العراق.. ساحة واعدة لصراع النفوذ بين السعودية وإيران

مهدي محمد | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

مرحلة جديدة دشنتها السعودية للعلاقات مع الجار الشمالي العراق، شبهها مسؤولو المملكة بأنها ستكون "شارعا باتجاهين"، لتختتم الرياض عقودا من التوتر مع بغداد، ظلت موصومة بسعي صدام حسين إلى احتلال أجزاء من السعودية عقب غزو الكويت عام 1991، في توجه تباركه أو تحض عليه الولايات المتحدة، في ظل استخدامها للحليف القوي بالمنطقة ضد إيران خصمها اللدود.

تلك المعادلة تنقل الصراع الشرس على النفوذ مع إيران في المنطقة إلى ساحة جديدة، لكن ثمة اختلاف في أبجديات المعركة الناشئة عن غيرها من محاولات سيطرة القوتين الإقليميتين، فضلا عن نفوذ إيراني متغلغل سياسيا وعسكريا وطائفيا في بغداد، قدمته واشنطن للمفارقة على طبق من ذهب لطهران عقب الاحتلال الأمريكي للعراق 2003 بينما غابت السعودية عن المشهد منذ ذلك التاريخ.

الاقتصاد كلمة السر

الاقتصاد كان المدخل لهذه المرحلة، حيث وجه العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبدالعزيز، ببناء مدينة رياضية في العراق كهدية للشعب العراقي، إضافة إلى تقديم منحة قيمتها مليار دولار "للمساهمة في تنميته لتكون المملكة شريكا أساسيا في نهضة العراق"، وفق تصريحات لوزير التجارة والاستثمار السعودي، ماجد القصبي، الذي يترأس رئيس وفد المملكة في اجتماعات الدورة الثانية لمجلس التنسيق السعودي – العراقي.

وفي أعقاب افتتاح القنصلية السعودية في بغداد، وقع البلدان حزمة من الاتفاقيات الاقتصادية ومذكرات التفاهم، أبرزها مذكرة ستقوم السعودية بموجبها بتزويد العراق بالطاقة الكهربائية، كما شملت عدة مجالات منها الطاقة والتعليم والصحة والتجارة وغيرها، ومن المقرر أن ينتهي العمل في منفذ عرعر الحدودي بين البلدين بعد 6 أشهر من الآن، فيما يمضي العمل قدما لبناء المدينة الرياضية.

لكن المثير في الموضوع، أن المرحلة التي قد تعتبر نقطة تحول في العلاقات بين البلدين، جاءت بعد فترة من الشد والجذب على المستوى السياسي والدبلوماسي، وصلت إلى حد تصريح مسؤول سعودي في أبريل/نيسان 2017 بأن "تعيين سفير سعودي جديد في بغداد هو أقصى ما يمكن توقعه على المدى القريب، أما الملفات الأخرى مثل فتح المنفذ الحدودي والاستثمارات وإلغاء الديون، فلا يمكن التفكير بها جديا في الوقت الحالي حتى يتم التأكد من سيطرة الحكومة العراقية على أسلحة المليشيات الطائفية وتحركاتها، وإثبات قدرتها على وضع حد للنفوذ الإيراني في العراق".

في هذا التوقيت، كان الحديث عن تدفق الاستثمارات السعودية إلى العراق حلم يراود حكومة بغداد القابعة تحت وطأة الأزمات المالية، ولم يترجم اجتماع دبلوماسي في الرياض، حينها، إلا بمجرد اتفاق على تشكيل مجلس تنسيق مشترك والامتناع عن التصريحات العدائية المتبادلة.

ورغم أن إيران تُتهم دوما بأنها دخلت العراق من الباب الطائفي، فإن اللعب على وتر الطائفية لم يغب عن أذهان ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الذي سعى في بداية ظهوره على الساحة إلى استقطاب بعض الشيعة العرب في العراق، والمعروفين بالاعتدال في علاقاتهم مع طهران، مثل مقتدى الصدر، الذي استقبله ابن سلمان في أواخر يوليو/تموز 2017.

وعلى عكس معظم التيارات الشيعية في العراق، لا يعتبر الصدر حليفا لإيران أو مقربا منها، بل اتخذ مؤخرا خط الانتقاد للتدخلات الإيرانية في العراق ضمن ما يسميها سياسة "النأي بالعراق عن لعبة المحاور"، وإبان الزيارة قيل إن هذا التقارب يأتي ضمن سياق خطة "استقطاب المد الشيعي العروبي في العراق الذي يمثله الصدر، وإحداث توازن معه ومع المد الشيعي الإيراني"، وبالتالي محاولة حصار التمدد الإيراني في العراق.

