تغير مفاجئ.. ماذا وراء انقلاب العلاقات بين أميركا وكينيا؟

منذ ساعتين

12

طباعة

مشاركة

للحظة عابرة عام 2024، كانت نيروبي حظوة واشنطن المدللة، ففي خطوة نادرة لقائدٍ إفريقي، كُرّم الرئيس وليام روتو، في البيت الأبيض، ومُنحت بلاده صفة "حليف رئيس من خارج الناتو"، لتكون الأولى في إفريقيا جنوب الصحراء.

كانت تلك الخطوة بمثابة تتويج لصفقة قائمة على المصالح المتبادلة، تؤدي فيها كينيا دور الدولة الركيزة لأميركا في منطقة مضطربة، فتوفّر قوات حفظ سلام لهايتي، وتكون شريكا مستقرا في ظل الانقلابات والتعديات الصينية والروسية على إفريقيا.

وفي المقابل، تحصل نيروبي على دعم أمني وحليف قوي في واشنطن.

صفقة تتهاوى

بعد مرور عام واحد فقط، تهاوت تلك الصفقة تماما، وجاءت أول فاتورة لهذا الفشل على شكل تعديل على قانون تفويض الدفاع الوطني (NDAA).

التعديل الذي قدمه أخيرا السيناتور جيمس ريش، أبرز الجمهوريين في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، يدعو إلى مراجعة رسمية لوضع كينيا المميز كـ"حليف رئيس من خارج الناتو".

في هذا السياق، تساءلت مجلة "ريسبونسبل ستيتكرافت" الأميركية: “لماذا أصبحت علاقة واشنطن بكينيا في حالة يرثى لها فجأة؟”

وبحسب التعديل، يكمن المبرر في سجل مدوٍ من التجاوزات الأخيرة لكينيا، من ذلك علاقاتها المشبوهة مع "جماعات مسلحة غير حكومية ومنظمات متطرفة عنيفة، بما في ذلك الدعم السريع السودانية، وحركة الشباب في الصومال".

هذا فضلا عن دورها كـ"ملاذ مالي آمن" للكيانات الخاضعة للعقوبات، وتعمق انخراطها الأمني والاقتصادي مع الصين، واستخدامها لـ"المساعدات الأمنية الأميركية" في "عمليات اختطاف وتعذيب وتسليم قسري وأعمال عنف ضد المدنيين".

وقال التقرير: إن "كينيا انحدرت بسرعة وبأيديها، فتاريخيا، بنَت سياستها الخارجية على القوة الناعمة للوساطة؛ حيث كانت المكان الذي لا غنى عنه لصياغة اتفاقيات السلام للصومال والسودان قبل عقدين من الزمن، كما كانت بمثابة ركيزة مستقرة في محيط مضطرب".

أما في عهد روتو، فقد شوّهت هذه السمعة، وفق التقرير.

الأكثر كارثية

وأكدت المجلة أن “الخطأ الأكثر كارثية كان في السودان، ففي فبراير/شباط 2025، وبينما كانت البلاد تحترق، استضافت نيروبي قادة الدعم السريع أثناء توقيعهم ميثاقا لتشكيل حكومة موازية”.

وصوّر وزير الخارجية الكيني موساليا مودافادي هذا الجهد على أنه خطوة نحو بناء السلام، لكن الحكومة السودانية، بقيادة الجيش، استدعت سفيرها بغضب، ووصفت كينيا بـ"الدولة المارقة"، وحظرت جميع وارداتها من البلاد، ما شكّل ضربة اقتصادية كبيرة.

ومما زاد الطين بلة بالنسبة لروتو، أن نائبه السابق، ريغاتي غاشاغوا، اتهمه علنا بإقامة علاقة "تجارية" مع قائد الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، زاعما أن كينيا تُستخدم لغسل الذهب السوداني لتمويل آلة الحرب التابعة للدعم السريع.

وقالت المجلة: "سواء كان ذلك صحيحا أم لا، فقد ترسخت الصورة القائلة بوجود صفقة خاصة تتجاوز السياسة الخارجية المبادئية، وقد حذّر الاتحاد الإفريقي أخيرا من (تجزئة السودان) وأدان ضمنيا دور نيروبي في توفير منصة لهذه المجموعة شبه العسكرية".

وظهر نمط مماثل في جمهورية الكونغو الديمقراطية، ففي أواخر 2023، استضافت نيروبي قادة "حركة 23 مارس" المتمردة، المدعومة من رواندا والتي أرهبت شرق الكونغو.

وقد أغضب هذا كينشاسا، التي رفضت اعتماد سفير كينيا ووجهت اتهاما لروتو بـ"دعم رواندا". 

وأشار التقرير إلى أنه لا يمكن فصل مغامرات روتو الدبلوماسية عن انهيار الاتفاق السياسي في الداخل. 

فقد تلاشت رواية "أمة الطموحين" (Hustler Nation) التي أوصلته إلى السلطة عام 2022 على موجة من الوعود الشعبوية، لتحل محلها الحقيقة القاسية لتقشف مفروض من صندوق النقد الدولي.

وأدى محاولة الحكومة تمرير مشروع قانون مالي يثقل السلع الأساسية بالضرائب إلى اندلاع انتفاضة يقودها الشباب، "احتجاجات "جيل زد"، التي هزت أركان الدولة.

وكان رد الدولة وحشيا، مُحققا أسوأ التوقعات حول ميول روتو الاستبدادية، فقد واجهت القوات الأمنية المحتجين السلميين بالرصاص الحي والاختطاف والتعذيب.

