أقصى يسار ألمانيا يتبرأ من إبادة غزة ويعلن الحرب ضد إسرائيل.. ما القصة؟

“إسرائيل هي أسوأ ما أنتجه التاريخ اليهودي”
ثمة “تحول مثير للجدل” طرأ في خطاب حزب أقصى اليسار الألماني “دي لينكه”؛ إذ انتقل من تبني مواقف مناهضة للفاشية إلى اعتماد خطاب يُتهم بأنه “معادٍ للسامية”، على خلفية رفضه الإبادة الإسرائيلية ضد قطاع غزة والتي تدعمها برلين رسميا.
وبحسب موقع "أتلانتيكو" اليميني الفرنسي المتطرف، كرس الحزب في مؤتمره الأخير لغته لمهاجمة إسرائيل وجرائمها في غزة.
ويضم “دي لينكه” نحو 63 ألف عضو، ولديه 39 مقعدا في البرلمان الاتحادي، وفي الشهور الأخيرة أصبح ميالا لتبني الاشتراكية الديمقراطية، ومواقف لم تكن قيادات الحزب تجرؤ عليها في السنوات السابقة.
موقف جديد
يبدأ الموقع الفرنسي تقريره بتوضيح أن أعضاء حزب "دي لينكه" الألماني اليساري يعتقدون أن "مسببي مآسي هذا العالم من السهل تحديدهم؛ الأغنياء والفاشيون وإسرائيل".
وخلال مؤتمر الحزب الذي عُقد أخيرا، نُدد بهذه "الرموز الثلاثة للشر كما ينبغي"، وفق وصف التقرير.
وتابع التقرير: "لكن القرارات التي استهدفت إسرائيل كانت الأبرز، ولفتت انتباه الرأي العام بشكل خاص".
وأحد هذه القرارات ينص على أن "إسرائيل تستخدم تجويع السكان المدنيين كوسيلة لتسريع التدمير المستدام لجميع سبل العيش، والتهجير القسري والدائم للفلسطينيين"، وأن حزب "دي لينكه" يدين بشدة "جرائم الحرب".
وأضاف الموقع أن "الحزب كذلك تبنى تعريفا مثيرا للجدل لمعاداة السامية"، متماشيا مع "إعلان القدس"، الذي يعترف بأن "كراهية اليهود بصفتهم تلك تُعد معاداة للسامية".
لكنه يرفض -في ذات الوقت- جعل الدعوات إلى مقاطعة إسرائيل وسكانها معادية للسامية، مما يمنح شرعية ضمنية لحملات نزع الشرعية التي تقودها منظمات مثل حركة المقاطعة (BDS)"، وفق زعم التقرير الفرنسي.
"أما الأصوات القليلة التي عارضت هذا التوجه، فقد هُمشت"، بحسب ما ورد عن الموقع.
ولم يكن مفاجئا -بحسب الموقع الفرنسي- أن "يتحول هذا المؤتمر إلى منصة للحركة المعادية لإسرائيل؛ حيث كانت الكوفية الفلسطينية -التي أصبحت الزي غير الرسمي لمنتقدي إسرائيل- حاضرة بقوة بين المشاركين".

جدل حزبي
وأشار الموقع الفرنسي إلى أن التوترات برزت حتى قبل انطلاق المؤتمر؛ حيث نشرت أولريكه آيفلر، وهي عضو في قيادة حزب "دي لينكه"، صورة على منصة "إكس" تتضمن دعوة ضمنية إلى “زوال إسرائيل”.
حيث نشرت خريطة تضم إسرائيل وقطاع غزة والضفة الغربية، مغطاة بالكامل ببصمات أيدي بألوان العلم الفلسطيني.
جدير بالذكر هنا أن "النتيجة الجيدة التي حققها الحزب في الانتخابات الإقليمية خلال فبراير/ شباط 2025، أثارت المفاجأة وأعادت إحياء حركة كان يُعتقد أنها تحتضر بعد نتائجها الضعيفة في الانتخابات الأوروبية".
وقد استندت الحملة الانتخابية -كما أفاد الموقع- على خطاب مبسط ذي طابع مناهض للفاشية والرأسمالية، بشعارات مثل: "لنلغ المليارديرات" و"لنحارب الأغنياء" و"لنتعلم من التاريخ".
وفي هذا السياق، يوضح الموقع الفرنسي أن الحزب، قبل أيام قليلة من الاقتراع، نظم مظاهرة تحت عنوان: "من أجل سلام عادل في فلسطين وإسرائيل"، ندد خلالها بـ "جرائم الحرب هناك".
وبالتوازي مع هذا التصعيد في الخطاب المؤيد لفلسطين، والذي بلغ ذروته خلال مؤتمر الحزب، يشير الموقع إلى وجود سياق مقلق بالنسبة لليهود في ألمانيا. إذ زعم تعرض طلاب يهود للتحرش والاعتداء، وإصابة بعضهم بجروح.
وبالعودة إلى فبراير 2023، يذكر الموقع الفرنسي أن إسرائيليا يبلغ من العمر 31 عاما تعرض للضرب المبرح، وأصيب بكسر معقد في الوجه ونزيف دماغي.
وفي ذلك الوقت، حُكم على المعتدي، وهو طالب ألماني من أصل لبناني، بالسجن لمدة ثلاث سنوات.
وفي هذا الإطار، يلفت موقع "أتلانتيكو" النظر إلى أن "الشرطة الألمانية باتت اليوم توصي اليهود بعدم ارتداء (الكيباه) -غطاء الرأس الذي يرتديه اليهود- أو التحدث بالعبرية في الأماكن العامة".
ومنذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، سُجل أكثر من 10 آلاف حادث "معاد للسامية"، بعضها أعاد إلى الأذهان أسوأ الصور النمطية؛ حيث وصف بعض المشاركين في إحدى التظاهرات في برلين اليهود بأنهم "حثالة"، حسب الموقع الفرنسي الداعم لإبادة غزة.

