"الصليب الأحمر" وإبادة غزة.. وساطة إنسانية أم انحياز لإسرائيل؟

تثار تساؤلات جوهرية اليوم حول مدى حيادية المنظمة الدولية
منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، أصبحت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في عين العاصفة، بعد اتهامها بممارسة ازدواجية المعايير واتخاذ مواقف مشبوهة، قرأها كثيرون على أنها انحياز واضح لصالح تل أبيب.
وتفاقمت هذه الانتقادات خلال عمليات تبادل الأسرى والجثث في إطار اتفاق وقف إطلاق النار، حيث لمس الفلسطينيون تباينا واضحا في تعامل المنظمة مع الضحية والجلاد، ما عزز الشكوك حول مصداقيتها ودورها الإنساني.
وتعرّف اللجنة نفسها على أنها "منظمة محايدة ومستقلة تضمن الحماية والمساعدة في المجال الإنساني للمتضررين من النزاعات المسلحة وحالات العنف الأخرى". غير أن العدوان الأخير على غزة كشف زيف هذا الادعاء، حيث أظهر تباينا واضحًا في تعاملها مع الأطراف المتضررة.
وتتلقى اللجنة دعمها من الدول الأطراف في اتفاقيات جنيف (الحكومات)، ومن الجمعيات الوطنية للصليب الأحمر والهلال الأحمر، ومن منظمات فوق وطنية (مثل المفوضية الأوروبية)، ومن مصادر عامة وخاصة.
وفي ظل تصاعد هذه الاتهامات، تثار تساؤلات جوهرية حول مدى حيادية المنظمة الدولية، وما إذا كانت قادرة على أداء مهامها الإنسانية بنزاهة، بعيدا عن الضغوط السياسية والتوازنات المفروضة على الأرض.

تسلم الجثث
وعاد النقاش حول دور المنظمة بعد تسلمها أول دفعة من جثث الأسرى الإسرائيليين بغزة، في 20 فبراير/شباط 2025 ضمن المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار، والمكون من 3 مراحل.
ووضعت المقاومة الفلسطينية جثة كل أسير إسرائيلي في تابوت أسود يحمل صورته واسمه وتاريخ أسره ومقتله وسلمتها للصليب الأحمر.
لكن كان من اللافت بعدها، تغطية الصليب الأحمر كل تابوت أسود بقماش أبيض نظيف وتخصيص لكل واحد منها سيارة دفع رباعي لنقلها إلى إسرائيل.
وكان لافتا كذلك حرصه على عدم رؤية الجماهير الفلسطينية للتوابيت وعزلها بعوازل بلاستيكية بيضاء أثناء عملية تغطيتها ومنع تصويرها مراعاة لحرمة الميت.
ومثلت هذه الصورة الأخيرة شكلا فجا من التمييز والازدواجية، حيث عهد على الصليب الأحمر لف جثامين الشهداء الفلسطينيين بأكياس زرقاء وتكديسهم في شاحنات كبيرة لنقل البضائع وتركها في باحات المستشفيات أو قرب المقابر الجماعية دون بذل جهد للتعرف على هوياتهم.
وعلق مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي بغزة إسماعيل الثوابتة قائلا: “بينما يُجري الصليب الأحمر مراسم رسمية مُهيبة عند تسلُّم جثث الأسرى الإسرائيليين، يُسلِّم جثامين الشهداء الفلسطينيين في أكياس زرقاء تُلقى داخل شاحنات تفتقر لأبسط مقومات الكرامة الإنسانية”.
وتابع في تغريدة على إكس أن “هذا التمييز الصارخ في التعامل يعكس ازدواجية المعايير ويفضح العجز الدولي عن تحقيق العدالة والإنصاف!”.
فيما قال الإعلامي الفلسطيني باسل النيرب: “الصليب الأحمر الدولي مشارك في عنصرية الموت، سلمنا أجساد شهداء فلسطين بأكياس زرقاء دون مراعاة مشاعر أحد؛ وتسلم جثث الصهاينة بصناديق مغطاة وستر الصناديق السوداء برداء أبيض، ومنع الجمهور من التلصص على التوابيت!!”.
وعلق الصحفي الغزي ضياء الكحلوت بالقول: “رمت إسرائيل جثامين عشرات الفلسطينيين بعد أن سرقتهم من مقابر غزة للفحص أمام بوابات معبر كرم أبو سالم في أكياس بلاستيكية زرقاء من دون أسماء ولا مكان المقبرة المسروقة ولم يكن للصليب الأحمر دور في الأمر”.
واستدرك: “اليوم يقوم الصليب الأحمر بكل ما يلزم وزيادة من أجل الإسرائيليين الأربعة الذين قتلهم الجيش الإسرائيلي وقبل ذلك يصدر بيانا يطلب احترام الجثامين. ازدواجية غير مستغربة وأمة غارقة في المقاربات”.