وهذا هو السياق الداخلي الذي يفسّر قلق السيناتور الأميركي ريش بشأن إساءة استخدام المساعدات الأمنية الأميركية.

ووصفت المجلة احتضان إدارة جو بايدن لروتو بأنه كان "مخاطرة محسوبة"، ففي مواجهة موجة من الانقلابات المناهضة للغرب في منطقة الساحل، وتنامي نفوذ الصين، احتاجت واشنطن إلى شريك موثوق.

وقد أدّى روتو، بصفته سياسيا محنكا، دوره ببراعة، موفّرا الأمن لمهمة هايتي المدعومة أميركيا ومرسخا مكانته كوسيط رئيس في شؤون المناخ والأمن الإقليمي، وجاء تصنيفه كحليف رئيس غير عضو في الناتو كمكافأة له.

واستدركت المجلة: "لكن وصول إدارة دونالد ترامب وتقديم تعديل ريش يشير إلى تحول جوهري في طريقة واشنطن لحساب مصالحها".

فقد ألغى وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، فجأة زيارة كانت مقررة إلى نيروبي في وقت سابق من عام 2025، في إهانة دبلوماسية صريحة، وجاء ذلك بعد زيارة روتو إلى بكين، ومع بدء واشنطن بخفض برامج المساعدات بهدوء.

التقارب مع الصين

وفي الواقع، يُعدّ هذا التعديل دليلا على إخفاق كينيا في الوفاء بالتزاماتها في تلك الصفقة مع الولايات المتحدة.

أولا، تقاربت كينيا مع خصوم أميركا، فالرئيس روتو دافع عن العلاقة مع الصين، مؤكدا أنها تهدف إلى تأمين أسواق تصدير حيوية، لا إلى توجه إستراتيجي.

ومع ذلك، لم يُخفف هذا التوضيح من المخاوف في واشنطن. 

فقد عدت خطاب روتو في بكين، الذي أعلن فيه أن كينيا والصين "شريكان في هندسة نظام عالمي جديد"، بمثابة إهانة لواشنطن.

وقد أدرج السيناتور ريش النص الكامل لذلك الخطاب في سجلات الكونغرس، في رسالة واضحة مفادها: لا يمكنك أن تكون حليفا رئيسا خارج الناتو وتكون في الوقت نفسه "شريكا في هندسة" نظام عالمي جديد مع بكين.

ثانيا، تقوض كينيا أهداف الأمن القومي الأميركي -وفق التقرير- فبتوفير منصة وخدمات مالية مزعومة للدعم السريع -المتهمة من قبل الولايات المتحدة بارتكاب إبادة جماعية وذات صلات بمرتزقة فاغنر الروس- لا يقتصر دور نيروبي على التدخل في حرب أهلية فحسب.

بل تتجاوز ذلك لتتعارض مع السياسة الأميركية الرامية إلى إضعاف فاغنر (وخليفتها، فيلق إفريقيا) وإنهاء الحرب في السودان.

بالإضافة إلى ذلك، يطالب تعديل ريش بإجراء تحقيق حول العلاقات الرسمية مع حركة الشباب. 

ويستغل التعديل المخاوف المستمرة -التي أقر بها مكتب الخارجية الأميركية- بشأن الفساد المتجذر داخل جهاز الأمن الكيني.

فهذا الفساد يسمح لمسؤولين منفردين بالتربّح من شبكات التهريب نفسها التي تموّل حركة الشباب، وفق التقرير.

وأخيرا، حددت وزارة الخزانة الأميركية شبكة مالية مقرها كينيا وفرضت عليها عقوبات، بصفتها مركزا حيويا لغسل أموال حركة الشباب.

وبحسب تقييم المجلة، فإن احتمالية تحول تعديل ريش إلى قانون مرتفعة، فمن الناحية الموضوعية، يُعد اقتراحه مقنعا لأنه يجسر الانقسام الحزبي بذكاء، حيث صُمم ليخاطب مخاوف الجمهوريين بشأن النفوذ الصيني والروسي في إفريقيا.

وفي الوقت نفسه يلبي المطالب التقليدية للديمقراطيين بخصوص المساءلة حول حقوق الإنسان وسوء استخدام المساعدات الأمنية الأميركية.

علاوة على ذلك، فإن التعديل مُصاغ على شكل مراجعة وليس كعقوبة فورية، فهو لا يسحب مكانة كينيا ولا يقطع المساعدات عنها، بل يفرض ببساطة إعداد تقرير، وهذا يُسهل تمريره، إذ يمكن للمشرعين المتشككين دعمه باعتباره دعوة لمزيد من الرقابة.

وأضاف التقرير أن "القوة السياسية لهذا التعديل تتعزز بفضل الآلية التشريعية المرتبطة بها، فالقانون نفسه (قانون تفويض الدفاع الوطني) هو مشروع القانون السنوي الذي يُجيز الميزانية ويحدد سياسات وزارة الدفاع الأميركية".

وتابع: "وعلى مدى أكثر من ستة عقود متتالية، أقرّ الكونغرس قانون تفويض الدفاع الوطني، ما خلق زخما مؤسسيا قويا يتجاوز الانقسامات الحزبية".

وختمت المجلة بالتأكيد على أن "بدء المراجعة الرسمية مسألة وقت لا أكثر، وأن النتيجة النهائية تتوقف ليس فقط على تقييم الشخصيات الرئيسة في الإدارة الأميركية، بل بشكل حاسم على مدى قدرة حكومة الرئيس روتو على معالجة مخاوف واشنطن بمصداقية قبل اتخاذ قرارها النهائي".