يدعم كليتشدار أوغلو لرئاسة تركيا.. هكذا انقلب حزب السعادة على إرث أربكان

داود علي | منذ عام واحد

12

طباعة

مشاركة

في مشهد ضج بتوقعات عديدة، أعلن تحالف المعارضة التركية المعروف باسم "الطاولة السداسية" أخيرا، في 6 مارس/ آذار 2023، ترشيح زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليتشدار أوغلو  لخوض الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها يوم 14 مايو/ أيار 2023.

وتحدت أجواء الإعلان الساخنة برودة الطقس في العاصمة أنقرة، فمن  أمام مقر حزب السعادة الذي أسسه السياسي الإسلامي الراحل نجم الدين أربكان، وقف السياسي العلماني كليتشدار أوغلو معلنا استعداده لخوض غمار الانتخابات. 

كما تدلت صورة مؤسس الجمهورية التركية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك على واجهة حزب السعادة، وتعالت هتافات بشأن "العلمانية"، ما أثار غضبا إسلاميا تجاه حزب السعادة ورئيسه "تمل كاراملا أوغلو".

وتحدثت تقارير إعلامية عن ما يشبه تمردا داخليا بدأ يظهر في أروقة الحزب الذي كان طوال العقود الماضية إسلاميا، وتحديدا حركة "ميللي غوروش" (الرؤية الوطنية) الإسلامية التي أسسها أربكان.

وانطلقت تساؤلات عن لماذا عد ترشح كليتشدار أوغلو من أمام مقر حزب السعادة يوما تاريخيا فارقا؟ ولماذا قررت المعارضة اختيار حزب السعادة تحديدا لذلك الإعلان؟ ومدى تأثير ذلك الحدث على قواعد الحزب؟ 

"يوم أسود"

بدأت تداعيات حدث الترشح تظهر يوم 9 مارس 2023، عندما أعلنت "هيئة اتفاق هيمانا" التركية الإسلامية في بيان، رفضها ترشح كليتشدار أوغلو، ووصفت ما جرى أمام مقر "السعادة" بأنه "يوم أسود في تاريخ ميللي غوروش".

و"هيئة اتفاق هيمانا" أنشئت في 30 أكتوبر/ تشرين الأول 2022، على يد أعضاء بحزب السعادة يرفعون شعار "ميللي غوروش".

وذكرت الهيئة أن محاولة إدارة حزب السعادة فرض تقبل الصور والشعارات المؤسفة المرفوعة أمام مقر الحزب "بمثابة إنكار لقضيتنا التي مضى عليها نصف قرن".

وكان أنصار حزب الشعب الجمهوري قد رفعوا صور أتاتورك، ورددوا شعارات عدة من قبيل "يعيش مصطفى كمال باشا"، "ستظل تركيا علمانية دائما وأبدا" من أمام مقر حزب السعادة بأنقرة احتفالا بإعلان كليتشدار أوغلو مرشحا عن الطاولة السداسية.

وتضم "الطاولة السداسية" أحزاب الشعب الجمهوري برئاسة كليتشدار أوغلو، والجيد برئاسة ميرال أكشنار، والديمقراطية والتقدم برئاسة علي باباجان، والمستقبل برئاسة أحمد داود أوغلو، والسعادة برئاسة تمل كارمولا أوغلو، والديمقراطي برئاسة جولتكين أويصال.

ورأى بيان "هيئة اتفاق هيمانا" أن "إدارة الحزب أصبحت لا تؤمن بقضيتنا، ورؤيتنا الوطنية وأمتنا". 

وأشاروا إلى أن المشاركة في طاولة المعارضة لا يعبر إلا عن موقف رئاسة الحزب، والغالبية العظمى من قواعد الحزب ترفض هذا الوضع.

ورأت الهيئة في بيانها أن "الإدارة الحالية للحزب خانت قضيتها وفقدت شرعيتها في نظر الشعب، وأنهم فقدوا الأمل تماما في الإدارة الحالية للحزب بقيادة "تمل كاراملا أوغلو"

وأضافوا: "تحولت إدارة حزب السعادة بهذا الوضع إلى مقر يجمع الأحزاب التي حاربت معتقدات الأمة وقيمها وثقافتها وتاريخها".

