رؤية طويلة المدى.. كيف منحت الصناعات الدفاعية لتركيا موقعا أكثر تأثيرا؟

منذ ٤ ساعات

12

طباعة

مشاركة

تسلم الجيش التركي أول دفعة من دبابات "ألتاي" (ALTAY) محلية الصنع في 28 أكتوبر/ تشرين الأول 2025، وذلك في إطار مشروع يهدف إلى تلبية الاحتياجات العسكرية بإمكانات وطنية.

وفي السياق، نشر معهد التفكير الإستراتيجي التركي مقالاً للكاتب "مدحت إيشيك"، ذكر فيه أن تركيا حققت تقدماً بارزاً في قطاع الصناعات الدفاعية عبر تطوير منتجات محلية عالية التكنولوجيا، في مقدمتها دبابة "ألتاي"، التي أصبحت رمزاً لنجاح الصناعة الدفاعية التركية.

ركيزة أمنية

وتحتل الصناعات الدفاعية موقعاً محورياً في بنية الدول الحديثة، فهي ليست مجرد قطاع إنتاجي تقليدي، بل ركيزة أساسية للأمن القومي وعاملاً مهماً في تعزيز التنمية الاقتصادية. 

فالدول التي تنجح في بناء قاعدة صناعية دفاعية متقدمة تكون أكثر قدرة على اتخاذ قرارات مستقلة في المجالين السياسي والعسكري، كما تتحول من مستهلك للسلاح إلى منتج ومصدر له، وهو ما يمنحها مكانة استراتيجية إقليمياً ودولياً. 

ويحتاج تأسيس مصنع قادر على الإنتاج الدفاعي إلى رؤية واضحة واستثمارات كبيرة وخبرة تقنية عالية، فالمعدات المستخدمة في هذا المجال تعتمد على التكنولوجيا المتقدمة والأنظمة الروبوتية وعمليات التجميع الدقيقة، مما يفرض التزاماً صارماً بمعايير الجودة الدولية. 

كما يمثل العنصر البشري ركناً أساسياً في العملية الإنتاجية، حيث يتطلب العمل في هذا القطاع مهندسين وفنيين ذوي خبرة متخصصة، إضافة إلى برامج تدريب مستمرة تضمن رفع الكفاءة ومواكبة التطورات التقنية.

ويُعد البحث والتطوير القلبَ النابض لأي قطاع دفاعي حديث، إذ لا يمكن للدول أن تنافس أو تواكب التغيرات التقنية من دون استثمارات مكثفة في هذا المجال. 

فالتهديدات العسكرية لم تعد تقليدية كما كانت في السابق، بل أصبحت متعددة الأبعاد؛ تشمل الحرب الإلكترونية والطائرات المسيرة والأنظمة الذكية والأسلحة الدقيقة. ومن دون مراكز بحث قوية، لن تتمكن الدولة من إنتاج منتجات قادرة على مواجهة تحديات المستقبل. 

وتركيا تدرك هذه الحقيقة جيداً، لذلك فقد دعمت حكومتها برامج البحث والتطوير، وربطتها بمشاريع محلية تهدف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي وتقليل الاعتماد على الخارج.

استقلال تدريجي

وتُعد دبابة ألتاي رمزاً للطفرة التي يشهدها قطاع الصناعات الدفاعية التركية. فقد تحول المشروع من مجرد حلم إلى منتج واقعي يُصنف ضمن فئة الدبابات الحديثة من الجيل 3+، وهو إنجاز وَضَعَ تركيا في خانة الدول القادرة على إنتاج سلاح ثقيل معقد يتطلب قدرات صناعية وتقنية عالية. 

وقد حملت الدبابة اسم فخر الدين ألتاي، أحد أبرز قادة حرب الاستقلال، لتكتسب بذلك بُعداً رمزياً يعكس امتداد الذاكرة التاريخية العسكرية التركية. 

بالإضافة إلى ذلك فقد دخلت الدبابة مرحلة الإنتاج المتسلسل، وانضمت إلى مخزون القوات المسلحة التركية في 28 أكتوبر 2025، وهو تاريخ شكّل نقطة تحول عميقة في الصناعة الدفاعية التركية، إذ انتقلت البلاد من مستورد للدبابات إلى دولة مُنتِجة قادرة على البناء والتطوير.

غير أنّ الوصول إلى هذه المرحلة لم يكن أمراً سهلاً، إلّا أنّ تركيا تجني ثمار هذا المجهود اليوم، فقد عملت على بناء قدرة إنتاجية ثابتة تصل إلى 8 دبابات شهرياً، بما يعادل 96 دبابة سنوياً، وهو رقم كبير قياساً بحداثة التجربة التركية في هذا المجال. 

وقد اعتمدت تركيا في المرحلة الأولى على محركات وناقلات حركة من كوريا الجنوبية، وهو خيار منطقي في ضوء التعقيدات التقنية الخاصة بمحركات الدبابات.

