بلا رئيس أو حكومة.. ثلاثة سيناريوهات للمشهد السياسي "الفوضوي" في لبنان

دخل لبنان، منذ 30 أكتوبر/تشرين أول 2022، مرحلة فراغ سياسي، بعد انتهاء فترة الرئيس ميشال عون، وعدم وجود مرشح رئاسي جديد قادر على حصد الأكثرية المطلوبة في البرلمان، أو حكومة دائمة يوافق عليها غالبية النواب.
زاد الأمور ضبابية، مواصلة عون الدفع باتجاه الفراغ السياسي في البلاد مع انتهاء عهدته الرئاسية، بإصدار مرسوم بحل الحكومة المؤقتة ليصبح لبنان بلا رئيس أو حكومة، ما أشاع أجواء من الغموض حول مستقبل البلاد وتعميق أزماتها.
"عون" اعترف قبل رحيله بيوم، لوكالة "رويترز" البريطانية، أن لبنان ينزلق إلى "فوضى دستورية".
عدم الاستقرار قد يزيد لبنان أزمات فوق أزماته ويصعد الصراع السياسي ذي البعد الطائفي بسبب الخلاف حول تعيين رئيس ورئيس وزراء وقد يودي بالبلاد إلى مزيد من المجهول.
ماذا جرى؟
تعمد "عون" ترك لبنان في فوضى، حين وقع مرسوما يعد حكومة نجيب ميقاتي مستقيلة، كي لا تتولى اختصاصاته، لأنه في حال شغور منصب الرئيس تؤول صلاحياته إلى مجلس الوزراء مجتمعا، وفق الدستور.
اعترف في رسالته للبرلمان أنه وقّع المرسوم لقطع الطريق أمام رئيس حكومة تصريف اﻷعمال على تولي مهام الرئيس كما ينص الدستور ولمنع عقد جلسات لمجلس الوزراء، كأنه يتعمد إدخال البلاد في حالة شلل سياسي.
كان ما فعله سابقة، لأنه جرى العرف على توقيع رئيس الجمهورية ثلاثة مراسيم، واحد بقبول استقالة الحكومة، وثان بتعيين رئيس وزراء جديد، وثالث بتشكيل حكومة جديدة، وهو ما لم يحدث، ولا يعد دستوريا، ويشكك في صحة مرسومه.
لذا رد عليه "ميقاتي" مؤكدا أن توقيع المرسوم "يفتقر إلى أي قيمة دستورية"، وأبلغ رئيس البرلمان نبيه بري في رسالة مضادة "بمتابعة الحكومة لتصريف الأعمال والقيام بواجباتها الدستورية كافة".
اختيار عون المغادرة ممارسا الابتزاز السياسي لمنع تشكيل الحكومة، وتعميق الأزمة، جعل لبنان ينهار في عهده للمرة الثانية، مثلما فعل وهو يخرج من السلطة في المرة الأولى عام 1990 تاركا البلد في حالة من الفوضى والفراغ.
ففي عام 1989 اقتحم ميشال عون القصر الرئاسي (قصر بعبدا) وسط آلاف من مناصريه، وتولى حينها حكومة عسكرية ورفض تسليم السلطة إلى رئيس منتخب.
وفي 1990 جرى إخراجه من القصر إثر عملية عسكرية قادها الجيش السوري، ولجأ إلى السفارة الفرنسية، ثم توجه إلى باريس حيث أمضى 15 عاما في المنفى.
وعاد بعد 15 عاما من المنفى، وأسس تياره السياسي (الوطني الحر) وتحالف مع حزب الله، مما منح الأخير دعما مسيحيا مهما، ورد الهدية في النهاية بمساعدة "عون" بأن يصبح رئيسا عام 2016.
ويرى مراقبون أن ما جرى هو صراع سياسي بين عون وميقاتي يأخذ شكلا دستوريا، وأن مرسوم الأول بقبول استقالة الحكومة لن يؤثر كثيرا.
وستبقى الأخيرة تمارس عملها لحين انتخاب رئيس جديد ما يعني أن عون خسر معركة التعطيل بعد رحيله.
لذا قلل خبراء دستوريون من تداعيات مرسوم عون ووضعوه في إطار "الصراع السياسي" بين الرجلين، بحسب وكالة الأنباء الفرنسية 30 أكتوبر.
