معركتها مع مصر.. هل حسمت اليونان صراع كهنة دير سانت كاترين؟

إسماعيل يوسف | منذ ٩ ساعات

12

طباعة

مشاركة

بعد صراع استمر على مدار شهري أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول 2025، بين كهنة دير سانت كاترين، على خلفية المنافسة المصرية اليونانية على أصول الدير، تدخلت أثينا وحسمت الصراع بانتخابات فاز فيها مرشحها.

وانتخب رهبان الدير، في 14 سبتمبر 2025، سمعان (سيميون) بابادوبولوس مطرانا جديدا، بأغلبية 19 صوتا من أصل 20، في اقتراع شهد "هندسة" يونانية، وذلك بعد أسابيع من توتر غير مسبوق عقب عزل رئيس الأساقفة السابق داميانوس من قبل بطريركية القدس.

ودعمت الصحافة اليونانية، رئيس الدير الجديد المنتخب، ووصفه موقع "إيفيميريدا" اليوناني في 15 سبتمبر 2025، بأنه "توافقي ومتعاون مع اليونان"، ويرى أن انتخابه "يمهد لإعادة توحيد الجماعة".

والأهم أن انتخاب بابادوبولوس رئيسا جديدا لأساقفة الدير يفتح الطريق أمام اتفاق مع القاهرة بشأن أصول الدير، بعدما قضت محكمة مصرية في مايو/ أيار 2025 بأحقية مصر في أرضه، ما أثار أزمة بين القاهرة وأثينا.

واتفقت أثينا مع القاهرة على "يونانية" الدير، لكن رئيس الوزراء كيرياكوس ميتسوتاكيس أكد أن الاتفاق المعلق بين البلدين لضمان الطابع الأرثوذكسي اليوناني للدير يتطلب توقيع رئيس الأساقفة الجديد، والذي هندست أثينا انتخابه بحيث يكون مواليا لها، حتى يوقع لصالحها.

قصة الأزمة

ولأن دير سانت كاترين يقع في جبل سيناء جنوب مصر، ويُعد من أقدم الأديرة المسيحية وموقع تراث عالمي لدى اليونسكو، فقد أصدرت محكمة استئناف الإسماعيلية في 28 مايو 2025، حكما بأن أراضي الدير جزء من ملكية الدولة المصرية، وللرهبان حق الاستخدام، وليس الملكية الرسمية.

حكم المحكمة الاستئنافية، في القضية التي يعود تاريخ النزاع القانوني حولها إلى 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2014، لم ينص على مصادرة المباني أو منع الرهبان من استخدام الأماكن الدينية والأثرية، بل ألغى ملكية الدير للأراضي الزراعية والمحاصيل والمزارع المحيطة به.

وأكد أن المباني الدينية والتاريخية والأثرية داخل أسوار الدير لا تخضع للنزاع وتظل تحت إدارة الرهبان الأرثوذكس، ولكنه أكد عدم أحقية الدير في بيع أو رهن الأراضي أو التصرف فيها كأصل عقاري.

وصنفت المحكمة قطع الأراضي المتنازع عليها بين محافظة جنوب سيناء وقيادة الدير، وعددها 71 قطعة إلى أربعة أقسام هي أراض لم يثبت أنها في حيازة رئيس أساقفة دير القديسة كاترين، ثم أراض ذات طابع ديني مملوكة لمصر ويملكها المطران نيابة عن رئيس الجمهورية المصرية.

والقسم الثالث، الأراضي التي تم تحرير عقود بيع ابتدائية لها بين المطران ومحافظ جنوب سيناء عام 2004، والرابع، الأراضي التي سيُطرد منها رئيس الأساقفة، بما في ذلك الأراضي التي تضم مواقع دينية، مثل القلاع الرهبانية. 

وشمل حكم الاستئناف 71 قطعة أرض، منها 29 موقعا دينيا، و17 قطعة أرض تم تحرير عقود بيع ابتدائية لها، وأراضٍ أخرى، في حين اقتصر حكم الدرجة الأولى على المواقع الدينية الـ29.

