خضوع القضاء للسيسي.. كيف ساهم في تراجع مؤشر العدالة بمصر؟ 

12

طباعة

مشاركة

بعد أن تعرضت السلطة القضائية لتدخلات خشنة من قبل نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، منذ انقلابه على الرئيس المنتخب محمد مرسي، مطلع يوليو/ تموز 2013، تركت الإدانات الدولية والإقليمية التي صدرت تجاه الأحكام القضائية الصادرة بعد الانقلاب وحتى الآن، أثرها بشدة على سمعة القضاء المصري دوليا وإقليميا. 

واستقرت مصر على مؤشر "مشروع العدالة العالمیة" الصادر في يونيو/حزيران 2020 في مؤخرة ترتيب دول الشرق الأوسط، وفي المرتبة الـ125 من بين 128 دولة على مستوى العالم، بانخفاض 5 نقاط سنويا منذ عام 2016، متخلفة بذلك عن أفغانستان وكمبوديا. 

وأظهر المؤشر تراجع مصر في جميع فروع التقييم فاحتلت المرتبة الـ125 في سيادة القانون، والـ126 في خضوع الحكام للقانون، والـ127 في إتاحة الحقوق الأساسية للمصريين، والـ123 في وجود آليات نظامية للدولة، والـ128 (الأخيرة) في انفتاح الحكومة على المواطنين وإتاحة المعلومات الأساسية لهم عن دولتهم. 

ويقيس "مشروع العدالة العالمیة" World justice Project ويرمز له بالحروف (WJP)، سيادة القانون بناء على استطلاعات رأي تشمل حوالي 120 ألف شخص، وآراء 3800 خبير قانوني. 

وإلى جانب تدخلات السيسي، يشارك بعض القضاة في التنكيل بالخصوم السياسيين فيما سمي بظاهرة "التطوع القضائي في خدمة السلطة".

فما هي أسباب تدهور أداء الهيئات القضائية الرئيسية خلال السنوات الماضية من حكم "السيسي"، وتدني مستوى وسمعة العدالة في مصر إلى هذا القاع؟

السلطة المطلقة

سلطات حكومية مطلقة، فوق المساءلة أو المقاضاة أو حتى النقد، هذا ما سعى إليه "السيسي" منذ استيلائه على الحكم، حيث ألغى أي رقابة على قراراته، وحظر الاحتجاجات، وسن القوانين الصارمة المعوقة لأنشطة المنظمات غير الحكومية، وأغلق وسائل الإعلام المنتقدة له، حتى الأزهر، المؤسسة الدينية الأرقى في العالم الإسلامي، لم يسلم من الضغوط".

مجلة إيكونوميست البريطانية سلطت في مايو/أيار 2017، الضوء على إخضاع السيسي القضاء لسلطته، بإصدار مجلس النواب قانونا يسمح له بتعيين رؤساء الهيئات القضائية.

وقالت المجلة: "بدا السيسي رافضا للإجراءات القضائية الطويلة، وأزعجه الاستقلال الذي يتمتع به القضاء، ومعارضته له في بعض الأحيان، سيما بعد أن ألغت محكمة النقض أحكاما بالإعدام لأعضاء من جماعة الإخوان المسلمين، ما جعله يفرض سيطرته لإخضاع المحاكم، بمساعدة من البرلمان التابع له".

فبعد سحقه للتجربة الديمقراطية في النصف الثاني من عام 2013، ظل النظام الجديد المدعوم من الجيش، يقضم من استقلال القضاء، إلى أن أظهرت قضية جزيرتي تيران وصنافير (أقر السيسي بتبعيتهما للحليف السعودي في 2016 وأقر البرلمان ذلك بعدها بشهور مما أثار غضبا مصريا) وجود جيوب قضائية مقاومة ممثلة في مجلس الدولة والقضاء الإداري. 

وبعدها قرر السيسي السيطرة الكاملة على القضاء عبر هذه التعديلات التي أنهت عرفا قضائيا ظل راسخا لعقود، بقصر سلطة الرئيس على اعتماد تعيين من يرشحه القضاة أنفسهم بحسب الأقدمية. وهو ما يعني عمليا انتقال سلطة الاختيار والاستبعاد إلى الجهات الأمنية والاستخباراتية التي تقدم تقاريرها للرئيس بشأن كل مرشح محتمل.

