من بوابة الإرهاب.. هكذا تعزز فرنسا نفوذها في الساحل الإفريقي

مهدي القاسمي | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

بعد أيام قليلة على فتح الخطوط الجوية عقب إغلاقها لأشهر بسبب تفشي فيروس كورونا، اختار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون السفر إلى العاصمة الموريتانية نواكشوط لحضور قمة تجمع دول الساحل الإفريقي.

وصل ماكرون، وقادة دول الساحل الإفريقي، في 30 يونيو/ حزيران 2020، إلى نواكشوط، للمشاركة بقمة "فرنسا وتجمع دول الساحل"، برئاسة مشتركة له وللرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني وبمشاركة تشاد والنيجر ومالي وبوركينافاسو، لبحث تصاعد الهجمات الإرهابية هناك.

كما بحثت القمة مصير قوة عملية (برخان) العسكرية في مالي، وتقييم العمل العسكري ضد الجماعات المسلحة في المنطقة.

واكتفى رؤساء حكومات ألمانيا وإيطاليا والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، بالمشاركة عبر تقنية "فيديو كونفرنس".

وجاءت القمة بعد أسبوع من صدور تقرير وزارة الخارجية الأميركية السنوي، الذي وصف موريتانيا بأنها "ظلت شريكا إقليميا أمنيا قويا للولايات المتحدة في مجال مكافحة الإرهاب خلال سنة 2019". 

وأضافت الوزارة: "رغم استمرار العنف الإرهابي في مالي المجاورة والتهديدات الإقليمية (في المنطقة) التي شملت موريتانيا، لم تتعرض البلاد لهجوم إرهابي على أراضيها منذ عام 2011".

فهل هدفت فرنسا من خلال القمة إلى محاربة الإرهاب في المنطقة التي لا تقع على حدودها، أم لها أغراض أخرى؟ 

بوابة الإرهاب

تولي فرنسا اهتماما شديدا بالقمة، ففي يناير/كانون ثان 2020، عقد قادة دول الساحل وفرنسا، قمة في مدينة "بو" جنوب غربي فرنسا، أعلن خلالها ماكرون إرسال 220 جنديا إضافيا إلى الساحل لتعزيز قوة برخان.

وفي عام 2014، أطلقت فرنسا عملية "برخان" العسكرية في مالي، بهدف القضاء على الجماعات المسلحة في منطقة الساحل الإفريقي والحد من نفوذها.

ومجموعة دول الساحل، تجمع إقليمي للتنسيق والتعاون، يهدف إلى مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية، والعمل على حشد تمويلات واستقطاب استثمار أجنبي للنهوض ببلدانه الأعضاء، وفق ما يعرّف التكتل نفسه.

وتضم مجموعة الساحل الإفريقي الخمس، موريتانيا التي تتخذ المجموعة من عاصمتها مقرا لأمانتها العامة، وبوركينا فاسو ومالي وتشاد والنيجر.

دخلت المجموعة عامها السابع وهدفها المعلن هو العمل على ثنائية الأمن والتنمية، بحسب الباحث في مركز الساحل للخبرة والاستشارات، أحمد محمد المصطفى، لكن لا يمكن الحديث عن نشأة المجموعة وأهدافها دون استحضار الدور الفرنسي.

واعتبر الباحث في مقال له أن "الخيط الناظم للدول الأعضاء فيها هو مستوى التأثير الفرنسي في قراراتها، كما أنها وفرت بديلا لتكتلات أخرى كانت "يد" فرنسا فيها غير مطلقة، سواء "المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا" والتي تقف نيجيريا – بوزنها وتأثيرها - حجر عثرة أمام الإرادة الفرنسية فيها، أو التجمعات الإقليمية الأخرى التي سبقت هذه المجموعة، والتي كان للجزائر الدور الأبرز فيها".

عرج المصطفى في مقاله على تمنع مجلس الأمن الدولي عن اعتماد القوة المشتركة للمجموعة تحت البند السابع للأمم المتحدة، وهو ما يمنحها تمويلا دائما، مشيرا إلى أنه الخيار الذي "قاتلت" فرنسا من أجله قبل أن يجهضه تلويح أميركي باستخدام الفيتو (المنع) ضده، وهو الموقف الذي رفض كل المساومات والعروض الفرنسية.

صفقة الصلح

في مايو/أيار 2017 دخلت شركة "توتال" الفرنسية في قائمة الشركات الأجنبية المستفيدة من الغاز الموريتاني، بعد توقيع اتفاق مع حكومة البلاد للاستكشاف والإنتاج في مجال المحروقات، وسمح العقد الجديد للشركة باستغلال المقطع C7، الذي تبلغ مساحته 7300 كلم مربع.