وذكرت صحيفة "النهار" اللبنانية مطلع نوفمبر/تشرين ثان 2022، أن محاولة عون اليائسة لإحداث صدمة حكومية وفوضى وفراغ دستوري واسع منيت بانتكاسة فورية بعد رحيله عن الحكم والسلطة.
ولم يكن مشهد وصول رئيس الحكومة "ميقاتي" إلى الجزائر لتمثيل لبنان في القمة العربية مطلع نوفمبر، سوى دليل على مضي الحكومة في عملها كأن قرار عون لم يكن.
علما أن وزيرين من الوزراء المحسوبين على عون هما في عداد الوفد الرسمي الى القمة أيضا.
الأمين العام لـ "حزب الله" حسن نصر الله لم يعترف أيضا باستقالة الحكومة، وأكد في 29 أكتوبر أنها باقية، بحسب ما نشرت صحيفة "النهار" اللبنانية مطلع نوفمبر.
قال إنه "على الرغم من أن لدينا الآن مشكلة في الرئاسة والحكومة، لكن المسؤولين الموجودين والوزراء عليهم متابعة تنفيذ الاتفاق (اتفاق الحدود البحرية مع إسرائيل) لأنه ضاع من لبنان وقتٌ كثير".
ولم يأت على ذكر حكومة جديدة، ما يعني رفضه أيضا مرسوم "عون" قبل أن يصدره.
وترتبط رئاسة عون ارتباطا وثيقا في أذهان العديد من اللبنانيين بأسوأ أيام بلادهم منذ الحرب الأهلية 1975-1990، وبالأزمة المالية التي بدأت عام 2019 وجعلت أكثر من 80 بالمئة من المواطنين فقراء، وانفجار ميناء بيروت عام 2020 الذي أودى بحياة أكثر من 220 شخصا.
معضلة الرئيس
عجز البرلمان اللبناني حتى الآن عن الاتفاق على من يخلف "عون" في هذا المنصب.
مر الشهران اللذان حددهما الدستور لاختيار رئيس جديد، دون موقف جدي من نواب البرلمان باختيار رئيس جديد، بعدما فشل الاقتراع الأول في 29 سبتمبر/ أيلول 2022 لعدم حصول أي من المرشحين على النصاب اللازم.
فيما حال اكتمال النصاب دون انعقاد الجلسة الثانية في 13 أكتوبر، ليصبح منصب رئيس الدولة شاغرا للمرة الرابعة في تاريخ لبنان.
وكان الشغور الأول مع نهاية الحرب الأهلية، والثاني والثالث، مع بدء هيمنة حزب الله على الساحة السياسية.
ولجأ الحزب إلى التعطيل عام 2008 من أجل فرض شروطه، وفي المرة الثانية بين عامي 2014-2016، لفرض انتخاب حليفه "عون".
وجاءت نتائج التصويت في الجولة الأولى لانتخاب الرئيس، بحضور 122 نائبا من إجمالي 128 برفض 63 التصويت، وذهاب 36 صوتا للنائب ميشال معوض، و11 لسليم إده، و12 لأسماء أخرى بعضها غير مرشح كنوع من عدم الجدية.
وكان يلزم في الجولة الأولى من التصويت حصول المرشح على غالبية الثلثين أي 86 صوتا، للفوز، وفي حال جرت جولة ثانية كانت الغالبية المطلوبة هي 65 صوتا لأي مرشح ليصبح رئيسا.
هذا التأخير في انتخاب رئيس جديد ليس أمرا جديدا على لبنان، فغالبا ما يستغرق انتخاب رئيس عدة شهور بسبب طبيعة البلد القائمة على منطق التسويات والمحاصصة بين القوى السياسية والطائفية، وضرورة انتخاب رئيس من المسيحيين الموارنة.
و"عون" نفسه جرى انتخابه رئيسا عام 2016 بعد 46 جلسة انتخاب استمرت أكثر من عامين وعقب تسوية سياسية أوصلته إلى الرئاسة.
ويرجع جزء من عملية تعطيل اختيار رئيس جديد إلى رغبة عون في تزكية صهره رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل خلفا له.
ويأتي هذا في ظل عدم حسم حزب الله لأمره بشأن مرشحه الرئاسي، وما يتردد بأن الحزب لا يرى في باسيل "رئيس تسوية" يحل الأزمة.
