العودة إلى حافة الهاوية.. كيف أشعل ترامب شرارة سباق نووي عالمي جديد؟

ترامب: وجهت وزارة الحرب إلى البدء باختبار أسلحتنا النووية على أساس المساواة
لم يعد الحديث عن الحرب النووية مجرد ذكرى من حقبة الحرب الباردة (1947 - 1991)، بل عاد ليطلّ برأسه من جديد، بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن بلاده ستستأنف قريبا اختبار الأسلحة النووية بانتظام، في خطوة وُصِفت بأنها الأخطر منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، والأكثر رمزية في إحياء سباق التسلح العالمي.
القرار الذي صدر في 30 أكتوبر/ تشرين الأول 2025 عبر منشور رسمي على منصة "تروث سوشيال" التابعة لترامب، حمل نبرة تحدٍّ واضحة؛ إذ كتب: "بسبب برامج الاختبار التي تنفذها دول أخرى، وجّهتُ وزارة الحرب إلى البدء باختبار أسلحتنا النووية على أساس المساواة".
بهذا الإعلان، تكون الولايات المتحدة قد عادت رسمياً إلى عصر التجارب النووية بعد أكثر من 33 عاما من التوقف، منذ آخر تفجير نووي أُجري عام 1992.
ويبرر ترامب قراره بالإشارة إلى أن الصين توسّع ترسانتها النووية بسرعة مقلقة، وأن واشنطن لا يمكنها أن تبقى مكتوفة الأيدي بينما يتسع الفارق الإستراتيجي مع منافسيها. وقال في منشوره: "نمتلك أكثر الأسلحة النووية تطورًا في العالم، لكن الصين ستكون في مستوانا خلال خمس سنوات فقط".
وبعد دقائق من نشر بيانه، التقى ترامب الرئيس الصيني شي جين بينغ في كوريا الجنوبية، على هامش قمة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ (APEC)، في مشهد رمزي جمع بين الخطاب النووي والواقعية الاقتصادية.
ويُعدّ هذا التطور نقلة نوعية في العقيدة النووية الأميركية؛ إذ أعادت إدارة ترامب تسمية وزارة الدفاع إلى وزارة الحرب، في إشارة إلى تبنّي رؤية أكثر هجومية تجاه مفهوم الأمن القومي، وإلى العودة لفلسفة الردع عبر التفوّق لا عبر ضبط النفس.
الصين وروسيا
وبحسب تقديرات اتحاد العلماء الأميركيين (FAS)، ارتفع عدد الرؤوس النووية الصينية من 350 رأسًا في عام 2022 إلى 410 رؤوس في عام 2023، وفقًا لبيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI).
ورغم أن هذه الأرقام لا تقترب من حجم الترسانة الأميركية التي تضم نحو 3700 رأس نووي، فإنها تعكس تحولًا إستراتيجيًا في مقاربة بكين، التي تسعى إلى تقليص فجوة الردع مع واشنطن.
أما روسيا، فهي الأخرى تعيد خلط أوراق التوازن العالمي؛ ففي 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2025، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نجاح بلاده في اختبار صاروخ كروز جديد يعمل بالطاقة النووية من طراز بوريفيستنيك، تبعته تجربة أخرى للطائرة المسيرة النووية بوسيدون القادرة على حمل رؤوس نووية تحت الماء بسرعات خارقة.
وقال بوتين: إنه "لا شيء في العالم يشبه هذا السلاح"، في رسالة سياسية أكثر منها عسكرية، هدفها التأكيد أن موسكو لا تزال قادرة على مفاجأة خصومها رغم العقوبات والحصار الغربي.
وفي اليوم التالي، علّق ترامب على تصريحات بوتين من على متن طائرة "إير فورس ون"، قائلًا: "على بوتين أن يركّز على إنهاء الحرب في أوكرانيا بدلًا من اختبار الصواريخ".
لكن الواقع يشير إلى أن كليهما يستدعي لغة الحرب النووية القديمة في لحظةٍ يتراجع فيها دور الدبلوماسية إلى أدنى مستوياته منذ نهاية القرن العشرين.
وتحظر معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية (CTBT) جميع التفجيرات النووية العسكرية والمدنية في العالم، غير أن الولايات المتحدة لم تُصدّق على المعاهدة رغم توقيعها عليها عام 1996، وهو ما يجعلها غير مُلزمة قانونيًا بالامتثال لبنودها.