وأوضحوا أن "الطريق الذي اتخذته إدارة الحزب والقرار الذي صدر عنها لا يمثلان حركة الرؤية الوطنية وأعضاءها الأنقياء".

وختموا بيانهم بالتأكيد للرأي العام التركي على أن "الهيئة لا تعترف بقرار إدارة حزب السعادة بالموافقة على ترشيح كليتشدار أوغلو". مشددين: "من الآن فصاعدا لا نعد أي كلام أو قرار صادر عن إدارة حزب السعادة ملزما لنا".

ضربات متعددة 

ليست فقط "هيئة اتفاق هيمانا" التابعة لحركة ميللي غوروش وحدها من عارضت الهيئة العليا لحزب السعادة في توجهاتها. 

إذ تعرض مقر حزب السعادة في ولاية "كارامان" التركية وسط البلاد للاعتداء، استنكارا من مؤيديه بتعليق صورة أتاتورك على واجهة المقر الرئيس في أنقرة، وترديد شعارات العلمانية التي أثارت غضبا داخل قواعد الحزب.

وبحسب وسائل الإعلام التركية كسر مجهولون لوحة مكتوبا عليها اسم الحزب، وتعرضت الجدران لبعض الضرر. 

الأمر الثاني ما حدث في 10 مارس 2023، عندما أجرى نائب الرئيس رجب طيب أردوغان في حزب العدالة والتنمية، بن علي يلدريم، لقاء مع زعيم حزب "الرفاه من جديد" فاتح أربكان وهو ابن الزعيم الإسلامي نجم الدين أربكان.

وأعلن فاتح عقب الاجتماع عن تلقيه دعوة من حزب العدالة والتنمية لانضمام حزبه للتحالف الحاكم، فيما أشارت وسائل إعلام مثل صحيفة "تركيا اليوم" إلى تقدم في المفاوضات بقوة بين الجانبين.

ويعد تحالف العدالة والتنمية مع حزب الرفاه من جديد، نقلة إستراتيجية، نتيجة لحالة الانقسام داخل حزب السعادة الذي أسسه نجم الدين أربكان. 

وذلك لأن كثيرا من أتباع وأنصار الحزب شهدوا فترات صعبة على تركيا، وعانى كثير منهم سياسيا من الانقلابات وحكم العسكر، وفوق كل ذلك من سياسات حزب الشعب الجمهوري، المتطرفة التي حظرت الحجاب وحاربت المظاهر الدينية. 

دوافع الانقسام 

السؤال الذي يطرح نفسه في ظل معمعة الخلافات واضطراب الرؤى داخل حزب السعادة، هو لماذا وقع ذلك الخلاف على هذا النحو؟ ولماذا يخشى كثير من أنصار السعادة وحركة "ميللي غوروش" صعود كليتشدار أوغلو للرئاسة؟ 

لعل التاريخ قد يجيب على ذلك الطرح، ففي عام 1969 دشن أربكان، حركة "ميللي غوروش"، في إشارة إلى التوجه الديني للمنظمة، والتي شددت على القوة المعنوية والروحية للعقيدة الإسلامية والإيمان بها، مؤكدة أن تراجع العالم الإسلامي كانت نتيجة لتقليد القيم الغربية مثل (العلمانية).

وكلمة "Milli Görüş" بالتركية، تعني بالعربية "الرؤية الوطنية"، وكانت القوانين التركية (آنذاك) تمنع استخدام كلمة الإسلام بشكل مباشر في المؤسسات والحركات.

ولم تكن "ميللي غوروش" جماعة أو تنظيما بالمفهوم الدارج، وإنما جعلت نفسها سقفا لكل الجماعات والقطاعات والطرق الصوفية الكثيرة المنتشرة في تركيا.

