صرب البوسنة بتهمة "تقويض النظام الدستوري".

وقال المدعي العام، ساسا سراجليك، الذي أعد القضية ضد دوديك، لراديو "أوروبا الحرة" أن دوديك قد يواجه عقوبة تصل إلى خمس سنوات في السجن حال إدانته.

وأكد سراجليك أن "هذه جريمة جنائية بموجب القانون الجنائي للبوسنة، الذي ينص على أن كل من يحاول تغيير النظام الدستوري للبوسنة والهرسك أو الإطاحة بمؤسساتها العليا بالقوة أو التهديد يعاقب بالسجن لمدة 5 سنوات".

غير محسومة

يبدو أن مسلمي البوسنة في "موقف حرج" ويتخوفون من غياب أميركا وأوروبا، مقابل تصاعد نفوذ روسيا في المنطقة، ما يشجع الصرب المتطرفين على معاودة تهديداتهم ضد المسلمين.

ويزيد من حرج موقفهم أن صمتهم يجرى تفسيره كـ"ضعف"، ومن ثم استغلال الصرب ذلك في مزيد من الضغوط عليهم لهدم الدولة البوسنة وتفتيتها، بينما تصديهم للمتطرفين الصرب يجعل الآخرين يحاولون الظهور في دور "الضحية".

ومع ذلك، شدد رئيس حزب العمل الديمقراطي في البوسنة والهرسك، بكير عزت بيغوفيتش، على ضرورة مواجهة السكان البوسنيين المسلمين والكروات في البلاد، "المواقف المغامرة والفوضوية للصرب".

من جانبه، دعا العضو البوسني بالمجلس الرئاسي، شفيق جعفروفيتش، في 28 أكتوبر/تشرين أول 2021 المسؤولين الصرب للتراجع عن مقاطعة قانون تجريم مجازر البوسنة، وطالب دوديك بالانسحاب من الساحة السياسية في البوسنة "حتى لا يدمر البلاد".

ومع تضاؤل ​​الوجود الدولي في المنطقة، عادت المنافسات غير المحسومة والمصالح المتعارضة بين المجموعات العرقية الثلاث إلى الظهور في البوسنة.

وتقول الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إنهما يراقبان تصريحات دوديك "المتطرفة"، وتحذران من عودة الحرب الأهلية، فيما تدعو وسائل إعلام غربية لعزل دوديك وفرض عقوبات على جمهورية صربسكا. 

الممثل السامي في البوسنة، شميدت، حذر في تقرير قدمه للأمم المتحدة واطلعت عليه صحيفة "الغارديان" في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 من أن "هناك خطرا حقيقيا لعودة العنف للبوسنة وأنها تواجه خطر تفككها".

وقال إن "الشرطة الصربية تتدرب على هجوم، بدعوى مكافحة الإرهاب، من جبل جاهورينا، وهو المكان الذي قصف الصرب العاصمة سراييفو خلال حرب التسعينيات"، مؤكدا أن "هذا يصل إلى حد الانفصال بدون الإعلان عنه".

وفي 14 أكتوبر/تشرين أول 2021، هدد زعيم الصرب بأنه "سيجبر الجيش الوطني على الانسحاب من إقليم صرب البوسنة عبر محاصرة ثكناته".

وقال دوديك: "لو حاول الغرب التدخل فلديه أصدقاء وعدوا بدعم القضية الصربية"، في إشارة إلى صربيا وروسيا.

"الغارديان" ذكرت أن مساعد وزير الخارجية الأميركي غابرييل إيسكوبار أبلغ الكونغرس أنه "ليس من الواضح فيما إن كانت إدارة الرئيس جو بايدن ستدعم عودة الناتو للبوسنة لو حدث شيء هناك".

وسلم "الناتو" مهمته إلى قوة الاتحاد الأوروبي في البوسنة والهرسك (يورفور) عام 2004، لكن قوة الاتحاد "غير كافية ورمزية" وستكون ضعيفة حال أي تحد أمني خطير أو تصعيد للحرب.

ومقابل الموقف الغربي، تعد روسيا هي أقوى داعم لدوديك، ولا تعترف هي أو الصين بسلطة الممثل السامي في البوسنة، وتعتبران أن تفويضه غير شرعي وغير قانوني.

ووفق متابعين، فإن موسكو تبتز الغرب بالتهديد باستخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، لتعطيل تجديد فترة بقاء قوات حفظ السلام في البوسنة، مطالبة بإزالة الإشارات التي جاءت في تقرير الممثل الأعلى الدولي في البوسنة عن تجريم المجازر السابقة.