من الفتور إلى التضييق.. هل تدفع باكستان ثمن تقارب الإمارات مع الهند؟

داود علي | منذ ساعة واحدة

12

طباعة

مشاركة

بدأ آلاف الباكستانيين يلمسون أن أبواب دولة الإمارات العربية المتحدة التي شكّلت لسنوات طويلة إحدى أبرز الوجهات للعمل والهجرة ولمّ الشمل، آخذة في الانغلاق بصمت.

فرغم تأكيد الحكومة الإماراتية عدم وجود أي حظر رسمي، تتزايد المؤشرات الميدانية التي تعكس واقعا مغايرا تماما؛ رفض جماعي لطلبات التأشيرة، وتشديد واسع على الإقامات، وإجراءات باتت أكثر تعقيدا من أي وقت مضى.

هذا التحول المفاجئ يطرح تساؤلات جوهرية حول ما إذا كانت هذه السياسة ظرفية ومؤقتة، أم أنها جزء من إعادة هيكلة أوسع لسوق العمالة الأجنبية في الإمارات. كما يثير احتمالات ارتباطها باصطفافات سياسية جديدة تقودها أبوظبي، لا سيما مع تسارع التقارب الإستراتيجي بينها وبين نيودلهي، الخصم التقليدي لباكستان.

وفي ظل هذا المشهد، يجد الباكستانيون أنفسهم أمام سؤال معقّد تتداخل فيه السياسة بالأمن وبسوق العمل وبتبدّل التحالفات الإقليمية: هل تمثل الإجراءات الحالية مجرد موجة عابرة من التشدد الإداري؟ أم أنها بداية مرحلة جديدة تتراجع فيها مكانة العمالة الباكستانية، مع توجّه السياسة الخارجية الإماراتية نحو الهند أكثر من الحليف التقليدي السابق، باكستان؟

الثابت حتى الآن أن الأزمة الراهنة تعكس واقعا جديدا داخل الإمارات؛ واقعاً تتداخل فيه التقديرات الأمنية مع الحسابات الإستراتيجية، وتتحول فيه التأشيرات والإقامات إلى أدوات تعبّر عن موازين القوى وتغير اتجاهات التحالفات.

تضييق بلا إعلان

بدأت فصول القصة تتكشف، وفق صحيفتي "داون" و*"جيو نيوز" الباكستانيتين، في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، حين قدّم مسؤولون في وزارة الداخلية الباكستانية إفادة لافتة أمام لجنة مجلس الشيوخ المعنية بحقوق الإنسان.

وأكد الأمين الإضافي للوزارة، سلمان شودري، أن دولة الإمارات باتت تمنح التأشيرات حصرا لحاملي الجوازات الزرقاء والدبلوماسية، في حين أصبح أصحاب الجوازات الخضراء – وهم الغالبية الساحقة من الباكستانيين – شبه محجوبين عن الحصول على أي نوع من التأشيرات الجديدة.

ورغم امتناع أبوظبي عن الاعتراف بوجود قرار رسمي، جاءت المؤشرات على الأرض أكثر وضوحا من أي بيان. ففي مكاتب السفر بكراتشي ولاهور وإسلام آباد، ارتفعت معدلات الرفض إلى نحو 80 بالمئة من طلبات الزيارة الأولى وتأشيرات الدخول الواحد، ما أثار صدمة واسعة في الأوساط الباكستانية.

وسارعت القنصلية الإماراتية في كراتشي إلى نفي وجود سياسة جديدة، لكنها بررت الارتفاع غير المسبوق في حالات الرفض بازدياد عدد الطلبات، وهو تفسير لم يُقنع كثيرين، خاصة مع تنامي الشكاوى خلال الأشهر الأخيرة بشأن إجراءات تدقيق أكثر صرامة وتمحيص أمني موسع.

وتُرجع مصادر إماراتية متطابقة – وفق "جيو نيوز" – هذا التضييق إلى تقديرات أمنية، مشيرة إلى قلق متزايد من دخول مقيمين باكستانيين بتأشيرات زيارة ثم تورطهم في التسول أو جرائم الشوارع. إلا أن مسؤولين ودبلوماسيين في إسلام آباد يرون أن هذا التفسير لا يقدم الصورة الكاملة، وأن خلف المشهد الأمني عوامل سياسية أعمق.