وبعد حالة من الجدل بشأن دورها، قالت اللجنة الدولية للصليب الأحمر، في 21 فبراير 2025 إنه "في جميع الحالات التي يُقتل فيها أشخاص أو يفارقون الحياة أثناء النزاعات، يجب أن تُعامل جثامينهم باحترام".
وأكدت “حق العائلات في معرفة مصير أحبائها، وأن تنفذ مراسم دفنهم بطريقة تكفل صون كرامتهم، وتراعي تقاليدهم المُتبعة"، لكنها لم تطبق ذلك عمليا.
وشددت على ضرورة "انتشال الرفات وإدارته على نحو لائق وتحديد هوية أصحابه للمساعدة في منع المآسي المتعلقة بالأشخاص المفقودين من جراء النزاع المسلح".
وأصرت اللجنة الدولية أكثر من مرة على حيادها قائلة إن تصعيد العنف في إسرائيل والأراضي الفلسطينية أدى إلى "انتشار لغة مهينة ومعلومات كاذبة ومضللة عن الصليب الأحمر وعملنا في الصراع الحالي".

ملف الأسرى
وإلى جانب الجثث، تحضر دائما قضية تعامل الصليب الأحمر مع ملف الأسرى والمحررين في سجون الاحتلال، فضلا عن المفرج عنهم من الإسرائيليين من قطاع غزة.
فخلال الهدنة القصيرة في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، والتي جرى خلالها تبادل عدد محدود من الأسرى الفلسطينيين والإسرائيليين، برزت ازدواجية أخرى لدى المنظمة الدولية.
وكانت طواقم الصليب الأحمر تستقبل الإسرائيليين المفرج عنهم بالأحضان والابتسامات، مع إبداء اهتمام كبير بهم، وهو ما لا يحدث مع المحررين الفلسطينيين.
ونشر الصحفي الفلسطيني معاذ حامد على إكس مقطع فيديو لاحتضان طاقم المنظمة الدولية للإسرائيليين المفرج عنهم، معلقا: “اعتقلتني إسرائيل عندما كنت طفلا 6 مرات، دوما زارني الصليب الأحمر على انفراد. وفي حياتي كلها لم يقم أحد منهم بمعانقتي”.
وأردف: “لم تتجاوز تحياتهم المصافحة. لكن هنا نشاهد أحضانا جماعية من الصليب للإسرائيليات المفرج عنهن من غزة”.
وإلى جانب ذلك، لم يعمل الصليب الأحمر على زيارة أي من الأسرى الفلسطينيين منذ 7 أكتوبر، رغم تعرضهم لقمع وتنكيل مضاعف بعد انطلاق عملية طوفان الأقصى.
ووفق مصادر محلية، لم تعمل المنظمة كذلك على تسهيل أي زيارات لذوي الأسرى إلى السجون أو إصدار توضيحات عن أسباب ذلك، وظلت صامتة منذ 7 أكتوبر.
ويأتي ذلك على الرغم أن من أنشطة المنظمة الأساسية “زيارة المحتجزين في مرافق الاحتجاز الإسرائيلية والفلسطينية” وتأكيدها عبر موقعها الإلكتروني أنها "لا تألو جهدا في الحفاظ على الروابط العائلية من خلال برنامج الزيارات العائلية".
وخلال الأعوام السابقة وأبرزها سنة 2012، واجه الصليب الأحمر اتهامات بتجاهل أوضاع الأسرى الفلسطينيين الذين أضربوا عن الطعام في ذلك الوقت.
وفي عام 2016، ظهرت أزمة جديدة بين المنظمة وعائلات الأسرى المقدسيين حين قرر الصليب الأحمر تقليص خدماته لذوي المعتقلين خلال زياراتهم السجون مرة أو مرتين شهريا.
وهو ما اضطر الأهالي حينها إلى تسيير حافلات تقلهم إلى السجون على نفقاتهم الخاصة بعد امتناع المنظمة الدولية عن الاستماع إلى شكاوى ذوي الأسرى.
وأكثر من ذلك، قال يوسف المبحوح الأسير المحرر في 8 فبراير 2025 ضمن الصفقة الجارية: “تعرضنا للضرب (من القوات الإسرائيلية) بوجود الصليب الأحمر قبل الإفراج عني، أنتم مؤسسة حيادية، ما هو عملكم؟”
تجاهل المحاصرين
ولم تكن حادثة الجثث وعدم الاكتراث بالأسرى القضايا الأولى من نوعها، التي أثارت الريبة حول أدوار الصليب الأحمر، حيث اختفت طواقم المنظمة الدولية خلال 15 شهرا من عمليات الإبادة الجماعية في غزة.
وسرد الفلسطينيون عشرات الشهادات حول تواصلهم مع المنظمة خلال تعرضهم للحصار من قبل الآليات العسكرية الإسرائيلية وطلبهم للإنقاذ لكن دون استجابة.
واستذكر الغزيون هنا حادثة مستشفى "النصر" للأطفال غرب مدينة غزة والتي اقتحمها جيش الاحتلال في 10 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، وأجبر الطواقم الطبية فيها على المغادرة تحت ترهيب السلاح.
