الصين وسوريا الجديدة.. بين الحذر الدبلوماسي والرهان الاقتصادي

مصعب المجبل | منذ ساعتين

12

طباعة

مشاركة

منذ سقوط نظام بشار الأسد، تقف الصين أمام مرحلة جديدة في تعاملها مع الدولة السورية الناشئة، وهي مرحلة تتسم بالحذر والترقب أكثر من الانخراط والمبادرة.

فبكين التي اعتادت النظر إلى سوريا من زاوية أمنية بحتة، تجد نفسها اليوم أمام واقع سياسي مختلف يختبر حدود سياستها التقليدية القائمة على مبدأ "عدم التدخل" مقابل حماية مصالحها الإستراتيجية.

وقد وجّهت الصين إشارة واضحة إلى تحفظها تجاه القيادة السورية الجديدة، من خلال موقفها في مجلس الأمن الدولي، حيث تُعد أحد أعضائه الدائمين.

علاقة باردة

عندما رفع مجلس الأمن الدولي العقوبات عن الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع في 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، امتنعت الصين عن التصويت، في خطوة عكست وجود تباينات عميقة بين بكين ودمشق بشأن عدد من القضايا الحساسة.

وقال مندوب الصين لدى الأمم المتحدة، فو تسونغ، إن بلاده امتنعت عن التصويت لأن القرار "لم يعالج بالشكل المناسب مخاوف الصين المتعلقة بمكافحة الإرهاب والوضع الأمني في سوريا".

وأوضح فو أن القرار ينص بوضوح على أن على سوريا "اتخاذ إجراءات حاسمة لمكافحة الأعمال الإرهابية والتعامل مع تهديد المقاتلين الإرهابيين الأجانب، بمن فيهم عناصر حركة تركستان الشرقية الإسلامية المتواجدون في سوريا".

وتُبدي بكين منذ سنوات قلقًا بالغًا تجاه مصير حركة "تركستان الشرقية الإسلامية"، التي تضم مقاتلين من الأويغور القادمين من الصين وآسيا الوسطى، في وقت تتهمها منظمات حقوقية بارتكاب انتهاكات واسعة ضد هذه الأقلية المسلمة داخل أراضيها.

وفي 18 أكتوبر/تشرين الأول 2025، أشار وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، في مقابلة مع قناة “الإخبارية” إلى ضرورة "إعادة تصحيح العلاقة مع الصين التي كانت تقف سياسيا إلى جانب النظام البائد، وتستخدم حق النقض (الفيتو) لصالحه في مجلس الأمن الدولي".

وكشف الشيباني عن أن أول زيارة رسمية للقيادة السورية الجديدة إلى بكين ستُجرى خلال نوفمبر 2025.

وسبق أن التقى الشيباني، في 26 أكتوبر 2025، سفير جمهورية الصين الشعبية لدى سوريا، يانغ شو، في مقر وزارة الخارجية بدمشق. وأوضحت الوزارة في بيان أن اللقاء تناول سبل تعزيز التعاون الثنائي بين البلدين في مختلف المجالات، مع التأكيد على الدعم المتبادل في القضايا ذات الاهتمام المشترك.

كما استقبل الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع، في مايو 2025، وفداً صينياً برئاسة تشين وي تشينغ، المدير العام لإدارة شؤون غرب آسيا وشمال إفريقيا في وزارة الخارجية الصينية.

وفي 30 سبتمبر 2025، التقى الشرع وفدا من رجال الأعمال السوريين المقيمين في الصين في قصر الشعب بدمشق. وذكرت رئاسة الجمهورية أن اللقاء تناول سبل استثمار الكفاءات والخبرات الوطنية في الخارج وربطها بالمشاريع التنموية داخل سوريا، مؤكدة على دور رواد الأعمال السوريين في دعم الاقتصاد الوطني.