فمن حيث القاعدة كانت "ميللي جوروش" تجمعا بشريا في شكل حركة سياسية، سعى إلى محاولة عودة القيم الإسلامية للأمة التركية.

أما أبرز تحد واجه الحركة في تاريخها، فكان انقلاب 1980 في تركيا، بقيادة الجنرال "كنعان إيفرين"، حيث نظمت "ميللي غوروش" في 6 سبتمبر/ أيلول 1980، مؤتمر القدس في مدينة قونية وسط البلاد.

وحضره ما يقارب مليون شخص، يومها عده كثيرون، وفي مقدمتهم الصحافة، والنظام العلماني تحديا للجمهورية ومبادئها.

بعدها تحرك الجيش، ونفذ انقلابه الغاشم بقسوة ودموية مفرطة، وحكم بالإعدام بحق 517 شخصا نفذ منها 50 حكما، ومات تحت التعذيب 171 شخصا، واعتقل 650 ألف مواطن، وتم وضع مليون و683 ألف مواطن تحت المراقبة.

كما فصل 30 ألف موظف من عمله، وهرب مثلهم خارج البلاد، وسحبت الجنسية التركية من 14 ألف مواطن، ومات 73 في ظروف غامضة، وانتحر 43 مواطنا.

وشدد الانقلاب على حظر الحجاب والمدارس الدينية والطرق الصوفية.

وخلف الانقلاب العسكري تأثيرا سلبيا على الحركة وأضعفها وحجم نشاطها داخل تركيا، لكنها انطلقت نحو العالمية بشكل أوسع، وبدأت تقدم خدماتها للجاليات الإسلامية التركية في عموم أوروبا.

لذلك فإن أفراد حركة "ميللي غوروش" وقطاعا من أنصار حزب السعادة لا يغفلون عن ذلك التاريخ، ويستحضرونه أمامهم، وهم يشاهدون كليتشدار أوغلو زعيم حزب الشعب، واقفا أمام مقر حزبهم تحت صورة أتاتورك يعلن ترشحه وسط صخب هتافات أنصار العلمانية. 

سبب الخلاف

ومن الأسئلة التي تطرح نفسها أيضا، في خضم الصراع الدائر، أنه طالما هناك قواسم تاريخية وأيديولوجية مشتركة بين "ميللي غوروش" و"حزب السعادة"، وبين حزب "العدالة والتنمية" الحاكم، فجميعهم خرجوا من مدرسة الراحل أربكان، فلماذا لم يتحالفوا من البداية.  

الأمر يعود إلى انقلاب 28 فبراير/ شباط 1997، المعروف في تركيا بـ "انقلاب ما بعد الحداثة" بقيادة الجنرال "جويك بيير" قائد الأركان العامة للجيش. 

حينها تم إغلاق حزب "الرفاه" الذي أسسه أربكان حينها، وفرض حظر سياسي لمدة 5 سنوات على أربكان، وعدد من قيادات الحزب، على رأسهم أردوغان الذي كان رئيسا لبلدية إسطنبول.

لكن ما هي إلا سنوات قليلة وانتفض "التيار الإصلاحي" محاولا استعادة زمام الأمور، وخرج من رحم الضربة السابقة، حزب ذو تركيبة محافظة فرض سطوته على الحياة التركية وحكم البلاد أكثر من عقدين من الزمن، وهو حزب "العدالة والتنمية" بقيادة أردوغان.

بالإضافة أيضا إلى حزب السعادة الذي اعتمد رسميا في 22 فبراير/شباط 2002، وانطلق بنفس التوجه، من صلب الزعيم الراحل أربكان، وطبيعة أفكاره الإسلامية الإصلاحية، بإشراف منه، وبقيادة تلاميذه نعمان كورتولموش، ومحمد رجائي قوطان، حيث كان يهدف في الأساس إلى استمرار مسيرة حزب "الرفاه" الذي حله الانقلاب العسكري عام 1997. 

ولكن الحزب دخل في صدام عميق لسنوات طويلة مع حزب العدالة والتنمية بقيادة الفرع الآخر من أبناء أربكان في الحركة الإسلامية، على رأسهم أردوغان وعبد الله غل، إذ رأوا أنهم انشقوا عن مسيرة أربكان وطريقته.