ورأى مراقبون، أن الاتجاه العام للصدر يتمحور حول السعي لإزالة الفكرة المأخوذة عن العراق بأنه بلد يدور في فلك إيران، وأن الصدر يخالف التوجه الإيراني في العديد من قضايا المنطقة ولا سيما الوضع في سوريا، كذلك يرفض سعي إيران لتقوية شوكة "الحشد الشعبي" على حساب القوات التابعة للحكومة، وطالب مرارا بحل الحشد ودمجه بالقوات الرسمية عند انتهاء الحرب ضد تنظيم الدولة.

إستراتيجية القوة الناعمة

لكن يبدو أن التوجه السعودي الجديد نحو العراق لم يكن وليد اللحظة، بل سبق ذلك بنحو عام، وفق تقرير نشرته مجلة "الإيكونوميست" البريطانية في مارس/آذار 2018، أكد أنه بعد عقود من القطيعة يبدو أن السعودية قررت العودة مرة أخرى من باب الاقتصاد، مدللا على ذلك بافتتاح عملاق البتروكيماويات السعودية "سابك" مكاتب في بغداد، واستئناف رحلات جوية مباشرة، فضلا عن تعهدات المملكة بمؤتمر إعمار العراق في الكويت قبلها بشهر بمليار و500 مليون دولار منح وقروض للعراق.

التقرير قال، إن مسألة التقارب مع العراق لم يكن سهلا على السعوديين الذين تلقوا تهديدات باحتلال بلادهم من بغداد في عهد صدام، فضلا عن اضطرابات مستمرة على حدود البلدين بسبب انتشار الميليشيات الشيعية، غير أن تلك الأمور أصبحت هينة ويسيرة النسيان بسبب إستراتيجية الولايات المتحدة القائمة على دفع دول الخليج نحو التصعيد ضد إيران.

وبينما ترجمت السعودية تعهداتها بعد عامين، لم يكن لإيران أية تعهدات شفهية أو حتى واقعية، الأمر الذي عبر عنه مسؤول عراقي تحدث لـ"الإيكونوميست" قائلا: "بعدما فشلوا أمامها في القتال، يريد السعوديون حاليا التفوق في الإنفاق"، في إشارة إلى ما يقال بشأن دعم الرياض لبعض التنظيمات السنية المسلحة في مواجهة نظيراتها الشيعية بالعراق.

ليس بالمال فقط، لكن بالقوة الناعمة تسعى السعودية إلى تقوية نفوذها بالعراق في مواجهة النفوذ الإيراني، ففي بلد يقترب فيه الشيعة من نصف عدد سكانه، رأت إيران أن تدخلها يكون بتكريس الطائفية واستمالة الشيعة، بينما تريد السعودية استعادتهم مرة أخرى عبر إعادة إحياء الهوية العراقية العربية، وجعل العراقيين يواجهون إيران الفارسية.

وأشارت المجلة في تقريرها، إلى ثمة تركيز أكبر من المستثمرين السعوديين على مدينة البصرة الأغنى في العراق، مشيرة إلى أن المسؤولين العراقيين يأملون أن يمول السعوديون مشروعات طرق ويعيدون استخدام أنابيب نفطية، كانت حتى عام 1990 توصل النفط العراقي إلى البحر الأحمر، فيما تستغل الرياض بمعركتها تذكير العراقيين بسنوات الحرب مع إيران في ثمانينيات القرن الماضي، حيث يرى عدد كبير منهم أن التدخل الإيراني في بلادهم نوع من الاستعمار.

نفوذ اقتصادي إيراني

وبينما تراقب إيران محاولات السعودية تقوية روابطها الاقتصادية بالعراق، تركز بصورة مطردة على تأمين وصولها إلى السوق العراقية، ثاني أكبر مستورد للسلع الإيرانية غير النفطية، لتعويض الخسائر التي مُنيت بها في تعاونها الاقتصادي مع العراق منذ تنظيم استفتاء الاستقلال الكردي في سبتمبر/كانون الأول 2017، عندما عمدت إلى إغلاق المعابر الحدودية مع إقليم كردستان العراق، وفق دراسة نشرتها مؤسسة "كارنيجي" للسلام الدولي في مايو/أيار الماضي.

