من سلة غذاء العرب إلى المجاعة.. كيف دمر تمرد حميدتي القطاع الزراعي بالسودان؟

"ملايين النازحين باتوا يلجؤون إلى إجراءات قاسية للبقاء على قيد الحياة، مثل الاكتفاء بوجبة واحدة في اليوم"
في واحدة من أعنف الحروب التي عرفها السودان، يتهاوى القطاع الزراعي الذي يعد شريان الحياة لغالبية السكان.
وتحت وطأة الدمار وانهيار البنية التحتية، بداية من سهول الجزيرة وسنار إلى حقول كردفان ودارفور، تحوَّلت الأرض التي كانت تمد البلاد بالغذاء إلى مساحات خاوية يلفها الغبار والخوف.
قنوات الري جافة، المحاصيل مفقودة، والآلات إما نُهِبت أو أُحرقت، فيما يقف المزارعون عاجزين أمام ديون خانقة وتمويل متوقف.
اليوم، لا يواجه السودان مجرد موسم زراعي صعب، بل يقف على أعتاب أكبر أزمة أمن غذائي في تاريخه الحديث، أزمة تهدد حياة الملايين، وتعيد رسم خريطة الريف والمدن معا.
الأرقام الرسمية التي تتحدّث عن ملايين الأطنان من الحبوب لا تعكس واقع المناطق التي توقفت فيها الزراعة كليا بفعل القتال، ولا تكشف حجم الانهيار في المشاريع الزراعية الكبرى مثل الجزيرة والرهد والسوكي.
وفي ظل انسداد الأفق السياسي وغياب خطط إنقاذ حقيقية، يقترب السودان من لحظة مفصلية، إما تدخل عاجل يعيد الحياة إلى الحقول، أو مجاعة شاملة لن تستثني أحدا.
دعوة للإنقاذ
ومع بداية الموسم الزراعي في السودان، يقف المزارعون على حواف الحقول التي كانت يوما ما خضراء، يتأملون مساحات خاوية وسط خوف من الهجمات المسلحة.
وتتشابك أمام أعينهم صور قنوات ري مدمرة، وآلات زراعية منهوبة على يد العصابات والمليشيات، وتمويل متوقف، وبنية تحتية أنهكتها حرب طاحنة لم تترك حجرا ولا زرعا إلا وأصابته.
ففي ولايتي الجزيرة وسنار اللتين طالما كانتا قلب الإنتاج الزراعي في البلاد، تبدو التحضيرات للموسم الصيفي باهتة، وكأنها محاولة خجولة في مواجهة واقع ثقيل، يتناقض تماما مع الوعود التي أطلقتها وزارة الزراعة.
وفي قلب هذا المشهد، يعترف وزير الزراعة والغابات أبو بكر عمر البشري، في تصريحات أطلقها يوم 4 أغسطس/ آب 2025، لوكالة الأنباء السودانية "سونا" بأن إنقاذ الموسم يحتاج إلى وقفة قوية من أجهزة الدولة، من المالية إلى الري، ومن حكومات الولايات إلى المزارعين أنفسهم.
وقد قدر، بناء على إحصائيات وزارة الزراعة والغابات بالسودان خسائر القطاع الزراعي خلال عامي الحرب التي اندلعت منذ منتصف أبريل/نيسان 2023، بأكثر من 10 مليارات دولار.
لكنه لا يخفي أن رأس مال البنك الزراعي قد تآكل، وأن الإعسار وتخلف المزارعين عن سداد الديون السابقة تركا المؤسسة عاجزة.
ومع إصرار البنك على تحصيل تلك المديونيات قبل أي تمويل جديد، يجد آلاف المزارعين أنفسهم مهددين ليس فقط بحرمانهم من العمل، بل وحتى بمواجهة السجن.

حجم الكارثة
وهو ما دعاه لوصف الأمر بـ "الخنق الممنهج" فالبنوك، كما يقول، تضع شروطا قاسية دون أن الالتفات إلى حجم الخسائر أو المخاطر الأمنية التي يعيشها المزارعون.
الوزارة بدورها تقترح إنشاء صندوق طوارئ لتوفير التقاوي والوقود، وتعد بإعادة جدولة الديون ودمجها في التمويل الجديد، لكن هذه الوعود تتبدد أمام الدمار الذي خلّفته الحرب.
أما الخراب فلم يكن رقميا فحسب، بل ميدانيا وملموسا، معدات زراعية نهبت ودمرت، محطات بحوث وبنوك جينات خرجت عن الخدمة.
فمثلا أكثر من نصف مساحة مشروع الجزيرة توقف عن الإنتاج، مع خسائر تتراوح بين 15 و20 مليار دولار، ومشروع الرهد الذي خسر أكثر من 65 مليون دولار، ومشروع السوكي حيث يواجه أكثر من 700 ألف شخص خطر فقدان مصدر رزقهم، بحسب "سونا".