ضغطت شركة "توتال" الفرنسية بقوة حتى لا تستبد شركات أنجلو/ساكسون بفوائد الغاز السنغالي-الموريتاني.

الصفقة جاءت بمثابة صلح بين البلدين اللذين شهدت العلاقات الثنائية بينهما على مدار السنوات الأربع التي سبقتها جفاء ملحوظا، بدأ مع قرار الرئيس الموريتاني السابق محمد ولد عبد العزيز الرافض للمشاركة في التحالف الذي تزعمته فرنسا سنة 2013 لطرد الجماعات الإسلامية المسلحة من شمال مالي.

وهذا في الوقت الذي كانت فرنسا تُعول على الدور الموريتاني في هذه الحرب، انطلاقا من سابقة تنفيذ موريتانيا لعمليات عسكرية ضد هذه الجماعات في عمق الشمال من مالي بدعم من فرنسا ودون استئذان للحكومة المركزية بباماكو.

الكاتب والباحث في الشأن الإفريقي، سيدي ولد عبد المالك، أفاد بأن قرار ولد عبد العزيز كان من القرارات النادرة التي حظيت بإجماع شعبي وسياسي داخلي.

وزاد أنه بذلك أسس لمرحلة من القطيعة المتدرجة بين النظامين بعد أن كانت باريس أهم حلفائه، حيث ساهمت في تدعيم نظامه وإضفاء الشرعية عليه بعد انقلابه على الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله.

في المرحلة نفسها، يقول المحلل في مقال له: بدأت فرنسا بتوسيع وتنويع ودعم مبادرات ومجالات التعاون العسكري والأمني المتعلقة بمنطقة الساحل، عبر تكثيف التنسيق مع باقي الدول الأعضاء في مجموعة الخمسة بشكل مباشر.

وأدارت فرنسا الظهر لمؤسس المبادرة، موريتانيا، بعد أن وجدت نفسها عضوا غير مرغوب فيه بسبب اعتراض الأخيرة على انتسابها.

التوتر وصل إلى حد تصريح ولد عبد العزيز لبعض المنتخبين عن رفضه قبول رشوة من رجل الأعمال الفرنسي فينسان بولوري بقيمة 10 مليون يورو مقابل منحه صفقة تتعلق بميناء نواكشوط.

العداء يحاصرها

الناظم الأساسي في علاقات فرنسا بمستعمراتها القديمة يرتكز على ملفات محددة من أبرزها مجال التعاون العسكري والمصالح الاقتصادية.

وبقاء القوات الفرنسية في دول الساحل الخمس يعزز من نفوذها، وتحكم قبضتها في ظل الصراع الذي تخوضه قوى دولية للاستحواذ على الأسواق الإفريقية.

في مقال تحليلي نشرته وكالة الأناضول، قالت: إنها "حرب بلا أفق" تلك التي تخوضها فرنسا في الساحل الإفريقي منذ 2013، وبدل أن تطرد الإرهابيين والانفصاليين من شمال مالي، انتشرت التنظيمات الإرهابية في بلدان الساحل حتى وصلت إلى حدود كوت ديفوار، المطلة على المحيط الأطلسي.

هذا الأمر أصبح يقلق شعوب المنطقة، التي لم تُمحَ صور جرائم الاحتلال الفرنسي لبلدانها في حقب سابقة واستغلاله لثروات بلادهم، مما جدد الشعور العدائي تجاه القوات الفرنسية الموجودة في أرض غالبية سكانها مسلمون.

تجلى هذا الشعور من خلال مظاهرات معادية للوجود الفرنسي، الذي رافقه انتهاكات لحقوق الإنسان، وصلت إلى حد اتهام قوات إفريقية مدعومة من باريس بقتل مدنيين عزل.

لكن التكلفة المالية للحملة الفرنسية على الإرهاب في الساحل الإفريقي أصبحت مرهقة لباريس، وازدياد العداء الشعبي ضد جنودها يقلقها، وإن لم يصل إلى مرحلة يهدد فيها مصالحها.

العداء الشعبي لا يتركز في دول الساحل فقط بل في المغرب العربي أيضا، إذ دخل الشارع الجزائري خلال حراكه في مواجهة مباشرة مع فرنسا عندما رفض تدخلها في الشأن الداخلي.

وفي تونس، طالبت كتلة ائتلاف الكرامة -رابع الكتل البرلمانية- بـ"إصدار اعتذار رسمي وعلني من الدولة الفرنسية للشعب التونسي عن كل الجرائم التي ارتكبتها في حقه منذ العام 1881"، موضحة أن الاعتذار من شأنه أن يطوي هذه الصفحة السوداء من تاريخ الدولتين.

ثورة النخب

أفاد الدكتور ديدي ولد السالك، رئيس المركز المغاربي للدراسات، أن فرنسا تسعى منذ 2013 أن تعود للمنطقة بقوة كما كانت في عهد الاستعمار، وأن تصبح المنطقة مباشرة تحت نفوذها.