قلق صيني

يبدو أن الهاجس الأمني، لا سيما المتعلق بوجود الحزب الإسلامي التركستاني، ما زال يشكل العامل الأبرز في تحديد ملامح العلاقة بين الصين والإدارة السورية الجديدة، مؤثرا في توجهات بكين الدبلوماسية والاقتصادية على حد سواء.

وبين رغبة الصين في الحفاظ على استقرار سوريا، وخشيتها من تحوّل الساحة السورية إلى ميدان صراع بين القوى الكبرى، تسعى بكين إلى صياغة مقاربة حذرة توازن بين مصالحها الإستراتيجية ومخاوفها الأمنية، بانتظار اتضاح معالم النظام السوري الجديد وسياساته المستقبلية.

ولم تعلن الصين حتى الآن اعترافها رسميا بتعيين أي سفير جديد لها لدى دمشق. وفي المقابل، رفعت السفارة السورية في بكين، الواقعة في منطقة تشاويانغ، العلم السوري الجديد على مبناها، في خطوة رمزية لافتة. وقد أوضح محمد خدام، السفير السوري الحالي في الصين، والذي يشغل هذا المنصب منذ يوليو/تموز 2022 وبقي فيه بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد، أن تواصله مع دمشق يقتصر حالياً على "الشؤون البيروقراطية الروتينية".

وفي هذا السياق، قال الباحث السوري عمار جلو في حديثه لصحيفة الاستقلال: إن "موقف الصين من سوريا الجديدة يمكن فهمه بالعودة إلى طبيعة انخراطها السابق مع نظام الأسد المخلوع، والذي كان مدفوعاً بالدرجة الأولى بتقديرات أمنية، وعلى رأسها وجود الحزب الإسلامي التركستاني في سوريا".

وأضاف جلو أن "هذا الوجود كان سببا رئيساً في تكرار زيارات مسؤولين سوريين إلى بكين، وتعيين الصين مبعوثاً خاصاً إلى سوريا منذ عام 2016، إضافة إلى زياراته المتكررة للأراضي السورية واجتماعاته الشهرية تقريبا مع النظام السابق، لمتابعة تحركات الحزب وتقييم مدى تأثيره على المصالح الصينية حول العالم".

وأشار إلى أن "النظرة الصينية إلى سوريا كانت، تاريخياً، محكومة بالتقديرات الأمنية أكثر من أي بعد سياسي أو اقتصادي"، لكنه استدرك قائلاً: "غير أن هذه المخاوف تراجعت جزئياً في المرحلة الراهنة مع غياب الحزب التركستاني عن المشهد العسكري والأمني في سوريا الجديدة، وهو ما أثار لدى بكين نوعا جديداً من القلق، يتمثل في احتمال أن تكون التطورات الأخيرة جزءا من استهداف أميركي غير مباشر لها، خصوصا بعد أن أزالت واشنطن عام 2020 الحزب من قوائم الإرهاب".

ويرى جلو أن "القلق الصيني مبرر نسبيا في ظل تصاعد التنافس بين بكين وواشنطن، واحتمال استخدام الأخيرة ورقة الحزب التركستاني ضمن لعبة النفوذ الجيوسياسي في سوريا والمنطقة".

ويضيف: "من هذا المنطلق، تتحرك الصين حالياً في مساحة دقيقة بين محورين أساسيين: الأول يتمثل في دعم استقرار سوريا كدولة ذات سيادة دون التدخل في شؤونها الداخلية، انسجاما مع أحد المبادئ الخمسة الحاكمة للسياسة الخارجية الصينية، أما الثاني فيتعلق بالانخراط الدبلوماسي الحذر نتيجة الهواجس الأمنية".

وختم جلو بالقول: إن "لقاءات عدة جرت بين السفير الصيني والقائم بالأعمال في دمشق من جهة، وممثلين عن الإدارة السورية الجديدة من جهة أخرى، وكان محورها الأساسي مطالبة بكين بإبعاد عناصر الحزب التركستاني عن الأراضي السورية، أو على الأقل عن مواقع النفوذ داخل المؤسسات العسكرية والأمنية".