ورغم أن وزارة الزراعة تعلن بفخر إنتاج 6.6 ملايين طن من الحبوب في موسم 2024-2025، منها 5.4 ملايين من الذرة، فإن الأرقام تخفي واقعا مريرا.
فالمساحات المزروعة في الجزيرة انكمشت بنسبة 54 بالمئة، والزراعة في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع المتمردة توقفت تماما، خصوصا عندما كانت تتحكم في الجزيرة وسنار قبل تحريرهما.
أما في دارفور وكردفان، فالمشهد أكثر قسوة، ونزاع مسلح، ونزوح جماعي، وفقدان للبذور المحسنة، وانقطاع لدورة الإنتاج الغذائي، مما ينذر بجوع كارثي.
وهو ما دعا اللجنة الزراعية في "مؤتمر الجزيرة" للتحذير في 27 يوليو/ تموز 2025، من أن نظام الري يحتاج لصيانة إسعافية بعد عامين من الشلل.
وذكرت بحسب صحيفة "سودان تومورو" المحلية أن أكثر من 70 بالمئة من آليات الهندسة الزراعية نهبت، فيما يمثل فقدان مخزون البذور المعتمدة تهديدا لمحاصيل حيوية مثل الذرة والقطن.
وأوردت أنه على الصعيد الخارجي، تقتصر المساعدات على مبادرات محدودة، كان أبرزها توقيع اتفاقية بين المنظمة العربية للتنمية الزراعية ومؤسسة حلفا الزراعية لمشروع إنعاش وتأهيل الإنتاج الزراعي، بتمويل لا يتجاوز 50 ألف دولار، وهو مبلغ لا يكاد يلامس حجم الكارثة.
وفي تقرير رسمي صدر في 17 أبريل/ نيسان 2025، كشفت وزارة الزراعة والغابات عن وجه آخر للدمار الذي لحق بالقطاع الزراعي، فقد تعرضت وحدة الموارد الوراثية التابعة لهيئة البحوث الزراعية في مدني، ومعها بنك الجينات الرئيس الذي يضم أكثر من 17 ألف مورد وراثي ومعامل بحثية متخصصة، للتدمير الكامل.
وذلك إلى جانب أضرار جسيمة في القطاعين الغابي والبستاني، والبنية التحتية من مخازن وصوامع ومصانع.

كارثة فوق الكارثة
وأوردت أنه في أقاليم كردفان، يواجه حزام أشجار الهشاب والطلح "المنتج الرئيس للصمغ العربي" أخطارا وجودية بفعل الزحف الصحراوي وعمليات القطع الجائر خلال فترة الحرب.
وبحسب التقرير فإن الحزام الشجري يذوب يوميا نتيجة التصحر والاحتطاب العشوائي، إذ استغل كثيرون الفوضى الأمنية لقطع أشجار الهشاب والطلح بهدف إنتاج الفحم النباتي، الذي يعتمد عليه نحو 80 بالمئة من السودانيين في الطهي، في ظل انعدام غاز الطبخ، ويجري تهريبه على الشاحنات والمقطورات إلى دول الجوار الإفريقي.
ويشير إلى أن ولايات كردفان الثلاث تحتل المرتبة الأولى في إنتاج الصمغ العربي بنسبة تقارب 55 بالمئة تليها أقاليم دارفور الخمس.
لكن الغابات في هذه المناطق تواجه مهددات متزايدة، أبرزها الاحتطاب العشوائي، وفقدان الغطاء النباتي في نحو 13 من أصل 18 ولاية، ما أدى إلى إزالة دائمة للغابات وفقدان نحو 40 بالمئة من "الكتلة الحية" لأشجار الهشاب والطلح.
ومع ذلك لم تتوقف التهديدات عند القطع الجائر، بل جاءت الحرائق لتضاعف الخسائر، ففي مايو/ أيار 2025، التهمت النيران مساحات واسعة من غابات ومزارع النخيل في منطقة تنقاسي شمال السودان، وحولت خلال ساعات أشجارا مثمرة وحقولا خضراء إلى رماد وحطام أسود.
وفي أبريل، شهدت ولايات كردفان حرائق مماثلة اجتاحت أشجار الهشاب والطلح ومساحات مزروعة، مدمرة أجزاء من التنوع الحيوي في تلك المناطق.
وبحسب مزمل جادين، العضو السابق في جمعية النخيل السودانية، في تصريحات لصحيفة "الراكوبة" المحلية يوم 22 أبريل، فإن الحرائق التي وقعت قبل أشهر ضربت "أكبر وأغنى مناطق إنتاج التمور والبلح في السودان".
وأضاف أنها تسببت في القضاء على آلاف أشجار النخيل، ما يشكل خسارة فادحة للمحاصيل البستانية وللاقتصاد الريفي المعتمد عليها.