في المقابل، كانت روسيا قد صدّقت على المعاهدة عام 2000، لكنها سحبت تصديقها في عام 2023، لتصبح القوى العظمى الثلاث — أميركا وروسيا والصين — جميعها خارج الالتزام الكامل بالمعايير الدولية التي حكمت النظام النووي خلال العقود الماضية.
ويرى مراقبون أن هذه الخطوة الأميركية الأخيرة ستفتح الباب أمام دول أخرى لاتباع النهج نفسه، خصوصًا كوريا الشمالية التي أجرت خمس تجارب نووية بين عامي 2006 و2017، والهند وباكستان اللتين رفضتا أصلًا التوقيع على المعاهدة منذ عام 1998.

اختبارات نووية
توقفت معظم الدول عن اختبار الأسلحة النووية بعد توقيع معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية (CTBT) عام 1996، التي جاءت نتيجة مخاوف متزايدة بشأن تأثير التلوث النووي على صحة الإنسان والبيئة، سواء في الجو أو تحت الأرض أو في البحر.
وقد أجرت الولايات المتحدة أول اختبار نووي عام 1945، ونفذت في المجمل 1032 اختبارًا، بحسب بيانات الأمم المتحدة.
أما الاتحاد السوفييتي فقد أجرى 715 اختبارًا، كان آخرها عام 1990، ومنذ انهياره لم تُجرِ روسيا أي اختبار نووي جديد.
بينما أجرت الصين آخر اختبار نووي لها عام 1996، في حين نفّذت فرنسا آخر تجاربها في العام نفسه بعد أن أجرت 210 تجارب منذ عام 1945.
وتأتي المملكة المتحدة بعد ذلك، إذ أجرت 45 اختبارًا بين عامي 1952 و1991. ومنذ دخول معاهدة الحظر الشامل حيز التنفيذ، لم تُجرَ سوى عشر تجارب نووية في عام 1998، كانت من نصيب الهند وباكستان، بواقع تجربتين نوويتين لكل منهما، علماً أن البلدين لم يوقعا على المعاهدة.
وتحظر معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية (CTBT) جميع الانفجارات النووية، سواء لأغراض عسكرية أو مدنية، في أي مكان على وجه الأرض.
لكن الولايات المتحدة غير مُلزمة قانونيًا بالمعاهدة لأنها وقّعت عليها دون أن تُصدّقها. فالتوقيع يعبّر عن نية الالتزام، بينما التصديق يعني الموافقة الرسمية للدولة بعد استكمال الإجراءات القانونية الداخلية، ما يجعل المعاهدة ملزمة قانونيًا بموجب القانون الدولي.
وفي خضم هذه التطورات، تبدو الصورة قاتمة لمنظومة الحد من التسلّح الدولي؛ إذ انهارت واحدة تلو الأخرى أبرز الاتفاقيات التي شكّلت عمود السلام النووي منذ الحرب الباردة.
من بين تلك الاتفاقيات معاهدة الصواريخ المضادة للباليستية (ABM) التي انسحبت منها واشنطن عام 2002، وكذلك اتفاقية الحد من الأسلحة الإستراتيجية (SALT II) التي لم تُصدّق عليها الولايات المتحدة ثم انسحبت منها نهائيًا عام 1980.
وتأتي أيضًا معاهدة القوات النووية المتوسطة المدى (INF) التي انسحبت منها واشنطن عام 2019 متهمة موسكو بانتهاكها.
وبعد قرار روسيا عام 2023 بالتراجع عن التزاماتها بمعاهدة الحظر الشامل، أصبحت الكرة فعليًا في ملعب واشنطن.
واليوم، يبدو أن قرار ترامب باستئناف التجارب النووية يعني أن الولايات المتحدة تخلّت عمليًا عن فكرة ضبط النفس النووي، لصالح العودة إلى منطق الردع عبر التفوق، وهو ما قد يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من سباق نووي غير مسبوق منذ ستينيات القرن الماضي.

الموجة الثانية
تساءل خبراء في اتحاد العلماء الأميركيين (FAS)، في سلسلة مقالات بعنوان "العصر النووي القادم" نشرتها صحيفة واشنطن بوست في 25 يونيو/حزيران 2025، عما إذا كان العالم يقف على أعتاب موجة ثانية من الانتشار النووي، في ظل انهيار الثقة بالضمانات الأمنية الأميركية وتآكل النظام الدولي الذي حكم مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ويحذر الباحث جون ولفستال، مدير فريق المخاطر العالمية في الاتحاد، من أن "التاريخ لا يعيد نفسه تمامًا، لكنه غالبًا ما يتنفس من جديد"، مشيرًا إلى أن العقود المقبلة قد تشهد تضاعف عدد الدول المالكة للسلاح النووي ما لم تظهر إرادة دولية حقيقية لإحياء منظومة الضبط النووي.