وفقا لمنظمة تنمية التجارة الإيرانية، ازدادت القيمة الإجمالية للصادرات الإيرانية غير النفطية إلى العراق، بنسبة 13 بالمئة لمدة عام من مارس/آذار 2017 وحتى عام 2018، بالمقارنة مع الأشهر نفسها في العام السابق، لكن بعد الاستفتاء الكردي، تراجع معدل النمو السنوي.

وبحسب الدراسة، فإن الانسحاب الأمريكي من خطة العمل المشتركة الشاملة سيتسبب على الأرجح بتراجع العائدات الإيرانية من صادرات النفط الخام والتجارة الخارجية، يدفع بطهران ليس فقط إلى التعويض عن خسائرها التجارية من خلال إقليم كردستان العراق، إنما أيضا إلى ممارسة مزيد من التأثير الاقتصادي في العراق وخارجه.

من السبل التي تلجأ إليها إيران لتعزيز دورها الاقتصادي في العراق تمويل جهود إعادة الإعمار، حيث يمكن أن تؤدي صناعاتها غير النفطية دورا مهما، وعلى الرغم من أن الوفد الإيراني لم يتعهد بتقديم مساعدات في مؤتمر إعمار العراق بالكويت فبراير/شباط 2018، إلا أن نائب الرئيس الإيراني، إسحاق جهانغيري، تعهد بتقديم خط ائتماني بقيمة 3 مليارات دولار لإعادة إعمار العراق خلال زيارة قام بها إلى بغداد في مارس/آذار الذي تلاه.

وبجانب الخروج من الأزمة المالية، تسعى طهران إلى الإنفاق على مخططات اقتصادية من شأنها المساهمة في الحفاظ على نفوذها في العراق عبر المساعدة على إنشاء مؤسسات اقتصادية مرتبطة بالميليشيات الموالية لها داخل قوات الحشد الشعبي، مثل عصائب أهل الحق، وحركة حزب الله النجباء، فضلا عن تطوير برامج الرعاية القائمة، وتأمل إيران في ذلك بتكرار تجربة "الباسيج"، أي الجناح التطوعي شبه العسكري في الحرس الثوري، الذي أدى دورا كبيرا في عملية إعادة الإعمار الداخلية بعد الحرب الإيرانية- العراقية من خلال منظمة "جهاد سازندكي" الشهيرة.

ولقوات الباسيج، التي استوحيت منها هيكلية قوات الحشد الشعبي العراقية، مكون اقتصادي مهم يتيح لها التمتع باكتفاء اقتصادي أكبر، ما يجعلها أكثر قدرة على الصمود في مواجهة النظام الاقتصادي العالمي الخاضع لسيطرة الولايات المتحدة، وعلى غرار تجربة حزب الله في لبنان، أنشأت القوات شبه العسكرية الموالية لإيران مؤسسات صغيرة في العراق، لا سيما مؤسسة "شهداء أهل الحق" التابعة لعصائب أهل الحق، والتي تؤمّن المساعدات لعوائل عناصرها الذين يلقون مصرعهم في المعارك.

لكن على عكس لبنان، فإن العراق الغني بالنفط يتيح إمكانية أن تعمد الأجهزة الحكومية إلى التعاقد مع هذه المؤسسات من الباطن لإنجاز مشاريع، ما يساهم في تعزيز حجمها وإمكاناتها، وعلى المدى الطويل، تأمل إيران بأن تتيح "الطاقات الاقتصادية العالية" التي يتمتع بها العراق، نظرا إلى موارده النفطية، وأهميته الثقافية، وحاجته إلى إعادة الإعمار، للمنظمات الإيرانية ممارسة القوة الناعمة عن طريق استخدام خبراتها التقنية لتوسيع الانخراط الاقتصادي للكيانات التابعة لها.

وتأمل إيران بأن تتمتع هذه الكيانات، بسطوة أكبر تتيح لها التأثير في السياسة الاقتصادية لمصلحة المصدرين والمستثمرين الإيرانيين، على حساب شركات دولية أخرى لا تخوض معها الشركات الإيرانية منافسة فعلية في السوق في الوقت الراهن، بحسب دراسة "كارنيجي".

ولعل تعزيز الاستثمارات وزيادة الصادرات الإيرانية في السوق العراقية، وتوفير مزيد من الفرص للمؤسسات والشركات المرتبطة بالحرس الثوري و"الباسيج" يُفضي في النهاية إلى تعزيز التأثير الإيراني غير العسكري في البلاد.