فالعلاقات الإماراتية الباكستانية تشهد منذ سنوات حالة فتور واضحة، قابلها صعود غير مسبوق في الشراكة الإستراتيجية بين أبوظبي ونيودلهي. وقد أصبحت العلاقة الشخصية المتينة بين الرئيس الإماراتي محمد بن زايد ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي حجر الأساس لتوجه إقليمي جديد يتجاوز الملفات الاقتصادية إلى مجالات الأمن والسياسة.

وتجلّى هذا التحول في عدة ملفات، من التعاون العسكري والتنسيق الاستخباراتي، وحتى المواقف المتعلقة بقضية كشمير؛ حيث امتنعت الإمارات عن دعم الموقف الباكستاني واتجهت إلى تعميق روابطها مع الهند.

وفي هذا السياق، يرى مراقبون أن التضييق غير المعلن على الباكستانيين لا يقتصر على كونه إعادة تنظيم لسوق العمالة، بل يعكس ميزان نفوذ جديد داخل أبوظبي يميل بوضوح لصالح نيودلهي، على حساب المكانة التقليدية التي تمتعت بها العمالة الباكستانية في الخليج لعقود.

وتُعد الإمارات واحدة من أبرز الوجهات التي يقصدها الباكستانيون للعمل؛ إذ يتقدم أكثر من 800 ألف مواطن سنوياً بطلبات للحصول على تأشيرات إلى دول الخليج، وتشكل الإمارات النسبة الأكبر منها. ولذلك فإن أي تضييق طويل الأمد سيترك آثاراً عميقة على الاقتصاد الباكستاني الذي يعتمد بشكل كبير على التحويلات المالية.

وفي ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها البلاد، تُعد تحويلات العاملين في الخارج أحد أهم مصادر النقد الأجنبي، كما تمثل lifeline لآلاف الأسر التي تعتمد على فرص العمل في الإمارات لإعالة نفسها. هذا فضلاً عن أن زيارات الأقارب المقيمين في الدولة منذ عقود باتت جزءا أساسيا من الروابط الاجتماعية بين الجاليات الباكستانية داخل الإمارات وخارجها.

غير أن القلق يتزايد بشأن ما إذا كان هذا التضييق المؤقت مقدمة لسياسة ممنهجة، لا سيما في ظل تحذيرات وزارة الداخلية الباكستانية التي لم تستبعد تطور الوضع إلى حظر صريح يصعب التراجع عنه لاحقا.

الإقامة والتجديد

لم يعد الأمر يقتصر على التأشيرات الجديدة فحسب، إذ تشير شهادات عديدة إلى أن التعقيدات امتدت أيضا إلى إجراءات الإقامة والتجديد بالنسبة للعمال الباكستانيين المقيمين بالفعل في الإمارات. فبحسب مكاتب توظيف في باكستان، تخضع ملفات العمال حاليا لمراجعة أكثر صرامة من قبل الجانب الإماراتي، بحيث قد يؤدي أي خطأ بسيط في الوثائق إلى إلغاء الإقامة أو رفض تجديدها.

وتتداول تقارير غير رسمية حديثا عن ارتفاع ملحوظ في نسبة الإقامات التي تُلغى لأسباب “أمنية” دون توضيحات كافية، الأمر الذي يثير مخاوف من إمكانية توسع هذه الإجراءات لتنال شرائح أوسع من الجالية الباكستانية.

وفي الوقت نفسه، تؤكد الحكومة الباكستانية أنها تُجري محادثات هادئة مع أبوظبي لمعالجة الوضع، غير أن غياب أي جدول زمني أو مؤشرات واضحة على انفراج قريب يعزز الانطباع بأن القضية تتجاوز الخلل الإداري أو الضغط الظرفي. إذ يبدو أن إعادة التموضع السياسي للإمارات في الإقليم بدأ ينعكس بصورة مباشرة على تحركات الجالية الباكستانية، وعلى حركة البشر قبل أن ينعكس على السياسات والدبلوماسية.

