أزمة المعارضة التركية: من فقدان الرشد السياسي إلى منطق كل شيء مباح

"المعارضة التركية تواجه اليوم أزمة بنيوية"
الأنظمة الديمقراطية التي يستمر فيها حزب واحد في الحكم لفترات طويلة تشهد تحولا ملحوظا في سلوك المعارضة؛ إذ تميل بعد مدة إلى فقدان أرضية السياسة العقلانية والانزلاق نحو الشعبوية والخطابات المضللة والتحالفات المتناقضة.
ومن أبرز نتائج هذا المسار، التحوّل إلى ما يمكن وصفه بـ"سياسة الغاية تبرر الوسيلة"؛ حيث يصبح اقتناص المكاسب السياسية أهم من الالتزام بالمبادئ.

ردّ الفعل
ونشر مركز "سيتا" التركي مقالا للكاتب، نبي ميش، ذكر فيه أنه "يتّضح من المسار السياسي الأخير في تركيا أن المعارضة، بقيادة حزب الشعب الجمهوري، تبنّت على طوال السنوات الماضية نهجا يقوم على معارضة كل ما يفعله الحزب الحاكم دون تقديم بدائل واقعية".
وأكد أنه “مع تكرار الخسارة في الانتخابات، تراجعت قدرتها على إنتاج خطاب عقلاني، وتحوّل تركيزها من مخاطبة المجتمع الواسع إلى استرضاء القاعدة الصلبة فقط”.
ورأى أن “هذا الانكماش في الأفق السياسي انعكس كذلك على الأحزاب الأخرى المعارضة التي باتت، بدرجات متفاوتة، تسير خلف حزب الشعب الجمهوري وتعيد إنتاج خطابه، دون جرأة على ممارسة نقد ذاتي أو معارضة داخل المعارضة نفسها”.
وهكذا تشكلت بيئة سياسية عِلّتها المركزية تقبّل دور "التابع" بدل المنافسة الفعّالة، يؤكد الكاتب التركي ميش.
وتابع: "هذه الأحزاب، مع بقائها في ظل حزب الشعب الجمهوري، وجدت نفسها مع مرور الوقت تخسر كوادرها لمصلحة أحزاب أخرى، وتنتظر الاستحقاقات الانتخابية دون تأثير يُذكر".
ومثال ذلك، إمساكها عن انتقاد مواقف حزب الشعب الجمهوري التي قد تُضعف المصالح الوطنية أو تُربك الموقف المؤسسي للدولة، بما في ذلك مواقف مرتبطة بالسياسة الداخلية والأمنية.
كما ظهر نمط "التماهي السياسي" في موقف الأحزاب الصغيرة داخل لجنة "تركيا خالية من الإرهاب" في البرلمان، حين تبنّت موقفا مطابقا لموقف حزب الشعب الجمهوري بشأن زيارة إمرالي، رغم أنها كانت سابقا من الداعين للاستماع إلى جميع الأطراف لإنهاء الإرهاب.
وأردف الكاتب بأنه “برزت، في المرحلة الأخيرة، ملامح أزمة أعمق داخل المعارضة نفسها”.
وأشار إلى أنه “رغم تحذيرات رئيس حزب الشعب الجمهوري السابق كمال كليتشدار أوغلو بشأن الفساد والرشوة في بعض البلديات التابعة للحزب، اختارت القيادة الجديدة الرد ليس على الاتهامات بل على صاحبها، باتهامه بالتعاون مع الحكومة.. أما بقية أحزاب المعارضة ففضّلت الصمت”.
ولفت الكاتب النظر إلى أن “المشكلة تتأزّم داخل المعارضة التركية؛ فقد تعدّى الحزب مرحلة فقدان الرشد السياسي ليصل إلى منطق كل شيء مباح”.
وتابع: “فقد تجاوز الحزب حدود الفساد إلى طريقة تسويقه داخل القاعدة الشعبية، حيث يُطرح على أنصار المعارضة -ضمنيا- أن هذه التجاوزات إن حدثت فهي من أجل إضعاف الحكومة، وذلك في محاولة لشرعنة الخطأ بدعوى الضرورة السياسية”.

