الدولة العميقة وسفارة واشنطن.. من يرسم ملامح السلطة في بغداد بعد الانتخابات؟

يوسف العلي | منذ ٣ ساعات

12

طباعة

مشاركة

تواجه القوى السياسية الشيعية في العراق، لا سيما القريبة من إيران، تحدياً كبيراً يتعلق بمشاركة المليشيات المسلحة في الحكومة المقبلة، لا سيما أن هذه الجماعات شاركت جميعها في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وصرّح بعض قادتها بأن البلاد تقع تحت وصايتهم.

وفي 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، شهد العراق سادس انتخابات برلمانية منذ عام 2003، وذلك في ظل تحولات واسعة شهدتها منطقة الشرق الأوسط، لا سيما تراجع نفوذ المحور الإيراني، عقب أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، والحرب التي استمرت 12 يوماً بين إسرائيل وإيران.

"فيتو أميركي"

قبل الانتخابات العراقية، لم تُخفِ واشنطن رغبتها في إبعاد المليشيات عن المشهدين السياسي والأمني في العراق، بتقدير أن حضورها يعزز النفوذ الإيراني في البلاد. واتخذت الإدارة الأميركية إجراءات عقابية ضد بعض هذه الفصائل، في خطوة رأى فيها مسؤولون عراقيون أنها تهدف إلى منع مشاركتها في الحكومة المقبلة.

وفي 8 نوفمبر، قال وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين، خلال مقابلة تلفزيونية، إن ستة فصائل عراقية مصنفة "إرهابية" من قبل الولايات المتحدة لن تكون ممثلة في الحكومة المقبلة. وأوضح أن القرار جاء من الجانب الأميركي بتحديد هذه الفصائل ضمن قائمة "الممنوعين"، مبيناً أنه من أجل الحفاظ على علاقات دبلوماسية مستقرة للعراق مع المجتمع الدولي، ينبغي أخذ هذا القرار في الحسبان لضمان سهولة التعامل مع مختلف الدول.

وبالنهج ذاته، أكد المكلف السابق بتشكيل الحكومة العراقية، والنائب الحالي عدنان الزرفي، خلال مقابلة تلفزيونية في 6 نوفمبر، أنه "لن تكون الفصائل المسلحة جزءاً من الحكومة العراقية المقبلة"، مشدداً على أن "أي طرف سياسي يصرّ على إشراكها سيتحمل المسؤولية السياسية والأمنية الناتجة عن ذلك".

ويأتي هذا الموقف بالتزامن مع تصريح للمبعوث الأميركي الخاص إلى العراق، مارك سافايا، الذي جدد التزام واشنطن بدعم العراق في مساره نحو بناء دولة قوية ومستقلة خالية من المليشيات المدعومة من الخارج.

ونشر سافايا تدوينة على منصة "إكس" في 7 نوفمبر قال فيها: "يبدو مستقبل العراق مشرقاً بفضل شعبه الموهوب والحيوي، وهو أثمن مورد تملكه أي أمة". وأضاف: "لقد حقق العراق خلال السنوات الماضية تقدماً مهماً، ومع اقتراب البلاد من مرحلة مفصلية في مسيرتها الديمقراطية، يجب الحفاظ على هذا الزخم. تؤكد الولايات المتحدة وقوفها إلى جانب العراق وهو يمضي نحو مستقبل قوي ومستقل وخالٍ من المليشيات المدعومة من الخارج".

في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2025، قالت وزارة الخارجية الأميركية، على لسان المتحدث باسمها تومي بيجوت، إن الولايات المتحدة تستهدف "كتائب حزب الله" و"عصائب أهل الحق" بسبب "عملهما على تقويض سيادة العراق"، وذلك بعد نحو عشرين يوماً من عقوبات نالت فصائل أخرى.

وكتب بيجوت على منصة "إكس" قائلاً: "إن الولايات المتحدة تسعى إلى ممارسة أقصى درجات الضغط على إيران. ونستهدف فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، الذي يقدّم الدعم لشركاء إيران الإقليميين ووكلائها، إضافة إلى جماعتين متمركزتين في العراق، هما كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق".