ورغم أن أيا من الحكمين لم يعترف بملكية رئيس الأساقفة للأراضي، وعدها بدلا من ذلك ملكا للدولة، فإن محكمة الاستئناف لم تقرر أن حيازة رئيس الأساقفة نتجت عن "اغتصاب"، على النقيض من حكم الدرجة الأولى.

واقتصر حكم محكمة الاستئناف على طرد رئيس الكنيسة من بعض الأراضي التي يملكها فعليا ولكنها غير مخصصة للأماكن الدينية (29 قطعة أرض) أو تم تحرير عقود بشأنها (17 عقدا)، واشترطت تسليم هذه الأراضي مع منشآتها ومزروعاتها.

حماية يونانية

أثار الحكم عاصفة من الاعتراضات والإدانات اليونانية، ووصفت الكنائس الأرثوذكسية في أثينا والقدس والقسطنطينية، القرار بأنه "كارثة روحية" و"نكسة تاريخية".

ولأن الدير ينتمي إلى طائفة الأرثوذكس، التي لها صلات تاريخية بالكنيسة اليونانية، ويوجد به عدد من الرهبان اليونانيين، تدخلت اليونان رسميا، واخترعت مشروع قانون في برلمانها لمنح الدير صيغة قانونية يمثلها مكتب في أثينا.

وتم الربط بين الحكم وبين إطلاق حكومة النظام المصري، مشروع “التجلي الأعظم” عام 2021، والذي يهدف إلى تحويل مدينة سانت كاترين إلى مركز عالمي للأديان الإبراهيمية.

وتوترت العلاقات بين أثينا والقاهرة، وقدمت حكومة اليونان مشروع قانون (يونيو 2025) إلى البرلمان بعنوان: "حماية الوضع القانوني لممتلكات دير سانت كاترين في سيناء".

ويهدف ذلك إلى إنشاء كيان قانوني مقره أثينا يمثل الدير أمام المحاكم والجهات الرسمية المصرية، وتسجيل الدير كشخصية اعتبارية دينية مستقلة في القانون اليوناني، وتمكينه من إدارة ممتلكاته الثقافية والمالية والتبرعات عبر اليونان وأوروبا.

ورأى الرهبان المناوئون لرئيس دير سانت كاترين، أن منح الدير شخصية قانونية في اليونان “أمر مرفوض”، لأنه يفقده استقلاليته ويجعله تابعا (أو مملوكا) لليونان.

وألمحوا إلى أن ما يجرى في الدير تخطى أسواره، وأصبح ورقة في لعبة توازنات أوسع بين أثينا والقاهرة، ضمن سعي اليونان لترسيخ نفوذها، عبر ربط الدير قانونيا وتنظيميا بمؤسساتها الرسمية، ما يمنحها ورقة ضغط على مصر عند الحاجة.

وبعد محادثات رسمية بين البلدين، وزيارة وزير الخارجية اليوناني جورجوس جيرابتريثيس إلى القاهرة، تم التأكيد على أن الوضع القانوني والروحي للدير محفوظ.

ونفت الحكومة المصرية أن يُغير الحكم من طبيعة الوضع الديني أو الروحي للدير، وأكدت أن الوضع سيستمر كما هو داخل الدير، كما أن الأراضي التي يحتلها الدير ستظل تستخدمها السلطات الدينية والرهبان، ولكن ملكيتها باتت مصرية.

وأكدت الرئاسة والخارجية المصرية أن الحكم ليس مصادرة وإنما تنظيمي، وأن مصر ملتزمة بالحفاظ على الوضع المعترف به دوليا للدير.

وقال رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي، خلال اتصال هاتفي مع رئيس الوزراء اليوناني، كيرياكوس ميتسوتاكيس، إنه “لا مساس بدير سانت كاترين”.