لاعب اقتصادي حذر

تأمل سوريا في جذب الاستثمارات الأجنبية للمساعدة في إنعاش الصناعات الرئيسة، وتعد الصين من أبرز الدول المرشحة للعب هذا الدور، نظراً لخبرتها الطويلة في مجالات البنية التحتية والصناعة.

وفي هذا السياق، قال وزير الاقتصاد السوري محمد نضال الشعار لوكالة رويترز في 21 أكتوبر/تشرين الأول 2025: إن شركات صينية تعهدت بتقديم مئات الملايين من الدولارات لإنشاء مصانع جديدة للإسمنت والبلاستيك والسكر في سوريا.

ومع ذلك، ما تزال بكين تتخذ موقفاً متحفظاً إزاء الحكومة السورية الجديدة، على الرغم من كونها أحد أهم الشركاء الاقتصاديين لسوريا خلال عهد النظام السابق، إذ ساعدت في كسر العزلة الدولية المفروضة على دمشق وأبقت خطوط التجارة مفتوحة رغم العقوبات الغربية.

فالصين اليوم تقف في منطقة رمادية سياسياً تجاه دمشق، إذ تدرك أهمية تحديد شكل علاقتها الجديدة بسوريا في ظل مرحلة إعادة الإعمار التي تقدر كلفتها بأكثر من 216 مليار دولار بحسب البنك الدولي.

وتُظهر بيانات الجمارك الصينية أن قيمة الصادرات الصينية المباشرة إلى سوريا عام 2023 بلغت نحو 357 مليون دولار، مقابل واردات سورية إلى الصين لم تتجاوز 1.5 مليون دولار فقط. لكن مراقبين يشيرون إلى أن هذه الأرقام لا تعكس الحجم الحقيقي للتجارة بين البلدين، بسبب الالتفاف على العقوبات الأميركية عبر دول وسيطة مثل العراق ولبنان والأردن، التي بلغت قيمة الصادرات الصينية إليها مجتمعة نحو 49.7 مليارات دولار في العام ذاته.

ويشير الباحث السوري عمار جلو إلى أن "الصين ما تزال مترددة في إطلاق استثماراتها داخل سوريا، رغم قوتها العالمية في قطاعات الطاقة والموانئ والبنية التحتية".

وأوضح أن هذا التردد "نابع من غياب الاستقرار الأمني؛ إذ تنظر الصين إلى الاستثمار في بيئة مضطربة على أنه مخاطرة قد تتبخر في أي لحظة، وهو درس تعلمته من تجربتها في ليبيا حين اضطرت لإجلاء ثلاثين ألف صيني وخسرت نحو 20 مليار دولار".

وأضاف جلو أن "استمرار وجود الحزب الإسلامي التركستاني في سوريا يمثل تهديدا مباشرا لأمن الصين القومي، ما يجعلها متحفظة تجاه أي مبادرات اقتصادية إيجابية".

ورغم هذه التحفظات، امتنعت الصين عن استخدام الفيتو في مجلس الأمن بشأن رفع اسم رئيس الحكومة السورية ووزير الداخلية أنس خطاب من لوائح الإرهاب، في إشارة إلى رغبتها في إبقاء قنوات الحوار مفتوحة.

ويعتقد جلو أن الزيارة المرتقبة للرئيس أحمد الشرع إلى بكين قد تشكل فرصة لتبديد المخاوف الأمنية الصينية، والتوصل إلى تفاهمات تضمن عدم استغلال الأراضي السورية في أي أعمال عدائية ضد المصالح الصينية.

وختم بالقول إن "استمرار مشاركة عناصر الحزب التركستاني في مؤسسات الدولة أو منحهم مناصب مؤثرة، سيُبقي الهواجس الصينية قائمة ويحول دون تطوير العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بين البلدين، ما لم تُبرم تفاهمات واضحة ومطمئنة لبكين".