في ظل صعود الأنظمة السلطوية.. لماذا يتراجع الأمل بعودة الديمقراطية؟

“نحو 60 دولة شهدت تراجعا في معايير الديمقراطية خلال عام 2024 وحده”
في ظل صعود العديد من الأنظمة السلطوية، استعرضت مسؤولة أميركية سابقة مستقبل الديمقراطية في العالم، وترى أن "الأمل في مستقبل أكثر حرية خفّت، لكن لم ينته تماما".
جاء ذلك في مقال نشرته مجلة "فورين أفيرز" الأميركية لـ"جين هارمان" التي كانت نائبة في الكونغرس عن ولاية كاليفورنيا لتسع دورات، وتشغل في الوقت الراهن منصب الرئيسة الفخرية لـ"مركز ويلسون".
الصحوة المقبلة
وقالت هارمان: "قبل ستة أشهر من وفاتها، في أكتوبر/تشرين الأول 2021، نشرت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت مقالا بارزا في مجلة (فورين أفيرز) بعنوان (الصحوة المقبلة للديمقراطية)".
وأضافت: "في ظل تصاعد التشاؤم بشأن مستقبل الديمقراطية، قدمت صديقتي أولبرايت، منظورا متفائلا، فقد رأت أن الاستبداد هشّ ويضر نفسه بنفسه، بينما يظل الشغف بالحرية والمساءلة موجود على نطاق عالمي.. وكتبت: "الديمقراطية ليست قضية تحتضر، إنها على أعتاب العودة".
وكما رأت أولبرايت “كانت الأنظمة الاستبدادية تتعثر، والنماذج البديلة، خاصة تلك التي قدمتها الصين وروسيا، تفقد مصداقيتها”.
وكتبت أن الحكام الاستبداديين “يفشلون في تلبية احتياجات شعوبهم، وأن الاستياء الشعبي سيؤدي في نهاية المطاف إلى تآكل أسس الأنظمة الاستبدادية ويفسح المجال لانتعاش الديمقراطية”.
وأوضحت أنه "مع احتفاظ الديمقراطية بجاذبيتها، وتزايد انخراط الشباب في السياسة وتواصلهم مع العالم، وقوة المؤسسات الديمقراطية ومنظمات المجتمع المدني وانتشارها، سيميل الميزان العالمي نحو الحرية، خاصة إذا عززت الولايات المتحدة دعمها للحركات المؤيدة للديمقراطية".
وفي مقالها، استدركت هارمان على صديقتها الراحلة، قائلة: "بعد مرور ما يقرب من أربع سنوات، لم تتحقق الصحوة؛ فبدلا من أن تزدهر الديمقراطية، تعثرت، وتتراجع باستمرار في أماكن كثيرة".
ووفقا لمنظمة "فريدوم هاوس"، شهدت ما يقرب من 60 دولة تراجعا في معايير الديمقراطية خلال عام 2024 وحده.
وقالت هارمان: "واجهت حركات الاحتجاج من تبليسي (عاصمة جورجيا) إلى تونس حملات قمع، وعزز القادة المستبدون، القدامى والجدد، سلطتهم بوقاحة أكبر، غالبا تحت غطاء القانون".
ففي إيران، تسببت عقود من الأزمات الاقتصادية والقمع والرقابة الأخلاقية في اندلاع احتجاجات واسعة عام 2022 بعد وفاة مهسا أميني، وهي شابة اعتُقلت لانتهاكها قواعد الحجاب.
وأشعلت وفاتها انتفاضة وطنية قادتها النساء والطلاب الذين نددوا علنا بالنظام ومرشده الأعلى، ولِوَهْلة بدا أن توقع أولبرايت يتحقق.
لكن ذلك الأمل تبين أنه مضلّل -وفق هارمان- فالحكومة الإيرانية سحقت الاحتجاجات عبر قطع الإنترنت، والاعتقالات الجماعية، والإعدامات العلنية.
واليوم، مع بلوغ المرشد الأعلى علي خامنئي أواخر الثمانينيات من عمره، يبدو أن الشخصيات المتشددة من الأجهزة الأمنية -وليس الإصلاحيين- هي من سترث نظامه على الأرجح.
كذلك، بدت كوبا، في وقت ما قريبة من نقطة التحول، ففي يوليو/تموز 2021، شهدت الجزيرة أكبر احتجاجات منذ عقود، حيث طالب الآلاف ليس فقط بالغذاء والدواء، بل بالحرية نفسها.
وقد قُمعت تلك الاحتجاجات بسرعة، واستعادت الحكومة السيطرة عبر الاعتقالات والترهيب والمراقبة الرقمية؛ وما زال العديد من الناشطين في المنفى أو السجن.
وفي تونس، الدولة التي عُدّت يوما ما قصة النجاح الوحيدة للربيع العربي، فكك الرئيس قيس سعيد عقدا من المكاسب الديمقراطية؛ فحل البرلمان، وأعاد صياغة الدستور، وسجن منتقديه.
وفي دول مثل مصر وإيران وميانمار، قوبلت حركات الاحتجاج التي يقودها الشباب بالمراقبة الرقمية والمضايقات الإلكترونية والاعتقالات الجماعية المصممة لترهيب المعارضين أو عزلهم أو نفيهم.
وبحسب هارمان، تُظهر هذه التجارب أن "هشاشة الأنظمة الاستبدادية لا تعني بالضرورة فتحا ديمقراطيا، فالأنظمة التي تفشل في خدمة مواطنيها يمكنها التكيف، مستعينة ببثّ الخوف، واستغلال التكنولوجيا والقوة لتجاوز حركات الاحتجاج الشعبي".