وشدد بيان للرئاسة على ضرورة وأهمية "تصحيح المعلومات المغلوطة التي يتم الترويج لها في أوروبا بهذا الشأن".

وقبل صدور الحكم، وخلال زيارة السيسي إلى أثينا، مطلع مايو 2025، قال في مؤتمر صحفي: "أؤكد التزام الدولة المصرية بالتعاقد بين الدير والدولة، وهو تعاقد أبدي لن يُمس".

لكن الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية وممثلي بطريركياتها في العالم رأوا أن الحكم القضائي “تهديد مباشر لوجود أقدم دير مسيحي مأهول في العالم، وخطوة نحو تجريده من ممتلكاته التاريخية”.

ويتمتع دير سانت كاترين في سيناء بإدارة ذاتية مستقلة عن الكراسي البطريركية، وهو وضع ناتج عن اتفاقية تاريخية بين أربع كنائس للروم الأرثوذكس (الإسكندرية، وأورشليم، والقسطنطينية، وأنطاكية). 

أزمة الرهبان

عقب حكم محكمة استئناف الإسماعيلية، بنزع ملكية 14 قطعة أرض تابعة للدير، وتحويل باقي الأراضي بما فيها أرض الدير إلى حق انتفاع، تفجرت أزمة داخل الدير بين فريقين، الأول يتزعمه رئيس الكهنة داميانوس، والثاني رهبان معارضون لقراراته وفساده. 

وقعت مواجهات داخل دير سانت كاترين، بين رئيس الأساقفة المطران داميانوس، ومعه 10 من شركة أمن خاصة استأجرهم، ورهبان معارضين له، سبق أن اتهموه بالفساد المالي، وأصيب 4 نقلوا لمستشفى شرم الشيخ، وذلك بالتزامن مع الأزمة بين مصر واليونان.

السبب المعلن هو أن داميانوس هرع إلى أثينا لحضور جلسة للبرلمان للموافقة على قانون جديد يمنح "هيئة عامة"، وهمية، مقرها أثينا سلطات واسعة لإدارة ممتلكات دير سانت كاترين داخل وخارج سيناء.

المعارضون قالوا: إن موافقة على هذا القانون اليوناني (الذي يستهدف الالتفاف على حكم المحكمة المصرية) تمت دون الرجوع لمجمع الآباء، وهو الهيكل الإداري الذي يضم رهبان الدير ويملك سلطة القول الأخير في أي شأن إداري أو مالي.

وعد الرهبان القانون الجديد "محاولة لوضع الدير تحت وصاية خارجية".

لكن داميانوس، عارضهم، قائلا: إن القانون اليوناني "درع حماية إستراتيجي" للدير أمام تهديدات فقدان استقلاله في مصر، وطالب القاهرة بالحفاظ على الشخصية القانونية المستقلة للدير.

ومع تصاعد الأزمة، صوت مجمع الآباء نهاية يوليو/تموز 2025، على عزل داميانوس مستندا إلى لائحة الدير التي تمنح المجمع سلطة عزل المطران في حال سوء الإدارة أو الانحراف العقائدي.

عقد الرهبان المعارضون لداميانوس اجتماعا في 30 يوليو 2025، وصوتوا على عزله، بتصويت 16 راهبا من أصل 23 أي بأغلبية ثلثي "مجمع الآباء"، وقرروا انتخاب مجلس أعلى جديد للدير.

وكانت مبررات العزل عديدة منها أنه سافر لليونان ليوقع على قانون جديد أعده البرلمان لنقل الإشراف على الدير وممتلكاته في مصر لهيئة يونانية في أثينا.

كما اتهموه بجمع إيرادات لمقر الدير من أثينا عام 2024 تبلغ أكثر من نصف مليون يورو، ولكن لم يتسلم الدير سوى 60 ألف يورو فقط، فيما بلغت مصروفات المطران الشخصية نحو 63 ألف يورو.

كما باع عقارا ومستودعا في اليونان تابعين للدير دون الرجوع إلى أخوية الدير، في خرق مباشر للائحة الداخلية، وارتكب "مخالفات مالية وإدارية وعقائدية".