وأضاف بيجوت أن "هذه المليشيات تعمل بشكل فعّال على تقويض سيادة العراق، وإضعاف اقتصاده، وشن هجمات على أفراد ومصالح أميركية في مختلف مناطق الشرق الأوسط".

وفي 17 سبتمبر، صنّفت وزارة الخارجية الأميركية أربع مليشيات عراقية موالية لإيران على لائحة المنظمات الإرهابية الأجنبية، وهي: حركة "النجباء"، وحركة "أنصار الله الأوفياء"، وكتائب "الإمام علي"، وكتائب "سيد الشهداء"، وذلك بتهمة تنفيذ هجمات استهدفت سفارة الولايات المتحدة في بغداد، إضافة إلى قواعد عسكرية تستضيف قوات أميركية داخل العراق.

"حكومة المليشيات"

منذ انسحاب التيار الصدري من العملية السياسية، رغم فوزه في الانتخابات البرلمانية عام 2021، تولّت القوى والمليشيات الموالية لإيران، المنضوية ضمن الإطار التنسيقي الشيعي، مهمة تشكيل الحكومة برئاسة محمد شياع السوداني، وإدارة السلطة في البلاد.

وضمّت الحكومة التي تشكّلت في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2022 عدداً من الوزراء المرتبطين بمليشيات موالية لإيران، من بينهم: وزير التعليم نعيم العبودي، رئيس الهيئة السياسية لـ"عصائب أهل الحق"، ووزير العمل أحمد الأسدي، زعيم "جند الإمام"، ووزيرة الهجرة إيفاق فائق، المنتمية لمليشيا "بابليون".

كما تضم حكومة السوداني وزير النقل رزاق محيبس ومستشار الأمن الوطني، وكلاهما من قيادات منظمة "بدر"، إلى جانب وزيرة الاتصالات هيام الأسدي التابعة لكتلة "العقد الوطني" بزعامة رئيس "الحشد الشعبي" فالح الفياض، إضافة إلى عدد من المديرين العامين والمستشارين والسفراء المرتبطين بأحزاب تمتلك أجنحة مسلحة.

وفي 6 نوفمبر، دعا زعيم "كتائب حزب الله" في العراق أبو حسين الحميداوي، في بيان له، إلى تثبيت دور الحشد الشعبي في إدارة الدولة، مؤكداً أن "الحكومة التي تشكّلت منذ عام 2022 إلى اليوم كانت حكومة الإطار التنسيقي، وبكامل إرادته وإدارته، حيث فُتحت لها الميزانيات والدعم المعنوي على مصراعيه، لتنتج ما نراه اليوم".

وأضاف الحميداوي: "الواقع أن الشيعة لم يحكموا سوى ثلاث سنوات قد تزيد سنة ونصفاً متقطّعة، وإن نجاح الحكومة الحالية يُحسب، بلا أدنى شك، للإطار التنسيقي والمقاومة والحشد الشعبي، فلولا دعمهم اللامحدود، لما جلس رئيس الوزراء وحكومته على طاولة الحكم والإدارة".

ودعا الحميداوي "رفاق الدرب والسلاح" والحشد الشعبي إلى مشاركة واسعة في الانتخابات "الاستثنائية" المقبلة، مؤكداً أن الحكومة القادمة، "من ألفها إلى يائها"، ستتشكل على طاولة الإطار التنسيقي وبدعم من "المقاومة" والحشد الشعبي.

وفي اليوم نفسه، قال المتحدث باسم "الكتائب" جعفر الحسيني، خلال مؤتمر انتخابي لقائمة "حقوق" التابعة لهم، إن "سلاحنا الشيعي سيبقى بأيدينا، وهو سلاح شرعي ومنضبط"، مضيفاً: "للشيعة الوصاية الكاملة على العراق، شاء من شاء وأبى من أبى".