وتتفق مع هذا الطرح تحليلات أندرياس أوملاند، المحلل السياسي الألماني في مركز ستوكهولم لدراسات أوروبا الشرقية، الذي يرى أن السلوك الروسي يمثل العامل الأكثر تأثيرًا في تآكل نظام ما بعد الحرب.
ويضيف أوملاند: "منذ عقد تقريبًا، يتآكل النظام الدولي الذي تأسس عام 1945، بعدما قررت القوى الكبرى التعامل مع القانون الدولي كخيار، لا كإلزام".
ومنذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية، لم تُخفِ بكين نيتها إعادة جزيرة تايوان إلى سيادتها، وهو طموح يرى بعض المحللين أنه بات أقرب من أي وقت مضى مع تصاعد الثقة العسكرية الصينية وتنامي القدرات الإستراتيجية لبكين.
أما في واشنطن، فقد أثار الرئيس دونالد ترامب في تصريحات سابقة عام 2025 موجة من الجدل حين أعلن نيّته ضم كندا وغرينلاند إلى الولايات المتحدة، وهو ما فسره مراقبون بأنه استعراض سياسي يهدف إلى إظهار الرغبة في إعادة رسم الحدود الجيوسياسية الأميركية وإحياء روح "الاستثنائية" التي ميزت السياسة الأميركية في منتصف القرن الماضي.
وفي المقابل، تواصل روسيا حربها في أوكرانيا بوصفها "تصحيحًا للتاريخ السوفيتي"، في خطاب يكرّس النزعة التوسعية ويعيد تعريف مفاهيم السيادة والشرعية الدولية على نحو يهدد التوازن العالمي.
بهذا المعنى، فإن الطموحات التوسعية لأقوى ثلاث دول في العالم — الصين وروسيا والولايات المتحدة — لا تقتصر على التوسع الجغرافي فحسب، بل تمتد إلى إعادة تشكيل بنية الردع النووي العالمي بما يتناسب مع مصالحها الخاصة، وهو ما يقوّض فعليًا أسس النظام الدولي القائم منذ نحو ثمانية عقود.

برنامج سري
تضم معاهدة حظر الانتشار النووي (NPT) اليوم 191 دولة، من بينها إيران التي تواجه اتهامات متكررة بالسعي إلى تطوير برنامج نووي عسكري سري، رغم تأكيداتها المتكررة على الطابع السلمي لنشاطها.
غير أن خبراء يحذرون من أن العقدين المقبلين قد يشهدان تضاعف عدد الدول النووية، إذا استمرت حالة الاضطراب الجيوسياسي وانهيار منظومة الردع التقليدية.
ويشير باحثون في معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) إلى أن "العدد الإجمالي للرؤوس النووية في العالم يتراجع فعلاً، بسبب تفكيك القديم منها، لكن الرؤوس الجديدة تُنتَج وتُضاف إلى الترسانات بوتيرة أسرع".
وهو ما يعني أن مستوى الخطر الفعلي في تصاعد مستمر، حتى وإن بدا الرقم الإجمالي في انخفاض.
ويرى مراقبون أن الردع النووي لم يعد ضمانة للاستقرار كما كان في القرن الماضي، بل أصبح عنصراً إضافياً في معادلة الفوضى الإستراتيجية، خصوصاً مع دخول الذكاء الاصطناعي وأنظمة الطائرات غير المأهولة في الحسابات النووية الحديثة، ما يزيد من احتمالات الخطأ وسوء التقدير.
ومنذ نهاية الحرب الباردة، افترض العالم أن “الردع وحده كافٍ لمنع الكارثة”، لكن قرارات مثل تلك التي اتخذها ترامب باستئناف التجارب النووية تُظهر أن الافتراضات القديمة تنهار واحدة تلو الأخرى.
ومع غياب القنوات الدبلوماسية الفاعلة، وتآكل المؤسسات الدولية، وتعدد النزاعات في أوكرانيا وتايوان والشرق الأوسط، يبدو أن العالم يسير بخطى ثابتة نحو عصر جديد من سباق التسلح النووي.
ولم يعد الخطر الأكبر يتمثل في تفجير نووي محتمل، بل في تحوّل السلاح النووي إلى أداة تفاوض سياسية علنية في أيدي زعماء يرون فيه الضمانة الأخيرة لمكانتهم الدولية وسط نظام عالمي يتفكك ببطء.
















