تحول جذري أم ورقة ضغط.. ما دلالات تراجع التنسيق الأمني بين مصر وإسرائيل؟

داود علي | منذ ٣ ساعات

12

طباعة

مشاركة

بعد 46 عاما من التنسيق الأمني الذي ولد مع توقيع اتفاقية كامب ديفيد (1978)، تجد العلاقات المصرية الإسرائيلية نفسها أمام منعطف غير مسبوق. 

فقد كشفت وسائل إعلام مصرية وعبرية متطابقة في 12 سبتمبر/ أيلول 2025، أن القاهرة قررت خفض مستوى هذا التنسيق إلى الحد الأدنى، في خطوة لم تعلن رسميا. 

لكنها اكتسبت زخما سياسيا واسعا بعد أن باركها زعيم الأغلبية في البرلمان المصري عبد الهادي القصبي، عبر بيان أصدره في 13 سبتمبر، مؤكدا أنها تعكس إرادة وطنية صلبة وتمثل رسالة واضحة إلى من يعنيهم الأمر.

جاء هذا التطور في لحظة مشحونة إقليميا، حرب إبادة متواصلة في غزة، محاولات إسرائيلية لفرض سيناريو تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، ضربة غادرة نالت قلب الدوحة، وقلق متصاعد من تنامي الحضور العسكري المصري شرق قناة السويس. 

كل تلك الملفات تضافرت لتجعل القاهرة تعلن، ولو ببيان غير رسمي، أن قواعد اللعبة لم تعد كما كانت، وأن التنسيق الأمني الذي ظل لعقود أداة لضبط الحدود قد تحول اليوم إلى ورقة ضغط في مواجهة الاستفزازات الإسرائيلية المتلاحقة.

دوافع التخفيض

ويضمن التنسيق الأمني بين الجانبين عدم حدوث سوء فهم على الحدود المشتركة في سيناء، ولذلك يجرى منذ سنوات تبادل المعلومات لتحجيم أي تحركات قد تفسر خطأ وتؤدي إلى مواجهة غير محسوبة. 

وبحسب ما نشرت مواقع "اليوم السابع" و"المصري اليوم، و"مصر 360" و"مصراوي" المحلية، إضافة قناة "العربية الحدث" السعودية، في 17 سبتمبر، فإنه مع تخفيض التنسيق، يذهب محللون إلى أن أي تحرك عسكري غير منسق قد يعد بمثابة إعلان حرب.

وهي أخطر مرحلة تمر بها العلاقات منذ اتفاقية السلام، لا سيما أن الخطوة المصرية جاءت تتويجا لسلسلة من الأزمات التي راكمت الغضب تجاه تل أبيب، في مقدمتها العدوان على غزة، ومساعي التهجير إلى سيناء. 

إذ وجدت القاهرة نفسها محاصرة بين انتقادات داخلية وضغوط دولية بسبب صمتها على مجازر متواصلة ضد المدنيين الفلسطينيين. 

ومع كل قصف جديد ومعاناة إنسانية متفاقمة، وتصريحات لوزراء اليمين المتطرف الإسرائيليين، صار ملف التنسيق الأمني عبئا على النظام المصري.

وقد رفضت مصر بقوة القبول بالتهجير منذ بداية الأحداث في 7 أكتوبر 202، مدركة أن أي استجابة ستعني تفجير أمنها القومي ونسف الورقة الفلسطينية من مفاوضات الحل النهائي.

في المقابل، كانت تل أبيب تتابع بقلق تزايد الحضور العسكري المصري شرق قناة السويس، فقد عزز الجيش المصري قواته في شمال ووسط سيناء تحت شعار مكافحة الإرهاب. 

لكن الإسرائيليين رأوا في ذلك تجاوزا لقيود الترتيبات الأمنية المنصوص عليها في معاهدة السلام وهنا تداخلت الشكوك مع المخاوف، وزاد التوتر يوما بعد يوم.

الرؤية الإسرائيلية

وفي 13 سبتمبر، كشف الصحفي الإسرائيلي في صحيفة "هآرتس" العبرية جاكي خوري، نقلا عن مصادر عسكرية إسرائيلية، أن القاهرة تتحرك نحو إعادة صياغة علاقتها مع تل أبيب، وتدرس بدقة مستقبل القنوات الأمنية بين الطرفين. 

غير أن إسرائيل، بحسب هذه المصادر، لا تعترف عمليا بقرار مصر خفض التنسيق الأمني، وتتعامل معه كخطوة غير ملزمة.

أما صحيفة "جيروزاليم بوست" العبرية، فقد رأت أن العلاقات بين مصر وإسرائيل دخلت بالفعل مرحلة تدهور متسارعة خلال الأشهر الماضية. 

وأشارت الصحيفة إلى أن الشرارة الأولى جاءت عندما عرض رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو خريطة لـ"إسرائيل الكبرى" تضمنت أجزاء من شبه جزيرة سيناء، وهو ما عدته القاهرة استفزازا وعداء مباشرا. 