خصوم "باسيل" قالوا أيضا إن طموحه لشغل منصب الرئيس قد لا يتحقق لأن الولايات المتحدة سبق أن أدرجته على قائمة العقوبات عام 2020 بتهمة الفساد رغم نفيه ذلك ووصفها بأنها عقوبات سياسية.
لكن ميشال عون رد عليهم في حوار مع وكالة رويترز في 29 أكتوبر، قائلا: "سنمحو العقوبات عن باسيل بمجرد انتخابه رئيسا"، مؤكدا أن العقوبات الأميركية لن تمنع صهره من الترشح.
ومقابل "باسيل"، دعم نواب المعارضة وهم: حزب الكتائب والجمهورية القوية وحزب اللقاء الديمقراطي وحزب التجدد، المرشح ميشال معوض، الذي يوصف بأنه رجل الأميركيين الأول في لبنان والمرشح المدعوم من السعودية.
وبحسب صحف لبنانية، يسعى حزب الله لخلق توافق على رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل ليكون هو الرئيس الجديد.
لكن الخلافات بين "باسيل" ورئيس الحكومة "ميقاتي" تعرقل الوصول لحل، وفق ما نشر موقع "نداء الوطن" المحلي في الأول من نوفمبر.
ومعروف أن جبران باسيل ينتمي لمحور إيران ويطمح لوراثة كرسي الرئاسة، ويخوض منذ فترة معركة التوريث الرئاسية.
ولدى حزب الله مرشح آخر هو رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، وتؤيده أيضا حركة أمل الشيعية التي يقودها رئيس مجلس النواب نبيه بري.
سيناريوهات المستقبل
كان من المفترض بعد دخول لبنان مرحلة جديدة من الفراغ الرئاسي، انتقال صلاحيات الرئيس إلى مجلس الوزراء، وفق الدستور، خصوصا مع فشل النواب في انتخاب رئيس بديل.
لكن الخلافات السياسية منذ الانتخابات النيابية، حالت دون تشكيل حكومة جديدة، لتواصل حكومة تصريف الأعمال ممارسة مهامها، إذ تبادل عون ونجيب ميقاتي الاتهامات بشأن تعطيل تأليف حكومة نتيجة شروط وشروط مضادة.
بحسب مراقبين، حزب الله هو رمانة الميزان في انتخاب رئيس جمهورية جديد ورئيس حكومة، إذ يبحث الحزب عن "مرشح تسوية" رئاسي، "يحمي سلاح المقاومة"، كأحد أهم المواصفات المطلوبة للرئيس القادم.
يرون أن مقاعد الحزب وأنصاره في البرلمان، وخريطة تحالفاته، التي تخدم مصالحه وأجنداته الداخلية والخارجية، ستحمي رغبته في ذلك.
ومنحت انتخابات عام 2018، مقاعد الأغلبية لحزب الله وحركة أمل الشيعيتين المدعومين من إيران، وحلفائهم الموارنة، بينما خسر تيار المستقبل السني بزعامة "سعد الحريري" ثلث مقاعده البرلمانية.
وتمكن حزب الله وأنصاره من الفوز بـ 72 مقعدا، مقابل 53 للتيار المنافس، و3 مقاعد للمستقلين (مقسمة على نواب ينتمون إلى 11 طائفة دينية)، من جملة مقاعد مجلس النواب المكون من 128 عضوا وفق اتفاق الطائف عام 1989.
وأعطت نتائج 2018 فرصة لحزب الله للتحكم بمفاصل المشهد السياسي في لبنان، تمكن بموجبها من تشكيل حكومات لا تتناقض ومشروعه، وأوصل الرئيس الأخير ميشال عون إلى الرئاسة. وتطرح عدة سيناريوهات الآن للوضع:
الأول: أن تستمر الخلافات السياسية والطائفية ويظل لبنان مشلولا سياسيا واقتصاديا وتديره حكومة تسيير أعمال إلى أجل غير مسمى.
وخطورة هذا السيناريو أن إطالته يمكن أن تؤدي لثورة شعبية مجددا على غرار انتفاضة 2019 التي رفعت شعار التغيير لجميع السياسيين (كلن يعني كلن).
أو حرب أهلية في ظل الاحتقان بين أنصار القوات اللبنانية (حزب الكتائب سمير جعجع) وحزب الله، واللذان سبق أن جرت بينهما مناوشات في نوفمبر 2019.