ووقتها رفض الاحتلال إجلاء الأطفال الخدج إلى خارج المستشفى، ما تسبب في وفاة 5 منهم، وفق ما أوردته وزارة الصحة آنذاك.
وبعد انسحاب الجيش من حي "النصر" عُثر على جثث الخدج الخمسة متحللة داخل الحضانات وعلى أسرة المستشفى بعدما فرض عليهم الجيش الإسرائيلي الانقطاع عن العلاج اللازم لبقائهم على قيد الحياة.
ودعا المركز الأورومتوسطي لحقوق الإنسان وقتها إلى مساءلة الصليب الأحمر بتهمة التقصير في الاستجابة لنداءات إنقاذ أرواح الأطفال.
وتعهد الصليب الأحمر وقتها بإنقاذ الأطفال لكنه عاد وأصدر بيانا برر فيه عدم قدرته على فعل ذلك بسبب الظروف الأمنية في شمال القطاع.
وعلق الناشط الغزي تامر قديح على الحادثة بالقول: "لطالما اتصلت بالصليب الأحمر عائلات محاصرة طلبًا للإنقاذ، فتركوهم للموت.
وأردف في تغريدة على إكس: “المنظمات الإنسانية (الدولية)، في واقع الأمر، تقيس إنسانيتها حسب الدين واللون والجنسية، منظمات العنصرية”.
فيما قال عبد المجيد بن رشيد: “أتذكرون حين خان الصليب الأحمر أطفال غزة الرُضّع؟! جيش الاحتلال أجبر الأطباء والعائلات على مغادرة المستشفى تحت تهديد السلاح... وعدوا بإنقاذهم ثم خانوا البشرية!”.
وتابع في تغريدة: “تركوهم يموتون ببطء على أسِرّتهم الصغيرة... يتحللون جوعاً وخوفاً! دماؤهم على جبين كل خائن سكت!”.
وخلال العدوان على غزة عام 2014، واجه الصليب الأحمر أيضا اتهامات بتجاهل استغاثات سكان حي الشجاعية شرق المدينة.

"ازدواجية تامة"
ويقول مدير الشؤون القانونية والسياسات في منظمة سكاي لاين الدولية لحقوق الإنسان محمد عماد: إن “المراقب عن كثب يشعر بالريبة والاستغراب لموقف الصليب الأحمر خلال الحرب”.
وفي حديث لـ"الاستقلال"، وتطرق عماد إلى عدة شواهد أولها أنه “عندما حاصرت قوات الاحتلال المنازل والأسر في غزة وتصاعدت الاستغاثات من الأهالي والمستشفيات، كان دور الصليب الأحمر سلبيا وغير مفهوم”.
وتابع أنه “لم يكن هناك تواصل بشكل مباشر مع الأهالي لطمأنتهم وإعطائهم أجوبة شافية بشأن الخروج عبر طرق آمنة”.
كما “لم يكن هناك تواصل من الصليب الأحمر مع إسرائيل للضغط على الأقل فيما يتعلق بالحالات الإنسانية في المراكز الصحية والمستشفيات، وما جرى في مستشفى النصر خير دليل”.
والشاهد الثاني بحسب عماد، “موقف الصليب الأحمر ودوره في عمليات التبادل، حيث يفترض أن يلعب دور الوسيط كجهة إنسانية محايدة خلال النزاعات المسلحة”.
لكن “ما وجدناه لم يعكس هذه الإنسانية أو الحيادية في التعامل بين الطرفين، فقد تعامل الصليب الأحمر بدقة واحترافية وإنسانية مبالغ فيها مع الجثث الإسرائيلية لكن لم يكن هناك أي احترام لنظيرتها الفلسطينية وجرى وضعها بأكياس وإلقائها”، يقول عماد.
وأكد على أن دور هذه المنظمة خلال العدوان أظهر أنها “مثل باقي المؤسسات الدولية سواء كانت إنسانية أو حقوقية، تقف في موقف المتفرج”.
والأخطر من ذلك “أنها كانت في بعض الأحيان تقف موقف الداعم لإسرائيل بشكل غير مباشر عبر عن الصمت عن انتهاكاتها للقانون الدولي والإنساني”.
وشدد على أن “الصليب الأحمر الذي يحكمه القوانين الدولية واتفاقيات جنيف لا سيما فيما يتعلق بالأسرى، كان حري به الضغط على السلطات لإجراء تسليم لائق يحفظ الكرامة الإنسانية للجثث الفلسطينية”.
وتابع: “كان حري به أن يتخذ موقفا أكثر جدية وإنسانية ومهنية وأخلاقية في التعامل بين الطرفين لو افترضنا أنه سيكون محايدا بينهما بغض النظر عن التقديرات السياسية”.
لكنه يؤكد على أن “ما جرى من تجاهل لاستغاثات الأهالي وخلال عمليات تبادل الأسرى والجثث، خرج عن إطار الحيادية والإنسانية ويعكس ازدواجية تامة في التعامل بين الطرفين”.