وزاد التوتر حين تجاهلت تل أبيب المبادرة المصرية القطرية الجزئية لوقف إطلاق النار في غزة، رغم أنها لبت معظم مطالب إسرائيل المعلنة.

من جانبها، حذرت وكالة "رويترز" البريطانية في إطار تداولها لخبر خفض التنسيق الأمني من أن الضربة الإسرائيلية على الدوحة في 9 سبتمبر 2025، والتي استهدفت قيادات حركة المقاومة الإسلامية حماس، تنذر بصدع جديد في علاقة إسرائيل مع دول عربية كانت قد طبّعت علاقاتها معها. 

وذكرت الوكالة بأن مصر التي خاضت حروبا ضارية مع إسرائيل في أعوام 1948 و1956 و1967 و1973، كانت أول دولة عربية توقع اتفاقية سلام مع تل أبيب في كامب ديفيد عام 1978. 

ورغم أن هذه المعاهدة مثلت ركيزة ثابتة للسياسة الخارجية المصرية وضمانة أساسية لعلاقات القاهرة مع واشنطن، فإن استطلاعات الرأي تشير إلى أنها لم تحظ يوما بقبول شعبي داخل مصر.

تصاعد التوترات

وتصاعدت حدة التوتر بين القاهرة وتل أبيب منذ مطلع سبتمبر/أيلول 2025 على خلفية الوجود العسكري المصري في سيناء.

إذ كشفت صحيفة “يسرائيل هيوم” أن نتنياهو وجه بعدم المضي قدما في صفقة تصدير الغاز إلى مصر من دون أن تُعرض عليه شخصيًا. 

القرار ارتبط بتقارير إسرائيلية تتحدث عن "انتهاكات" مصرية للملحق الأمني في اتفاقية كامب ديفيد، سواء عبر إدخال قوات ومعدات تتجاوز المسموح، أو توسيع مدارج مطارات، أو بناء أنفاق قادرة على تخزين أسلحة. 

وبعد يومين فقط، في الرابع من سبتمبر، صعّد نتنياهو في مقابلة عبر قناة "أبو علي إكسبرس" على منصة تلغرام باتهام مصر بأنها تغلق معبر رفح فورا أمام خروج الفلسطينيين، في إشارة واضحة إلى رفض القاهرة للتهجير.

وفي 5 سبتمبر، ردت وزارة الخارجية المصرية بحدة، مؤكدة أن هذه التصريحات تمثل محاولة لفرض وقائع سياسية على حساب مصر وتوظيف ورقة التهجير للضغط عليها، خصوصا في ملف سيناء حيث تطالب أوساط إسرائيلية بتقليص حجم الانتشار العسكري المصري. 

لكن مكتب نتنياهو أصدر في اليوم نفسه بيانا مضادا اتهم فيه القاهرة بأنها "تقيّد حرية سكان غزة" في مغادرة منطقة الحرب.

لتعلن مصر في 6 سبتمبر، عبر وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي أن "التهجير خط أحمر لمصر"، مشددا على أن قبول المخطط الإسرائيلي يعني فعليًا تصفية القضية الفلسطينية.

هذا المسار التصاعدي تواصل في 16 سبتمبر حين طرح رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي سؤالا لافتا خلال مؤتمر صحفي: "ماذا لو تم الضغط على الفلسطينيين ودفعوا إلى الحدود؟ بالتأكيد، الدولة المصرية لديها الخطط للتعامل مع هذا الأمر". 

التصريح عكس حجم المخاوف داخل القاهرة من إمكانية دفع مئات الآلاف من الفلسطينيين نحو سيناء كأمر واقع. 

ويأتي هذا في ظل مواصلة الجيش الإسرائيلي الضغط على سكان مدينة غزة من الجهات الشرقية والشمالية والجنوبية عبر التقدم البري، وتفجير الروبوتات المفخخة، والقصف المدفعي والجوي، واستهداف المباني السكنية في مختلف الأحياء. 

ويكمن الهدف في دفع أهالي المدينة نحو جنوب القطاع، على مقربة من الحدود المصرية تمهيدا لتهجير الأهالي الذين يزيد عددهم عن مليونين.

هذه التطورات تعكس أن الخلاف لم يعد محصورا في إدارة غزة أو معابرها، بل امتد ليأخذ طابعا إستراتيجيا يمس جوهر العلاقة الأمنية بين الطرفين. 

فبعد أن كان التنسيق الأمني قائما على التعاون ضد "الإرهاب" في سيناء، بات الوجود العسكري المصري هناك يُنظر إليه في تل أبيب كعامل تهديد يعيد رسم قواعد اللعبة، فيما تصر القاهرة على أن أي محاولة لفرض سيناريو التهجير عبر الحدود تمثل خطا أحمر لا يمكن تجاوزه.