كما نجح "السيسي" في تكوين "ذراع إعلامية" داعمة لسلطته المطلقة، بالتوازي مع تشكيل "دوائر الإرهاب" التي أسندت للقضاة الأشرس في الولاء والأكثر تعطشا للبطش والتنكيل. 

لا حرية ولا أمان

في ظل غياب حرية التعبير والخصوصية والأمان الشخصي وحقوق العمال وحق المحاكمة العادلة، لاحقت الاتهامات الهزلية الجميع على مدى السنوات السبع الماضية، سواء ما تعلق منها بالرموز السياسية أو المواطنين العاديين. 

ومن ذلك، الاتهامات التي وجهت للرئيس المنتخب محمد مرسى، بالتخابر مع جهات أجنبية، والهروب من سجن وادي النطرون إبان أحداث الثورة، ونهب محتوياته من المواشي والدواجن. واتهام د. محمد محسوب، وزير الدولة الأسبق للشؤون القانونية، بالنصب والاحتيال وتشكيل تنظيم عصابي وحرق شقق سكنية بمنطقة مدينة نصر.

كما شُنت حملات مسعورة ضد كل من يحمل "شعار رابعة" أو يلوح به، بعد أن أصبح يذكر النظام بمذابحه الجماعية، حتى وصل الأمر إلى حبس طالب بمحافظة كفر الشيخ لحيازته مسطرة تحمل شعار رابعة. 

واعتقلت طبيبة من محافظة الدقهلية لحيازتها دبوس يحمل نفس الشعار .وألقي القبض على موظف بأسيوط بتهمة تلويحه بإشارة رابعة إلى طائرة حربية محلقة في الجو. وصدر قانون يجرم استخدام هذا الشعار على وسائل التواصل الاجتماعي.

وفي إطار الملاحقة والتلفيق والتحطيم، جرى القبض على طالب أثناء دخوله جامعة القاهرة بتهمة حيازة رواية "1984" للكاتب البريطاني جورج أورويل. كما اعتقل طالب آخر يدعى "حسن فريد" بتهمة حيازة روبوت مقاتل، بالرغم من تكريمه على اختراعه من قبل مركز البحوث. وهو نفس ما حدث مع أربعة طلاب بكلية الهندسة جامعة عين شمس، بتهمة حيازة إنسان آلي مسلح.

واعتقل آخرون لقيامهم بتصوير فيديو يسخر من النظامين المصري والسعودي على خلفية التنازل عن الجزيرتين. وطاردت الشرطة سائق توك توك لقيامه بتسجيل لقاء مع أحد مقدمي البرامج الفضائية ينتقد فيه الأوضاع المعيشية. 

وألقي القبض على مواطنين من محطات المترو لاعتراضهم على رفع أسعار التذاكر إلى 300% إلى آخر هذه الاتهامات الهزلية التي يلقى بها على الناس خوفا وارتباكا، أو لبث الرعب والخوف والهلع في نفوس الناس. 

العدالة الغائبة

وكشفت العدالة المدنية والجنائية الغائبة عن حجم ما وصل إليه القضاء المصري من انهيار كارثي صار محل استهجان عالمي. 

ومن ذلك، تبرئة الرئيس الأسبق حسني مبارك وأولاده ورجاله من رموز النظام القديم، سواء في قضايا قتل المتظاهرين و"موقعة الجمل" أثناء أحداث الثورة في 2011، أو في قضايا الفساد المالي التي تقدر بالمليارات.

كما لم يحصل أي ضابط أو مجند أو شرطي، على أية أحكام بالإدانة، بمن فيهم الضباط المتهمون في قضية "سيارة الترحيلات"، التي قتل فيها 37 من رافضي الانقلاب. 

بالتزامن مع ذلك، انهالت فيه الأحكام القاسية على المعارضين، حتى وصل الأمر إلى قيام محكمة بالمنيا بإصدار أحكام جماعية بإعدام أكثر من 600 شخص في غضون دقائق. ولم يسلم الناشطون الذين لا ينتمون لجماعة الإخوان من مفرمة الأحكام الجنونية.