التباين مع الهنود

يبدو واضحا أن أبوظبي اختارت تجاوز الكثير من التقديرات التقليدية في علاقتها مع نيودلهي، خلافا لما يجري مع باكستان، وهو ما برز جليا عام 2019 عندما افتتحت الإمارات أول معبد هندوسي في منطقة الخليج العربي. جاء ذلك خلال مراسم رسمية واسعة في العاصمة أبوظبي، حضرها رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى جانب مسؤولين حكوميين هنود، وبمشاركة الشيخ محمد بن زايد الذي كان وليا للعهد آنذاك.

ويُعد الهنود أكبر جالية في الإمارات؛ إذ يشكلون نحو 35 بالمئة من إجمالي السكان البالغ عددهم 10 ملايين نسمة، وهي أكبر جالية هندية مغتربة في العالم. وتستند هذه المكانة إلى علاقات اقتصادية ضخمة؛ إذ تبلغ قيمة التجارة الثنائية بين البلدين نحو 5 مليارات دولار، ما جعل الإمارات ثالث أكبر شريك تجاري للهند في عام 2020 بعد الولايات المتحدة والصين.

كما تُعد الإمارات ثالث أكبر وجهة للصادرات الهندية؛ إذ سجّلت نيودلهي صادرات بقيمة تقارب 16 مليار دولار بين عامي 2020 و2021. وتشمل أبرز السلع الهندية المصدّرة إلى الإمارات المنتجات البترولية، والمعادن النفيسة، والأحجار الكريمة، والمجوهرات، والمنتجات المعدنية، إضافة إلى الأغذية والمنسوجات.

وعلى الصعيد الإستراتيجي، تنتمي الإمارات والهند معا إلى مجموعة "الرباعية لغرب آسيا" (West Asian Quad) التي تضم أيضاً الولايات المتحدة وإسرائيل، ما يعكس عمق الشراكة والتحالفات الجديدة التي يجري تشكيلها في المنطقة.

مأوى المتطرفين

لم تتوقف العلاقات الإماراتية الهندية عند حدود الاقتصاد والتجارة، بل امتدت إلى مستويات أكثر حساسية، تتقاطع مع الأبعاد الأيديولوجية والسياسية للحزب القومي الهندوسي الحاكم في نيودلهي. 

ففي تطور أثار صدمة واسعة، كشف موقع كوستال دايجست الباكستاني في تقرير بتاريخ 20 مايو/أيار 2022 أن منظمة آر إس إس الهندوسية المتطرفة تدرس تعزيز وجودها في الإمارات ودول خليجية أخرى.

ووفق التقرير، فإن "المستجدات الأخيرة تشير إلى أن المنظمة المؤمنة بأيديولوجيا الهندوتفا تعمل على توسيع حضورها داخل الإمارات؛ حيث يوجد عدد كبير من المتعاطفين مع أفكارها بين أفراد الجالية الهندية المقيمة هناك".

كما أوضح الموقع أن رئيس المنظمة موهان بهاغوات عقد سلسلة اجتماعات مع رجال أعمال هنود بارزين في الإمارات بهدف حشد دعم مالي وتنظيمي يعزز نشاط المنظمة وامتدادها داخل منطقة الخليج.

وأشار إلى أن عشرات رجال الأعمال الهنود ــ بينهم الدكتور بي آر شيتي، المدير العام لمجموعة شركات NMC التي تتخذ من الإمارات مقرا لها ــ شاركوا في اجتماع عقد على هامش فعالية مؤيدة لأيديولوجيا الهندوتفا بالقرب من مدينة كوتشي في ولاية كيرالا الهندية.

وأضاف التقرير أن "الزيارة التاريخية" التي أجراها رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى أبوظبي عام 2018 شكّلت نقطة تحول مهمة، إذ شجّعت المتعاطفين مع منظمة آر إس إس في الشرق الأوسط على تعزيز حضورهم، ورفعت مستوى تقاربهم مع هياكل التنظيم المتطرف.

وترى أوساط باكستانية أن حكام الإمارات باتوا يواصلون مسارا واضحا نحو تعميق علاقاتهم مع حزب بهاراتيا جاناتا بزعامة مودي، الحزب الذي يروّج لأيديولوجيا الهندوتفا ويدعم منظمة آر إس إس، في مواقف تنعكس سلبا على المسلمين وعلى العلاقات التاريخية مع باكستان.