هيمنة طهران في غياب الرياض

التنافس المحموم الآن بين السعودية وإيران على نفوذ من باب الاقتصاد في العراق، يثير شجونا عن بلاد الرافدين، وتساؤلات مفادها أين كانت السعودية عندما استلمت إيران العراق على طبق من ذهب عقب الاحتلال الأمريكي عام 2003، ومن ثم تمددت حتى ابتلعت دولة كان مجرد ذكرها يسبب الرعب لـ"نظام الملالي"؟

صحيفة "نيويورك تايمز" قالت في تقرير لها نشرته في يوليو/تموز 2017، إن إيران هيمنت على العراق بعد أن غادرته القوات الأمريكية، وأوضحت بالتفصيل أن هذه الهيمنة تتجسد في كل شيء ابتداء من البضائع الاستهلاكية على أرفف المتاجر وشركات الأعمال وتكوين المليشيات الموالية لها، وحتى تعيين رئيس الحكومة ووزرائها، مضيفا أن "إيران كانت ترى في العراق ومن اليوم الأول للغزو الأمريكي 2003 فرصة لأن يصبح دولة تابعة لها وجسرا مهما لنشر نفوذها على المنطقة".

سياسيا، نجحت إيران في توثيق روابطها مع الحكومات العراقية المتوالية منذ الغزو، وتمكنت من ذلك تماما عن طريق أذرعها السياسية التي تلاعبت بالعملية السياسية برمتها ونجحت في الهيمنة على مراكز صنع القرار في بغداد مبكرا.

اقتصاديا، تعد إيران المسيطر الأول على الاقتصاد هناك، وأحد أكبر الشركاء التجاريين للحكومة، حيث بلغ إجمالي تقديرات حجم التجارة بين البلدين نحو 12 مليار دولار في العامين 2013 و2014، واعتمدت طهران على العراق كسوق رئيسي لمنتجاتها المختلفة في مختلف القطاعات الاقتصادية والصناعية وقطاعات الاستثمار والسياحة الدينية والقطاعات التجارية.

عسكريا، تشير تقارير غربية إلى دور فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني في إدارة المشهد العسكري في العراق، حيث دعمت طهران في البداية "فيلق بدر" بقيادة هادي العامري، ثم وسعت من دعمها ليشمل جيش المهدي التابع لمقتدى الصدر، ولتظهر كتائب فرعية جديدة كعصائب أهل الحق وحزب الله العراقي، وفق التقرير.

وعقب الانسحاب الأمريكي من العراق عام 2011 اختفت بعض هذه المليشيات؛ لكنها ظهرت فجأة بعد سيطرة تنظيم الدولة على مدينة الموصل، حتى ظهرت مرة أخرى متحدة تحت لواء "الحشد الشعبي" الذي تقدر أعداده بـ 100 ألف متطوع مدعومين إيرانيا، لديهم القوة والإمكانيات التي مكنتهم من الصمود أمام تنظيم الدولة أكثر من الجيش العراقي المسلح أمريكيا.

وعلى صعيد أجهزة الأمن والاستخبارات، تحدث البعض عن وجود 7 وكالات في وزارة الداخلية تتبع أحزابا تدين بالولاء لإيران، كما تدين قطاعات من الجيش العراقي لرجال إيران في الحكومة العراقية.

وتبدو بعض الأهداف الإستراتيجية لإيران في العراق، أبرزها الاستحواذ على الفاعلين السياسيين لضمان ولاء حكومة بغداد لاستخدامها في المقايضات الإقليمية، كما تستهدف إيران السيطرة على العراق بالصورة التي لا تسمح بقيام عراق مهدد لإيران مجددا كما كان في السابق، وتذليله كسوق خلفية لإيران وانطلاقها الاقتصادي، كما تسعى إيران إلى السيطرة على المشهد العسكري بالكامل عن طريق المليشيات المختلفة المتدربة والممولة من فيلق القدس؛ لتمنع قيام أي قوة عسكرية أخرى خارج نطاق نفوذ إيران، بحسب مراقبين.

وأكدوا أن ثمة هدف آخر، وهو السيطرة الدينية على شيعة العالم بمحاولة تحجيم دور مرجعيات "النجف" العربية في العراق؛ كي تبقى مرجعية "قم" الفارسية في إيران هي المرجعية الأولى والمسيطرة على المشهد الشيعي العالمي.