وفي يوم 20 فبراير/ شباط 2019، أعدم 9 شبان بتهمة اغتيال النائب العام هشام بركات عام 2015، ما أثار موجة انتقادات دولية رسمية وحقوقية وصحافية، شككت في عدالة المحكمة، لافتة إلى رواية المتهمين في انتزاع الاعترافات منهم تحت التعذيب. 

وجاء الانتقاد الأكبر على لسان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي قال: "سيقول السيسي هذا قرار القضاء، حسنا السيسي هو من اختار القضاة هذه كل الحكاية، هناك استبداد تام، هذا نظام شمولي". 

وقد دافع "السيسي" أمام القمة الأوروبية العربية المنعقدة في مصر، عن أحكام الإعدام باعتبارها "وسيلة لأخذ حقوق ضحايا الهجمات الإرهابية بالقانون، وجزءا من ثقافة المنطقة وقيمها".

وتحدث تقرير لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" الحقوقية في عام 2018، عن انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان في مصر، بين أعوام 2014 إلى 2017، حيث حاكمت السلطات ما لا يقل عن 15500 مدني أمام محاكم عسكرية، بينهم أكثر من 150 طفلا.

كما اعتقلت 17 صحفيا حتى أكتوبر/تشرين الأول في 2018، وأوقف الأمن المصري 190 ناشطا سياسيا في أواسط يونيو/حزيران من نفس العام.

وما فتئت المنظمات الحقوقية الدولية توجه المرة تلو الأخرى انتقادات لاذعة لنظام السيسي، وتؤكد غياب شروط المحاكمة العادلة في القضايا المرتبطة بمعارضة النظام تحديدا، متهمة السلطة التنفيذية بالسيطرة على المؤسسة القضائية.

لا شفافية

الفساد المتغلغل في مؤسسات الدولة، أدى إلى تراجع ترتيب مصر في "مؤشر الفساد" الخاص بمنظمة الشفافية الدولية لعام 2016، لتحتل المركز 108 من بين 176 دولة بعدما كانت تحتل المركز 88 في عام 2015. 

كما أشارت منظمة الشفافية الدولية إلى أن النظام المصري تعدى خلال عام 2016 على الهيئات الرقابية المستقلة حين أقال رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات هشام جنينة، وأصدر حكما قضائيا بحبسه سنة مع وقف التنفيذ، بتهمة نشر أخبار كاذبة بعد أن قال إن حجم الفساد في البلاد بلغ 600 مليار دولار في السنوات الأربع الأخيرة، وفقا لوكالة رويترز.

كما أصدر برلمان "السيسي" قرارا بتشكيل لجنة تقصى حقائق حول تصريحات جنينة، أصدرت تقريرها بأنه قد "ضلل الرأي العام بأرقام مبالغ فيها عن الفساد"، لينتهي به المطاف في السجن بذريعة دعمه لأحد القيادات العسكرية التي ترشحت أمام السيسي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. 

أيضا وفي إطار التدليل على اعتماد الفساد كنهج سلكه النظام منذ استيلائه على السلطة وأضر كثيرا بسمعة مصر القانونية، تنازل نظام السيسي عن 7 مليارات ورد منهما مليارين دفعهما سابقا الملياردير ناصف ساويرس ضمن تسوية في قضية "التهرب الضريبي" جرت في عهد الرئيس "مرسي" ونصت على خفض 14 مليار جنيها إلى 7 مليارات.

كما تراجع مؤشر الحق في الحصول على المعلومات خاصة التي تختص بالجهات الحكومية، وحجبت السلطات المصرية أكثر من 425 موقعا بينها صحف مستقلة ومنظمات حقوقية منها "مراسلون بلا حدود". وفقا لمنظمة "هيومن رايتس ووتش".

وقادت سياسات السيسي القمعية إلى حالة من عدم الاستقرار وغياب الشفافية والمحاسبة نتج عنها أزمة اقتصادية خانقة أدت إلى هروب الاستثمارات الأجنبية من البلاد، وخسارة الجنيه المصري 60 % من قيمته، وارتفاع الدين الخارجي ليتجاوز 100 % من الإنتاج المحلي، إضافة إلى ارتفع معدل الفقر لأعلى سقف منذ 15 عاما، لتحتل مصر المرتبة الخامسة في "مؤشر البؤس العالمي".