وأوضح في تصريح لـ"الاستقلال" أن باريس، تشعر بأن 3 مخاطر تحيط بها: أولاها منافسة من طرف الولايات المتحدة والصين، بعد أن أصبحت هذه القوى منافسا تجاريا وأمنيا وعسكريا للنفوذ الفرنسي التقليدي في الساحل.

أما ثاني ما يُشعر فرنسا بالقلق، فهو انتشار الإرهاب في هذه الدول، لأنه يهدد مصالحها الاقتصادية فيها. إذ تنتشر مشاريع فرنسا وشركاتها التي تنشط في مجال الذهب في مالي، مثلا، وإن كانت مخفية، ثم مشاريع اليورانيوم في النيجر. 

وقال ولد السالك: "تعتبر هذه الدول محميات فرنسية، كلما تزايد الإرهاب فيها، زاد التهديد على المشاريع الفرنسية".

العامل الثالث الذي يُقلق باريس، هو أن النخب المثقفة في غرب إفريقيا أصبحت تعي وتتحرك للتخلص من النفوذ الفرنسي.

وأوضح أن هذه النخب تعتبر  أن فرنسا أينما حلت تجر معها 3 مشاكل، فهي تحاول بسط نفوذ مشابه للذي كانت تفرضه أيام الاستعمار في أي دولة إفريقية توجد فيها. 

كما أنها تسعى لإحلال ثقافتها محل ثقافة هذه الدول، وتزيد تمزيق هوياتها، باعتبار أن عامل الهوية هو أقوى عوامل عدم الاستقرار في المنطقة.

وشدد المتحدث على أن "فرنسا تجلب معها الاستبداد حيثما وجدت، فهي داعم لكل الأنظمة الفاسدة والمستبدة في المنطقة، وكل الرؤساء الفرنسيين من شارل دو غول إلى ماكرون، يوفرون الحماية للمدافعين عن فرانس أفريك"، وهو الاتحاد الذي أنشئ للحفاظ على السيطرة الفرنسية المطلقة على إفريقيا حتى بعد الخروج منها عسكريا.

تعتبر هذه النخب أن الوجود الفرنسي هو سرطان ينخر في جسم هذه الدول، وأنها لن تتقدم ما لم تتخلص من هذا النفوذ. 

بدعم من الاستبداد

واستقرأ ديدي ولد السالك من استدعاء ماكرون لرؤساء مجموعة الخمسة في قمة "بو" بداية 2020، "القلق من ما يحدث على مستوى هذه الفئة".

وقال لـ"الاستقلال": إن الرئيس الفرنسي بدأ يشتغل بدبلوماسية مباشرة ليعيد لفرنسا علاقاتها، ويحاول تصحيح الصورة نسبيا بالحضور في القمم وكأنه داعم لهذه الدول للتخلص من الإرهاب ومعالجة مشاكل التنمية.

بينما جوهر الحقيقة، بحسب السالك، أن هذه المشاكل ستبقى ما بقيت فرنسا في هذه الدول، وتتفاقم لأنانية وسوء السياسات الاستعمارية في المنطقة.

المحلل لفت إلى أن هذا الوعي لا يزال منحصرا في دائرة النخب المثقفة فقط، ولم يؤثر بعد على صناع القرار، لكن فرنسا بدأت تستشعر وجوده وأنه يشكل خطرا على مصالحها.

وتستبق فرنسا الأحداث ساعية أن لا تحقق هذه الأصوات مطالبها، حتى لا تتمكن من التصدي لمصالحها القائمة على حساب هذه الدول وشعوبها وليس بشراكات متوازنة معها، وذلك بدعم من أنظمتها المستبدة.

ويجمع رافضو الوجود الفرنسي في كل دول المنطقة على أنه جزء من المشكلة وليس الحل. لكن يرى السالك أن الوعي أعلى في دول غرب إفريقيا منه في الدول المغاربية. 

وفي موريتانيا فإن فرنسا موجودة في كل المناحي، اقتصاديا وعسكريا وثقافيا وأمنيا، يفيد رئيس المركز المغاربي للدراسات، لكن الأهم بالنسبة لها أن تبقى ثقافتها مهيمنة، فهذه هي أداتها لتحقيق مصالحها الاقتصادية.

وأوضح أنها تولي توطيد بقائها الثقافي والأمني العسكري للحصول على مكاسب اقتصادية على حساب موريتانيا وبلدان المنطقة، وأن تبقى شركاتها، إذ تشتغل "توتال" على الاستكشافات النفطية، وتحاول أن تكون شريكا في استغلال آبار النفط والغاز خلال الأعوام المقبلة.