ضد الاستعمار
وفي إطار هذا المشهد، يقول موقع "أتلانتيكو" إن "معاداة السامية كانت أحد الأعمدة الأساسية للنازية، ومن الطبيعي أن يُتوقع من حزب يعرف نفسه بأنه مناهض للفاشية أن يتخذ موقفا واضحا داعما لليهود".
ومع ذلك، يزعم الموقع وجود تحالف سام بين "المناهضة النضالية للفاشية" و"معاداة السامية" في حزب "دي لينكه" اليساري، وتعود أسباب هذا التناقض إلى عوامل عديدة معروفة.
فمنذ سنوات، يروج الحزب لرؤية ثنائية مبسطة للعالم، يُحمل فيها بعض الفئات مسؤولية كل الشرور -مثل "الأغنياء"، مستخدما خطابا يذكر بشكل خطير بـ "الكاريكاتيرات النازية لليهودي الرأسمالي".
ويُضاف إلى ذلك -وفق الموقع اليميني المتطرف- رفض عميق لما يُسمى بـ "الغرب" والدعوة المستمرة إلى "تفكيك الاستعمار".
ووفقا لهذا المنظور، وكما يوضح الموقع، تقدَّم إسرائيل كرمز للاستعمار، وكـ "دولة فصل عنصري".
وفي ظل هيمنة الخطاب الهوياتي داخل أوساط اليسار، يشير الموقع إلى أن "اليهود مصنفون ضمن (البيض المتميزين)، بينما يُصور الفلسطينيون كضحايا مطلقين، وبالتالي لا يمكن المساس بهم أو نقدهم".
ومن ناحية أخرى، يبرز التقرير أن لمعاداة السامية في حزب "دي لينكه" جذورا عميقة.
فالحزب هو الوريث السياسي لحزب الوحدة الاشتراكي الألماني، الحزب الحاكم في ألمانيا الشرقية، وقد تبنى منذ تأسيسه في التسعينيات النزعة المعادية للصهيونية على الطريقة الستالينية.
ويُقال -بحسب الموقع- إن أحد قادة الحزب في تلك المرحلة، حين كان يُعرف بـ "حزب الاشتراكية الديمقراطية"، صرح بأن “إسرائيل هي أسوأ ما أنتجه التاريخ اليهودي”، مكررا المقولة الشهيرة: "الصهيونية = العنصرية".
وفي هذا السياق، يضيف الموقع أن المؤرخ جيفري هيرف وثق كيف كانت جمهورية ألمانيا الديمقراطية تزود الجماعات الفلسطينية المسلحة بالسلاح وتدربها على القتال.
ولا تزال -في رأي الموقع- بقايا هذا التوجه حاضرة حتى اليوم، حيث يُظهر بعض قيادات "دي لينكه" تساهلا مدهشا تجاه حركة حماس.
وعلاوة على ذلك، في عام 2010، شارك عدد من نواب الحزب في أسطول "مافي مرمرة" الهادف إلى كسر الحصار المفروض على غزة من قبل إسرائيل.
حرية التعبير
وفي مواجهة الانتقادات، يلفت الموقع الفرنسي المتطرف إلى أن بعض قادة حزب "دي لينكه" لجأ إلى “التذرع بحق النقاش، وهو أمر له وجاهته؛ إذ إن الطبقة السياسية الألمانية كثيرا ما سعت إلى تفادي الجدل من خلال تقييد حرية التعبير”.
ففي عام 2024، قوطع مؤتمر مؤيد لفلسطين في برلين من قبل الشرطة، ومُنع بعض الضيوف -من بينهم اليوناني يانيس فاروفاكيس- من دخول البلاد.
وبحسب ما يعتقده الموقع، فإن "مثل هذه الإجراءات تغذي سردية الاضطهاد لدى أقصى اليسار، وتستحق النقاش".
لكنه يرى في الوقت نفسه أنه "لا ضرورة لتبني أطروحات معادية للسامية من أجل الدفاع عن حرية التعبير".
خاصة أن "دي لينكه"، الذي يطالب بحظر حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني، ليس في موقع يؤهله للدفاع عن الحريات الأساسية بمصداقية، وفق التقرير.
والواقع -بحسب الموقع- أن حزب "دي لينكه" أسهم في "تطبيع معاداة السامية أكثر من أقصى اليمين نفسه".
ففي فبراير/ شباط 2024، وخلال مسيرة نازية جديدة في دريسدن إحياء لذكرى القصف الحربي للحلفاء، شارك حزب "NPD" النازي الجديد وهو يرفع لافتة كتب عليها: "دريسدن بالأمس، غزة اليوم. حاكموا الإبادة الجماعية".
وفي هذا الصدد، يقول الموقع: إن "هذا التوافق بين أقصى اليسار وأقصى اليمين فيما يتعلق بإسرائيل بات يثير قلقا بالغا".
وفي المقابل، يبرز الموقع -في نهاية التقرير- أنه "في مواجهة هذا الأمر، قررت عدة شخصيات بارزة في الحزب الانسحاب".
فقد قدم كلاوس ليدرير، السيناتور السابق للثقافة في برلين، والموسيقي أندريه هيرملين، استقالتهما من الحزب.
وصرح هيرملين قائلا: "كراهية اليهود أصبحت جزءا من الحمض النووي للحزب".