صدام متوقع

أما صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية فقد ذهبت أبعد من ذلك، وترى أن إسرائيل بعزلها لمصر إنما تخسر أهم شريك عربي لها. 

وفي مقال رأي نشر يوم 14 سبتمبر 2025، حذرت الكاتبة كسينيا سفتلوفا، رئيسة "المنظمة الإقليمية للسلام والاقتصادات والأمن"، من أن “تهديد نتنياهو الأخير بعرقلة صفقة غاز ضخمة بقيمة 35 مليار دولار مع مصر يمثل خطأ إستراتيجيا فادحا، ويهدد بتقويض الشراكة العربية الأهم بالنسبة لتل أبيب”.

وترى سفتلوفا العضوة السابقة في الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) أن مثل هذه الخطوات ليست سوى جزء من نمط "أزمات مصطنعة" تصنعها الحكومة الإسرائيلية بغرض ممارسة الضغط على القاهرة لقبول سياسات "لا يمكن لأي حكومة مصرية أن تتبناها على الإطلاق".

وفي 20 سبتمبر، كشف المحلل الإسرائيلي "يوآب شتيرن" لوكالة "فرانس 24"، أن التوتر العسكري بين مصر وإسرائيل حول سيناء أصبح قضية جوهرية وليس هامشية. 

وأشار إلى أن إسرائيل تطلب الآن من الولايات المتحدة كراع للاتفاقية التدخل، وتحجيم النفوذ المصري.

وأرجع شتيرن هذا التوتر أيضا إلى مخاوف مصرية من مخططات التهجير الإسرائيلية للفلسطينيين نحو سيناء، وإلى الهجوم الإسرائيلي على قطر سبب عدم ثقة بين الجانبين.

وأكد أن نتنياهو يخطئ في إدارة الحرب ويؤثر على علاقات إسرائيل مع جيرانها، معتبرا أن اصطداما عسكريا مباشرا بين الجانبين "خارج نطاق المنطق" وغير متوقع، يمكن أن يحدث. 

وأضاف أن اتفاقيات السلام تخدم مصلحة الطرفين ويجب الحفاظ عليها، مع الاحتفاظ بالتنسيق الأمني كاملا، وختم بأن العالم كله ينتظر نهاية الحرب في غزة، التي يجب أن تتجدد لأجلها ديناميكية المفاوضات. 

احتمالات مفتوحة

وقال المحلل السياسي المصري خالد محمود، إن “ما يتداول حول قرار القاهرة بخفض مستوى التنسيق الأمني مع إسرائيل يثير العديد من التساؤلات، خصوصا في ظل غياب إعلان رسمي من الجانب المصري، مقابل محاولات إسرائيلية للتقليل من شأن الخطوة وعدها مجرد تعديل مؤقت”.

وأضاف محمود لـ"الاستقلال" أن “حالة القلق تبدو واضحة في الخطاب الإسرائيلي، إذ تخشى تل أبيب أن يتطور الأمر من خفض التنسيق إلى ما يمكن عده خرقا للبروتوكولات الأمنية المنظمة للعلاقة بين البلدين، ولا سيما ما يتعلق بتحريك القوات أو التنسيق في سيناء والحدود المشتركة”.

وأوضح أن "هذه ليست المرة الأولى التي تلوح فيها القاهرة بورقة التنسيق الأمني، فقد سبق أن استخدمتها خلال اجتياح لبنان عام 1982، وأثناء انتفاضة الأقصى عام 2000، ثم خلال عملية الجرف الصامد في غزة عام 2014". 

واستطرد: “كذلك عام 2024 عندما حذرت مصر من أن أي عملية إسرائيلية في رفح قد تدفع إلى نزوح فلسطينيين نحو سيناء، وهو ما عدته تهديدا مباشرا يستوجب تجميد الملحق الأمني وربما تعليق معاهدة السلام نفسها”.

وأشار محمود إلى أن “بروتوكول الترتيبات الأمنية يظل المرجعية الأساسية التي تنظم هذا التعاون، وأن القاهرة تعاملت مع مسألة احتلال إسرائيل لمحور فيلادلفيا (على الحدود مع غزة) في إطار صفقة وقف إطلاق النار”.

إذ أصرت مصر على عودة سكان القطاع إلى الشمال وعدم دفعهم إلى الجنوب، وهو ما تحقق بالفعل بعودة نحو مليون فلسطيني، وفق قوله.

وختم محمود بالقول إن ضجيج الإعلام الإسرائيلي في هذه اللحظة يعكس وجود تغير حقيقي في شكل العلاقة مع مصر، وإن كانت الترتيبات الأمنية ما زالت قائمة من الناحية الرسمية. 

لكنه شدد على أن جميع الاحتمالات تبقى مفتوحة، خاصة أن التوتر الراهن بين القاهرة وتل أبيب غير مسبوق منذ توقيع معاهدة السلام.