واستمرت الخلافات متصاعدة بين التيارين، وسط معارك استقطابات حادة معروفة بها الحياة السياسية التركية، وكان الحسم دائما لصالح الحزب الحاكم، باعتباره قائد التجربة ومؤسس حقبة النهضة الشاملة التي تشهدها الدولة. 

على الجانب الآخر، انزوى حزب السعادة في جميع الاستحقاقات الانتخابية، وشهد حضورا طفيفا لا يكاد يذكر في البلديات والبرلمان، في ظل كتلة تصويتية قليلة لا تكاد تتجاوز 3 بالمئة على أقصى تقدير، بحسب بيانات رسمية.

إستراتيجية أردوغان

مسألة ضعف الكتلة التصويتية لحزب السعادة، مثلت "فخا" لحزب العدالة والتنمية، فعندما انضم "السعادة" إلى تحالف "الأمة" الانتخابي المعارض عام 2018، بجوار حزبي "الشعب الجمهوري" و"الجيد"، البعيدين عنه أيديولوجيا وفكريا.

 لم يبد أردوغان اهتماما كبيرا لأسباب عدة، أهمها عدم امتلاك السعادة كتلة جماهيرية واسعة، تمكنه من إحداث فارق جوهري في العملية السياسية. 

لكن تبين خطأ رؤية العدالة والتنمية، وفق مراقبين، بعد "الصدمة" التي مني بها في انتخابات المحليات عام 2019، عندما خسر البلديات الكبرى، على رأسها إسطنبول، التي يحكمها منذ عام 1994، وذهبت إلى ممثل حزب الشعب الجمهوري، أكرم إمام أوغلو.

هذه النتائج، دفعت أردوغان للبحث وانتهاج إستراتيجية مختلفة كليا عن الماضي،  وبدأ عملية تصحيح مسار بشكل عام.

خاصة أن كثيرا من السياسيين الأتراك يقولون إن نسبة 5 بالمئة هي التي عادة ما تحسم الانتخابات التركية، باعتبار أن 95 بالمئة من الأصوات تعد محسومة سلفا بسبب الانحيازات الإيديولوجية الثابتة للأحزاب.

وهو ما تبين في معركة انتخابات بلدية إسطنبول، إذ خسر العدالة والتنمية البلدية الأهم في البلاد، بفارق 18 ألف صوت فقط، لصالح حزب الشعب الجمهوري.  

لذلك سعى أردوغان إلى جذب قواعد جديدة، ومغازلة حزب "السعادة"، واستدعاء التاريخ المشترك بينها.

وفي مطلع يناير/ كانون الثاني 2021، قام بخطوتين مفصليتين، الأولى عندما زار قبر رئيس الوزراء الأسبق أربكان في مدينة إسطنبول.

والثانية لرئيس المجلس الاستشاري الأعلى لحزب السعادة (آنذاك) أوغوزهان أصيل ترك (رحل في 1 أكتوبر/ تشرين الأول 2021) في منزله بالعاصمة أنقرة.

ولم يقف التقارب عند هذه النقطة، ففي فبراير/شباط 2021، رشح أردوغان، "عثمان نوري كاباكتيبي"، ليكون رئيسا لحزب العدالة والتنمية في إسطنبول، وهو أحد أعلام "ميللي غوروش".

وبتعيين "كاباكتيبي" تحقق رضا جزئي داخل قواعد حزب السعادة، وأظهر مدى القوة في الطلب داخل الأحزاب المحافظة عموما، مثل العدالة والتنمية والسعادة، للعودة إلى الجذور مرة أخرى.

تلك المنهجية حققت فوائدها للتحالف الحاكم في هذه المرحلة، إذ ساهمت في جذب جزء من قواعد السعادة، وحركة "ميللي غوروش" لأردوغان، معارضين نهج التقارب مع الشعب الجمهوري وترشيح كليتشدار أوغلو للرئاسة.