18 مليون في خطر
وفي 6 يناير/ كانون الثاني 2025، دق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) ومنظمة الأغذية والزراعة (الفاو) ناقوس الخطر خلال جلسة لمجلس الأمن الدولي بشأن الوضع في السودان.
وأكدا أن البلاد لا تزال في "قبضة أزمة إنسانية ذات أبعاد مذهلة"، وأن الأمن الغذائي تدهور إلى أسوأ مستوياته "في تاريخ البلاد".
هذا التحذير لم يكن الأول من نوعه، بل امتداد لسلسلة إنذارات دولية متواصلة منذ العام السابق.
ففي 6 مارس/ آذار 2024، حذر برنامج الأغذية العالمي من أن السودان قد يواجه "أكبر أزمة جوع في العالم" ما لم يتوقف القتال، مشيرا إلى أن الأطفال سيكونون أول من يسقط ضحية لهذه الفاجعة.
وبعدها بأيام، في 14 مارس/ آذار 2024، وصف يعقوب محمد عبدالله فوري، المنسق العام لمعسكرات النازحين واللاجئين في دارفور، الوضع بأنه "مأساوي" على نحو غير مسبوق، خاصة مع غياب المساعدات الدولية.
وأوضح أن النساء لم يعدن قادرات على مغادرة المخيمات لجلب الطعام خوفا من الاغتصاب، ما ضاعف المخاطر على حياة الأطفال.
وأشار من داخل مخيم "كلمة" في مدينة نيالا بولاية جنوب دارفور إلى أن الأوضاع بلغت حداً لم تعد فيه حتى أوراق الأشجار أو الجراد، اللذان كانا يستخدمان لسد رمق الجوعى متاحين للأطفال.
وفي مطلع أبريل 2024 عادت الأمم المتحدة للتحذير مجددا، مؤكدة أن نحو 18 مليون شخص في السودان يواجهون انعدام الأمن الغذائي الحاد نتيجة للحرب الأهلية المشتعلة.
كما أعلنت اليونيسف أنها رصدت أزمة سوء تغذية بين الأطفال الصغار تفوق أسوأ التوقعات، إلى جانب تفشي أوبئة مثل الكوليرا والحصبة والملاريا، ما جعل الصورة الصحية والإنسانية أكثر قتامة من أي وقت مضى.

وضع غير مسبوق
وتفاعلا مع الحدث، قال الصحفي السوداني محمد نصر ، إن بلاده التي كانت في عقود سابقة تعرف بـ"سلة غذاء العالم" والدول العربية، يعيش اليوم وضعا إنسانيا وزراعيا مزريا غير مسبوق.
وعزا في حديث لـ"الاستقلال"، النتيجة إلى الحرب المدمرة، التي تقف في مقدمة أسبابها ميليشيات الدعم السريع المدعومة إماراتيا، والتي حولت البلاد إلى ساحة فوضى ونهب ودمار.
وأضاف نصر أن السودانيين يشكلون الآن 10 بالمئة من إجمالي المحتاجين للمساعدات الإنسانية في العالم.
وأوضح أن ملايين النازحين والعالقين في مناطق النزاع باتوا يلجؤون إلى إجراءات قاسية للبقاء على قيد الحياة، مثل الاكتفاء بوجبة واحدة في اليوم أو تناول طعام خال من أي قيمة غذائية.
مشيرا إلى أن نقص التمويل وارتفاع أسعار السلع الغذائية أديا خلال الأشهر الأخيرة إلى توقف نحو 90 بالمئة من الأنشطة الخيرية التي كانت تقدم الوجبات للمحاصرين في مناطق القتال، خاصة الفاشر.
وشدد نصر على أن هذه الأزمة من صنع البشر، وأنها تفرض تهديدا بالغا على النساء والأطفال وكبار السن، لافتا إلى أن النزاع والنزوح القسري هما السببان الرئيسان لانهيار الأمن الغذائي في البلاد.
وأكد أن إنكار المجاعة من قبل الأطراف الدولية يزيد الوضع سوءا، ويعمق من معاناة السكان الذين وصفهم بأنهم "لا حول لهم ولا قوة".
وكشف نصر أن فرقه الميدانية في شمال دارفور، وفي مخيمات النزوح مثل زمزم وأبو شوك، وكذلك في جنوب كردفان، وثقت حالات وفاة عديدة بسبب نقص الغذاء، في حين اضطر آخرون إلى أكل الحشائش وعلف الحيوانات للبقاء على قيد الحياة.
المصادر
- من ينقذ الموسم الزراعي في السودان؟
- عندما تسقط غابة.. وجه آخر لحرب السودان
- الأمم المتحدة: السودان في قبضة المجاعة وأزمة ذات أبعاد مذهلة
- من ينقذ الموسم الزراعي في السودان؟
- الجزيرة السودانية تبحث عن إنقاذ أول مواسمها الزراعية بعد التحرير
- وزير الزراعة: الموسم الصيفي يبدأ في يونيو ويحتاج وقفة قوية من الحكومة والمزارعين