روسيا والصين
وفي عام 2021 أشارت أولبرايت أيضا إلى أن الدولتين الاستبداديتين الرائدتين في العالم، الصين وروسيا، قد فشلتا في تقديم نموذج مُقنع تحتذي به الدول الأخرى.
وترى هارمان أن "هذا التقييم لا يزال صامدا نوعا ما، فالغزو الروسي الكامل لأوكرانيا قضى على أي أوهام متبقية بشأن حكم القادة الأقوياء الخيّرين".
أما الصين، فقد واجهت صعوبة في تقديم بديل مُقنع، إذ تباطأت بشكل حاد معجزتها الاقتصادية التي كانت تُفاخر بها يوما.
وفي معظم أنحاء العالم النامي، "يُنظر إلى بكين الآن على أنها كمُستغل دائن يُوظّف الديون والبنية التحتية والتكنولوجيا لترسيخ التبعية".
وقد أدى ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب في الصين وتشديد الضوابط السياسية إلى تقويض صورتها كدولة استبدادية تكنوقراطية فعّالة.
في غضون ذلك، تُظهر استطلاعات الرأي من إفريقيا وأميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا أن الجماهير في المناطق الأكثر تعرضا للنفوذ الصيني لا تزال تُعبّر بوضوح عن تفضيلها للحكم الديمقراطي على الحكم الاستبدادي.
"ورغم ذلك، تخلّت الولايات المتحدة طواعية عن دورها؛ حيث قلصت إدارة دونالد ترامب الثانية الدعم الأميركي للديمقراطية في الخارج، وتخلّت عن المعايير والمؤسسات التي تعزز الديمقراطية في الداخل".
وقالت هارمان: إن "تفكيك الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID)، ووقف تمويل إذاعة آسيا الحرة وإذاعة أوروبا الحرة، وخفض أكثر من 54 مليار دولار من المساعدات الخارجية، وإنهاء أكثر من 5800 برنامج متعلق بالديمقراطية، قد أرسل إشارة واضحة على أن أولويات واشنطن قد تغيرت".
وقد يكون هذا التحول في الولايات المتحدة الأكثر أهمية بين كل التطورات، فقد حذرت أولبرايت من أنه إذا تخلّت البلاد عن التزامها بالقيم الديمقراطية، فإن ذلك سيعزز شوكة المستبدين، ويكون بمثابة خيانة لحلفائها، ويقلّص مكانتها العالمية.

صحوة مؤجلَّة
وقالت هارمان: إن “الرؤية التي طرحتها أولبرايت عام 2021 كانت مليئة بالأمل لكنها لم تكن ساذجة”.
واستطردت: "فقد كانت تدرك أن الديمقراطية لن تعود من تلقاء نفسها، ما كانت تؤمن به، وما دعت الآخرين للإيمان به، هو أن الرغبة في الكرامة والحرية والمساءلة لا تزال لها صدى عالمي".
وبحسب هارمان، فإن "هذا لا يزال صحيحا، ما تراجع هو البنية التحتية، والتضامن، والقيادة اللازمة لتحويل هذه الرغبة إلى مكاسب سياسية مستدامة".
وأكدت أن "الضعف المتأصل في الاستبداد لا يزال قائما فشرعية الحكومات الاستبدادية هشة؛ إذ إنها قائمة على الإكراه لا على القبول الطوعي".
"في المقابل، تتجلّى القيم الديمقراطية، القائمة على الكرامة الإنسانية والمساواة والتمكين، في الاحتجاجات في الشوارع، والفصول الدراسية السرية، وغرف الدردشة المشفّرة"، وفق وصفها.
وتابعت: "في المنافسة طويلة المدى مع الصين، تكمن أعظم ميزة للولايات المتحدة في جاذبية قيمها ومبادئها، التي تساعدها على بناء تحالفات دولية، وجذب المواهب والاستثمارات، ومنح الحكومة الأميركية شرعية لا يمكن للضغط القسري شراؤها".
وعلى هذا، أوضحت أن "الحركات الديمقراطية تحتاج إلى دعم أكبر لتحويل تطلعاتها إلى واقع، ولكن ما دامت هذه القيم باقية، فإن أمل أولبرايت في صحوة الديمقراطية يظل حيا".