وعلى الصعيد ذاته، أكد زعيم مليشيا "عصائب أهل الحق" قيس الخزعلي أهمية مشاركة ما سماه بـ"التيار المقاوم" في العملية السياسية، مشيراً إلى أن العمل المقاوم والممارسة السياسية لا يتعارضان، بل يسعيان معاً ـ بحسب وصفه ـ إلى تحقيق سيادة الدولة والتخلص من الوجود الأجنبي غير القانوني.

وأضاف الخزعلي، خلال مقابلة تلفزيونية في 7 نوفمبر، قائلاً: "لم يكن أحد قد أقنعني بالدخول إلى السياسة، بل كنت أنا من أقنع بعض المترددين والمتخوفين بالانخراط فيها".

ولفت إلى أن "محاولات التدخل الأميركي في العراق تمثل انتهاكاً لسيادة الدولة وتدخلاً في شؤونها الداخلية"، موضحاً أن وجود مبعوث خاص للرئيس الأميركي في العراق أمر قابل للنقاش، أما عدم تعيين سفير لواشنطن في بغداد، فيعكس استمرار الغموض في الدور الرسمي الأميركي داخل البلاد.

"الدولة العميقة"

وبشأن مدى إمكانية إبعاد المليشيات عن تشكيلة الحكومة العراقية المقبلة، قال الصحفي والباحث في الشأن العراقي مهند الأعظمي إن "هذه الجهات المسلحة لا ترغب أساساً في الواجهة التي تمثلها الحكومة، لأنها بوصفها الدولة العميقة التي تتحكم بمفاصل الدولة، تمتلك نفوذاً يفوق نفوذ الحكومة ذاتها".

وأوضح الأعظمي لـ"الاستقلال" أن "الانتخابات البرلمانية، لا سيما التصويت الخاص للقوى الأمنية ومنها الحشد الشعبي، شهدت حضور تلك الفصائل بمسمياتها المباشرة، وأدلوا بأصواتهم، وهذا يُعد التفافاً واضحاً على القرار الأميركي".

وتوقع الباحث أن الولايات المتحدة لن تسمح هذه المرة بوجود شخصيات مليشياوية بعناوين واضحة في مواقع حساسة مثل منصب وزير أو رئيس وزراء، كما هو الحال في الحكومة الحالية، مشيراً إلى أنها ستفرض ذلك عبر ضغط مباشر وتهديد صريح، كما فعلت قبل أشهر حين منعت تمرير قانون يتعلق بالحشد الشعبي داخل البرلمان.

وأيد الأعظمي ما نشرته إحدى الصحف الإيرانية في الأول من نوفمبر، من أن الرئاسات الثلاث في العراق (الجمهورية والبرلمان والحكومة)، إضافة إلى وزارتي الداخلية والدفاع ووزارة النفط، ستُحدد أسماء شاغليها عبر مبعوث الرئيس الأميركي مارك سافايا.

وفي اليوم نفسه، نقلت صحيفة "جمهوري إسلامي" الإيرانية عن مصادر وصفتها بأنها مطلعة (من دون تسميتها)، أن مبعوث الرئيس الأميركي دونالد ترامب أجرى لقاءات غير معلنة مع عدد من كبار المسؤولين السياسيين في العراق، تناولت ـ وفق الصحيفة ـ تأثير واشنطن في تشكيل الحكومة العراقية المقبلة.

وبحسب ما أوردته الصحيفة، فإن سافايا أبلغ المسؤولين العراقيين أن الإدارة الأميركية تعتزم لعب دور مباشر في اختيار الشخصيات التي ستتولى المناصب العليا في الدولة، وتشمل الرئاسات الثلاث ووزراء الداخلية والدفاع والمالية والنفط، إضافة إلى منصب محافظ البنك المركزي.

وأوضحت الصحيفة أن الرسالة الأميركية تؤكد أن استقرار العراق السياسي والأمني والاقتصادي ينبغي أن يتم عبر شخصية حكومية "تتوافق مع الرؤية الأميركية"، مشيرة إلى أن "واشنطن ترى أن المناصب السيادية الحساسة، خاصة ما يتعلق بالأمن والطاقة والاقتصاد، يجب ألا تكون خارج دائرة نفوذها في ظل تنامي الدور الإيراني داخل العراق".