إلا أن الخطة طويلة المدى تقوم على إحلال مجموعة القوة الوطنية “باتو”، بما يعني اكتمال استقلال تركيا في تصنيع هذه المنظومة المعقدة خلال المراحل المقبلة. ويمثل هذا الانتقال خطوة مهمة نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي الكامل.

ويُتوقع أن تصبح دبابة ألتاي بحلول عام 2030 العمود الفقري للوحدات المدرعة في الجيش التركي، وذلك بفضل مزيج من القدرات التقنية والعملياتية التي تُحاكي احتياجات ساحات القتال الحديثة. 

فقد استفادت تركيا خلال تطوير الدبابة من خبراتها المتراكمة في العمليات العسكرية التي خاضتها في العراق وسوريا والقوقاز. 

حيث واجه الجيش التركي أنماطاً جديدة من التهديدات، بما في ذلك حرب المدن والعمليات غير التقليدية وضربات الطائرات المسيّرة والصواريخ الموجهة. 

وقد انعكست هذه الخبرات على تصميم الدبابة التي جرى تطويرها لتكون قادرة على مواجهة التهديدات من زوايا متعددة، والتعامل مع الهجمات الجانبية، والتصدي للطائرات المسيّرة، وتحمّل ظروف المناخ القاسية وبيئات القتال المختلفة.

وتتميز الدبابة بوزن يبلغ 65 طناً وسرعة تصل إلى 65 كيلومتراً في الساعة ومدى تشغيلي يصل إلى 450 كيلومتراً، مع قدرة على العمل في درجات حرارة تتراوح بين +52 و -32 درجة مئوية. 

كما تستطيع عبور مياه بعمق أربعة أمتار، وصعود منحدرات بنسبة 60 بالمئة. بالإضافة إلى ذلك، تجمع الدبابة بين دروع متطورة وأنظمة اتصالات حديثة ونظام للتحكم بالنيران يمنحها دقة عالية في الإصابة. 

أما تسليحها الرئيس فيتألف من مدفع 120 ملم من إنتاج مؤسسة الصناعات الميكانيكية والكيميائية التركية، ويبلغ مداه ثلاثة آلاف متر ويطلق ست قذائف في الدقيقة.

إضافة إلى رشاش بي إم تي76/57 تي الذي يزن 12 كيلوغراماً ويطلق 950 طلقة في الدقيقة، وهو ما يضيف قوة نيرانية مهمة للدبابة في البيئات القتالية القريبة.

انعكاسات إستراتيجية

ويمثل دخول دبابة ألتاي إلى خدمة القوات المسلحة التركية تطوراً نوعياً لا يقتصر أثره على تركيا وحدها، بل يمتد ليشمل حلف شمال الأطلسي بأكمله. 

فتركيا، بصفتها ثاني أكبر قوة عسكرية داخل الناتو من حيث عدد الجنود وحجم القوات البرية، تُعد دولة محورية في أي ترتيبات دفاعية أو عمليات مشتركة يقوم بها الحلف. 

بالتالي، فإن امتلاكها دبابة قتال رئيسة محلية الصنع يضيف بُعداً جديداً لقدرات الحلف، إذ يوفر نموذجاً حديثاً يمكن الاعتماد عليه في العمليات البرية، و يعزز من مرونة الحلف في التعامل مع التهديدات المستقبلية التي تتطور بسرعة.

وأضاف: لا تقتصر أهمية هذا التطور على الجانب العسكري فقط، بل تمتد إلى المجال السياسي أيضاً. 

فنجاح تركيا في تصنيع دبابة متقدمة مثل ألتاي يجعلها في موقع مختلف داخل الناتو، إذ تنتقل من دولة تعتمد على أنظمة التسليح الغربية إلى دولة مُنتجة قادرة على تطوير حلول مستقلة وطرح بدائل تقنية. 

وهذا التحول يمنحها قوة تفاوضية أكبر عند مناقشة السياسات الدفاعية المشتركة أو عند اتخاذ القرارات الإستراتيجية داخل الحلف، كما يعزز مكانتها في موازين القوة بين أعضائه. 

بذلك لا تبقى تركيا مجرد مستخدم لما تنتجه الدول الغربية، بل تصبح شريكاً قادراً على الإسهام الفعلي في تطوير القدرات الدفاعية للحلف.

ويمكن القول إن تجربة تركيا في تطوير وإنتاج دبابة ألتاي ليست مجرد مشروع صناعي، بل هي مسار إستراتيجي متكامل يعبر عن إرادة سياسية واقتصادية في بناء قوة وطنية مستقلة. 

فقد انتقلت تركيا من مجرد دولة مستوردة للسلاح إلى دولة تمتلك علامة دفاعية وطنية قادرة على المنافسة، كما غيّر هذا التحول موازين القوى الإقليمية، ومنح تركيا موقعاً أكثر تأثيراً في محيطها الإقليمي والدولي. 

ويثبت هذا النموذج أن بناء قطاع صناعات دفاعية قوي يتطلب رؤية طويلة المدى واستثمارات ضخمة ومراكمة خبرات عملية، لكنه في الوقت ذاته يضمن للدول القدرة على حماية أمنها وصياغة مستقبلها دون الاعتماد على الخارج.