زيارة البابا
ويرى الكاتب أن واحدة من أبرز المظاهر الدالة على تبنّي المعارضة لنهج "كل شيء مباح" تجلّت بوضوح خلال زيارة البابا ليو الرابع عشر إلى تركيا أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني 2025.
فقد شكّلت الزيارة، بما تحمله من رمزية دينية وسياسية على الساحة الدولية، فرصة يمكن استثمارها لإيصال رسائل دقيقة تعكس موقف الدولة التركية من القضايا الإقليمية والدولية، غير أن بعض الأطراف المحسوبة على المعارضة اختارت تحويل هذا الحدث إلى ساحة جديدة للتلاعب والتضليل.
وأشار الكاتب إلى أن “منصات التواصل الاجتماعي شهدت انتشارا واسعا لمحتويات مفبركة ومضللة تتعلق بالزيارة؛ حيث جرى تداول معلومات مغلوطة وتعليقات منحازة، صيغت بهدف إضعاف الأثر الإيجابي للرسائل التي وجهها الرئيس رجب طيب أردوغان خلال لقائه بالبابا”.
فقد ركّز الرئيس على القضايا التي تشغل الرأي العام العالمي، وعلى رأسها ما يجري في قطاع غزة، وتصاعد الإسلاموفوبيا في الغرب، إضافة إلى استهداف الاحتلال الإسرائيلي الأماكن المسيحية المقدسة، وهي رسائل تحمل بعدا إنسانيا ودبلوماسيا يتجاوز حدود السياسة الداخلية.
غير أن بعض دوائر المعارضة لم تتعامل مع الزيارة بوصفها حدثا ذا طابع دولي وإمكانات دبلوماسية، بل نظروا إليها من زاوية خصومتهم السياسية مع الحكومة، فتعاملوا معها كفرصة لتوجيه الضربات الإعلامية وتشويه الصورة بدل فهم أهميتها.
وهكذا تحوّل حدث كان يمكن أن يشكّل منصة لتعزيز صورة تركيا ومواقفها الأخلاقية أمام العالم، إلى أداة تُستخدم في السجالات الداخلية ومحاولات تسجيل النقاط السياسية.
وأشار الكاتب إلى أن “هذه الحادثة ليست معزولة، بل تعكس نمطا متكررا أصبح يطبع أسلوب بعض مكونات المعارضة؛ حيث لا يتم التوقف عند حدود المصلحة الوطنية أو حساسية المواقف الدولية، بل يجري تقديم التقديرات الحزبية الضيقة، حتى إن كانت على حساب الصورة العالمية للبلاد وفرصها الدبلوماسية”.
وشدد على أن سيادة نهج "الغاية تبرر الوسيلة" في العمل المعارض يفضي بالضرورة إلى تآكل القيم السياسية داخل الأحزاب نفسها.
فغياب المعايير يؤدي إلى صراعات داخلية دائمة حول المواقع والمصالح، ويجعل الأزمات الداخلية مزمنة، وهذا بدوره يمنع تشكل بديل حقيقي قادر على منافسة السلطة عبر رؤية وبرنامج، لا عبر ردود أفعال ظرفية.
وختم الكاتب مقاله قائلا: “تواجه المعارضة التركية اليوم أزمة بنيوية تتجاوز الخلافات الأيديولوجية إلى إشكاليات في منهج العمل السياسي ذاته”.
وتابع: إن استمرار نهج المعارضة برد الفعل، والتموضع داخل دائرة "كل ما تفعله الحكومة خطأ"، واعتماد الشعبوية والتلاعب الإعلامي، كلها عوامل تجعلها عاجزة عن تقديم بديل مقنع للمجتمع.