وفي المقابل، نقلت وكالة "بغداد اليوم" العراقية في 8 نوفمبر عن مصادر مقربة من المليشيات (لم تسمها) أن الحديث عن فيتو أميركي ضد مشاركتها في الحكومة المقبلة "سابق لأوانه"، وأن موضوع المشاركة "خاضع حصراً للتوافقات الداخلية بعد إعلان النتائج".

وأفادت المصادر بأن "عدداً من المرشحين القريبين من فصائل مسلحة يشاركون ضمن قوائم متعددة استعداداً للانتخابات، وأن الحديث عن منع الفصائل من المشاركة في تشكيل الحكومة لا يعنيهم، لأنه شأن داخلي لا يمكن لطرف خارجي فرض قيود عليه".

ووصفت تلك المصادر ما يُتداول في وسائل إعلام غربية بأنه "رسائل ضغط مصدرها البيت الأبيض أو الجهات المرتبطة به إعلامياً"، لافتة إلى أن "التحالفات والنتائج الانتخابية وحدها ستحدد ملامح المشهد السياسي بعد الانتخابات، وليس المواقف الخارجية أو الإملاءات الدولية".

ومنذ مطلع سبتمبر 2025، قدمت جهات سياسية عراقية شكاوى إلى المفوضية العليا للانتخابات وإلى المحكمة الاتحادية، تطالب باستبعاد القوى السياسية التي تمتلك أذرعاً مسلحة من العملية الانتخابية، استناداً إلى أن الدستور العراقي يحظر تشكيل الميليشيات.

وتُعد هذه الشكاوى سابقة هي الأولى منذ عام 2003، كونها شملت فصائل بارزة، منها: منظمة بدر، وعصائب أهل الحق، وكتائب الإمام علي، وكتائب سيد الشهداء، والتي تمتلك تحالفات انتخابية وتمثل جزءاً من الحكومة الحالية.

وصرّح عباس الفتلاوي، رئيس "تجمع الاستقلال العراقي" وصاحب الشكوى المقدمة ضد الفصائل، خلال مقابلة تلفزيونية في 17 أكتوبر، بأن "هذه الحملة القانونية تهدف أساساً إلى حل الأحزاب المسلحة لحماية العملية الديمقراطية، لأن وجودها يمثل مخالفة صريحة للدستور".

وأكد الفتلاوي أنهم قدموا إلى المفوضية ودائرة الأحزاب والمحكمة الاتحادية ملفاً من 62 صفحة مدعوماً بنحو 30 جيجا بايت من المواد المصورة التي تتضمن اعترافات واضحة لأفراد ينتمون للفصائل المسلحة بأنهم جزء من حركات سياسية وكيانات برلمانية.

وأشار إلى أن الشكوى تستند إلى مواد دستورية تنص على أن "القوات المسلحة وأفرادها، بمن فيهم العاملون في وزارة الدفاع أو أي تشكيلات تابعة لها، لا يحق لهم الترشح أو العمل السياسي"، وتحظر كذلك تشكيل مليشيات خارج إطار الدولة.

ولم تصدر المفوضية العليا للانتخابات موقفاً واضحاً بشأن هذه الدعاوى، مكتفية بالقول إن الطعون ستحال إلى الجهات القضائية المختصة ضمن المدد القانونية، من دون اتخاذ إجراءات عملية، فيما التزمت المحكمة الاتحادية الصمت رغم أنها الجهة المخولة بتفسير الدستور.

وبحسب المادة (9) من الدستور العراقي، فإنه يحظر تشكيل أي جموع مسلحة خارج إطار القوات المسلحة العراقية، كما يمنع على أفراد القوات المسلحة المشاركة في العمل السياسي، بما في ذلك الترشح أو ممارسة الدعاية الانتخابية.