ورفض داميانوس قرار العزل، وقام بتمويل مقالات في الصحافة اليونانية تدعمه، مصورا الأمر وكأنه "انقلاب" وليس عزلا قانونيا.

ثم عاد من اليونان مع حراس الأمن الخاص في 26 أغسطس/آب 2025، وأخرج الرهبان واحدا تلو الآخر من قلاياتهم وطردهم، بعد كسر الأبواب والشبابيك، بحجة أنهم قاموا بانقلاب ديني ضده.

وقد استصدر الرهبان المعارضون له قرارا من كنيسة القدس بعزله من رئاسة الدير.

مصنوع يونانيا

وأخيرا، بعد ضغوط يونانية وكنسية أصدر داميانوس، بيانا في 12 سبتمبر 2025 أعلن فيه التنحي عن رئاسة الدير، ودعا إلى انتخابات جديدة قائلا إنه لن يحضرها.

كما أعلن رفع العقوبات عن "الرهبان المتمردين"، وسحب البلاغات المتبادلة "درءا للشقاق"، وانتقل للعيش في اليونان.

ورد الرهبان المتصارعون معه بسحب البلاغات ضده في أقسام الشرطة بمدينتي دهب وشرم الشيخ، وهدأت بطريركية القدس الأجواء بالتراجع عن خطوة شلح (عزل) داميانوس بعد قراره بالانسحاب.

وأجريت انتخابات جديدة، في 14 سبتمبر 2025، هندستها أثينا ليأتي رئيس جديد للدير مواليا لها، وفق تقديرات مصرية، ليصبح بابادوبولوس، هو رئيس الكنيسة الجديد.

ونقل موقع "مدى مصر" الاستقصائي، في 17 سبتمبر، عن "مصدر مطلع" قوله: إن اليونان كانت لها "يد واضحة" في هندسة مسار الانتخابات بما ضمن فوز سيميون، مؤكدا أن مسار اختياره رئيسا لدير سانت كاترين بدلا من داميانوس، "تم هندسته".

فوفقا للائحة دير سانت كاترين، يشترط للترشح أن يكون عمر الراهب بين 35 و70 عاما، وأن يكون ترهبن داخل الدير، وأن يكون كاهنا.

وهي شروط انطبقت على خمسة فقط اثنان بلا قاعدة شعبية، وثلاثة دار بينهم التنافس الفعلي، والفائز، كان وكيل المطران السابق، وتُؤخذ عليه، بحسب المصدر من داخل الدير، سلبيته في التعامل مع شكاوى الرهبان خلال السنوات الأخيرة.

أيضا استُخدمت أوراق التسريح الكنسي في اليونان كأداة ضغط، إذ كان للراهبين المنافسين أخويات أو إقامات كنسية في اليونان، فتم تعطيل إجراءات تسريحهما من تلك الأديرة، ما أفقدهما أهلية الترشح، وحال دون حصول أحدهما على إذن المشاركة في التصويت.

"وهكذا ضاق الهامش أمام الرهبان، ووجدوا أنفسهم أمام خيار واحد"، كما يقول المصدر، موضحا أن المطران السابق طرد هذين الراهبين (المرشحين) من الدير خلال الفترة الأخيرة، بسبب اختلافهما مع سياساته.

ومن المتوقع أن يسافر رئيس الدير الجديد إلى مدينة القدس المحتلة أكتوبر 2025، حتى يتم ترسميه رسميا بعد انتخابه، على أن يُنتخب لاحقا مجلس شورى جديد (المجلس الإداري الأعلى للدير).

وللدلالة على "هندسة" اليونان للانتخابات، تحدثت صحيفة "كاثيميريني" الكنسية، عن "مخاوف" بشأن طريقة الانتخاب، وقالت إن "الأمور غامضة".

وأشارت إلى "عدم وضوح قواعد الانتخابات، ومن له حق التصويت".