وكان ملفتا إصدار حزب الكتائب بيانا مطلع نوفمبر 2022 يحذر من "محاولات جر البلاد لتشنج طائفي حول تولي صلاحيات الرئيس"، ويعده "أمرا مرفوضا".
وتشديده على أن "الاستحقاق الرئاسي يشكل فرصة مفصلية ومصيرية لوضع حد للحالة الشاذة التي يمر بها البلد"، داعيا للذهاب فورا إلى انتخاب رئيس لا يؤجل حل المشاكل التي تعطل البلد، وعلى رأسها "مسألة السلاح غير الشرعي"، أي سلاح حزب الله.
كما اتهم حزب الله بإحكام قبضته حول لبنان وتحويله إلى بلد يعني من فراغ، إذ "أدار المؤسسات خارج الأصول والقوانين، بترهيب السلاح تارة وترغيب المافيا طورا بالتغاضي عن سمسراتها"، وفق البيان.
الثاني: التوافق بين الأغلبية التي يشكلها حزب الله وأنصاره في البرلمان، والمعارضة على "تسوية سياسية" شاملة تشمل مرشحا رئاسيا ومرشحا للحكومة وحكومة جديدة، وهو هدف يسعى له الحزب وقوى أخرى خشية انزلاق البلد للفوضى.
وفي محاولة للوصول لهذا التوافق، دعا رئيس المجلس النيابي نبيه بري الكتل النيابية الى "حوار وطني" يتضمن بندا وحيدا: التوافق على رئيس جديد للجمهورية.
ويقول السفير الأميركي السابق في المغرب، والرئيس الحالي لقوة المهام الخاصة الأميركية للبنان، إدوارد غابريل، في مقال مشترك مع مدير معهد الشرق الأوسط بول سالم، إن الشهور المقبلة مفصلية لتحديد ذلك.
أكدا في المقال الذي نشره موقع "ذي هيل" الأميركي 7 سبتمبر أن "استبدال رئيس حليف لحزب الله بآخر مستقل وميال للإصلاح ورمز وطني سيترك أثره المهم على فرص لبنان لاستعادة سيادته المهددة، وتنفيذ الإصلاحات الضرورية، ومنع البلاد من الانهيار الكامل".
الثالث: فرض حزب الله مرشح رئاسي، مرجح أن يكون جبران باسيل، كما فعل في المرة الأخيرة عام 2016، لتستمر الأزمة السياسية والاحتقان بلا تسوية سياسية، ويتكرر ما جرى في فترة رئاسة "عون" من جمود، قد يقود للسيناريو الأول أيضا، أي الثورة الشعبية أو الحرب الأهلية.
ويوضح المحلل اللبناني فارس خشّان أنه في ظل فراغ رئاسي وحكومة عاجزة، يُخشى من ارتفاع حدة الخطاب الطائفي في البلاد، بحسب موقع الحرة الأميركي.
حذر في 28 أكتوبر من أن يثير فريق "عون" مسألة "التعدي" على حقوق المسيحيين في السلطة على يد "حكومة غير شرعية" يقودها مسلم، وأن يخلق هذا السجال الطائفي أرضية لإيقاظ متعمد لـ "خلايا إرهابية" نائمة، تكون مقدمة للعبث بالأمن اللبناني.
غابت السعودية والولايات المتحدة كثيرا عن لبنان وتركته لإيران وحزب الله، لذا ليس مستغربا قصر تدخلها على إطلاق الدعوات لتسريع الانتخابات.
ويراهن "حزب الله" على فرنسا في إبرام الصفقة الرئاسية المنشودة، ولا سيما أنه يرى باريس الطرف الدولي القادر على إحياء "نقاط التقاطع" في المصالح والتسويات، وفق صحيفة "نداء الوطن" اللبنانية.
وكان وزراء خارجية السعودية وأميركا وفرنسا أكدوا في بيان ثلاثي 22 سبتمبر 2022 دعم بلادهم المستمر لسيادة لبنان وأمنه واستقراره، مشددين على أهمية إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها المحدد وفق الدستور اللبناني.
وطالبوا بانتخاب رئيس "يمكنه توحيد الشعب اللبناني، ويعمل مع الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية لتجاوز الأزمة الحالية".