رياض سلامة.. حاكم مصرف لبنان المدعوم من "العصابة" والمتهم بالفساد

يبرز اسم حاكم المصرف المركزي اللبناني رياض سلامة في أعلى قمة هرم العصابة السياسية الفاسدة، ويحمله الشارع المسؤولية عن خسائر النظام المالي الذي يديره منذ 28 عاما.
يكاد سلامة يكون من بين عدة شخصيات سياسية لبنانية ترمى بحجر صباح مساء، كلما خذلت الليرة اللبنانية المنهارة المواطن في تأمين قوت يومه وسداد فواتيره الطويلة.
ومع تراجع أكبر لسعر صرف الليرة أمام الدولار والتي بلغت حتى منتصف أكتوبر/ تشرين الأول 2022 سقف الأربعين ألف ليرة في السوق السوداء، خرج سلامة المطارد قضائيا يومها بتصريحات بعيدة عن الواقع بقوله: "الليرة بخير، والودائع بخير، طولو بالكن شوي".
حديث سلامة عن الليرة التي فقدت أضعاف قيمتها منذ عام 2019 جاء خلال لقاءين عقدهما في 15 أكتوبر مع هيئات أصحاب العمل ومجلس إدارة جمعية المصارف، ناقشوا معه قرار المصرف اعتماد سعر صرف الدولار الواحد بـ15 ألف ليرة.
ويتوازى التراجع المستمر في قيمة العملة الوطنية وسط أزمة اقتصادية حادة يعيشها لبنان ويصنفها البنك الدولي بين الأسوأ في العالم، تزامنا مع أزمة سيولة حادة وتوقف المصارف عن تزويد المودعين بأموالهم بالدولار.
ولم يعد المواطن اللبناني المحتقن والمحاصر بأزمات اقتصادية مركبة، ينظر إلى سلامة إلا كمن "يغازل ذاته" في حديثه عن استقرار الليرة وهو المتهم بـ "التلاعب بالدولار واختلاس المال العام".
وتؤكد تقارير صحفية لبنانية، أنه لولا "فساد القضاء" لكن سلامة قابعا في السجن، وخاصة أن لديه مذكرات إحضار من النيابة العامة في إطار تحقيقات بتهم فساد ومخالفات أخرى مرتبطة بأزمة البلد الاقتصادية.
النشأة والتكوين
ولد رياض توفيق سلامة المنحدر من الطائفة المسيحية عام 1950، في كفردبيان وسط لبنان، ودرس في مدرسة سيدة الجمهور للآباء اليسوعيين، ومن ثم التحق بالجامعة الأميركية في بيروت وحاز على إجازة في إدارة الأعمال.
إثر تخرجه من الجامعة الأميركية عقد سلامة لقاء عمل مع مدير شركة "ميريل لانش" المالية الأميركية، وأهله للتوظيف في هذه المؤسسة العالمية عام 1973.
وبات مع الوقت موظفا بارزا بالقطاع المالي، ما دفع كثيرا من رجال الأعمال العرب إلى التزود بنصائحه حول شراء الأسهم وتداولها.
سافر عقب ذلك إلى فرنسا وعمل في مكتب الشركة في باريس، وحاز هناك على عدة جوائز كأفضل وأكبر متداول للأسهم في العالم عدة مرات.
وحظي سلامة على ثقة رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري الذي اغتيل عام 2005، لدرجة أن الحريري عرض اسمه كحاكم لمصرف لبنان عام 1993.
وبالفعل عين رياض سلامة حاكما لمصرف لبنان في مطلع أغسطس/ آب 1993 لمدة 6 سنوات، وأعيد تعيينه لثلاث ولايات متتالية في 1999 و2005 و2011، و2017.
وفي عام 1996 اختارت مؤسسة "يورو موني" للأبحاث البريطانية المتخصصة في الاقتصاد، سلامة، ليفوز بجائزة أفضل حاكم مصرف مركزي عربي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، رغم أنه كان أصغر حاكم مصرف مركزي على الإطلاق حينذاك.
ويعاون سلامة في مهامه كحاكم للمصرف أربعة نواب، وبهذه الصفة يترأس الهيئات التالية: المجلس المركزي لمصرف لبنان، الهيئة المصرفية العليا، هيئة التحقيق الخاصة المعنية بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وهيئة الأسواق المالية.
وسلامة عضو في مجلس محافظي صندوق النقد الدولي وصندوق النقد العربي.
حاكم الفساد
ويقف خلف سلامة سياسيون ورجال أعمال من مختلف الأحزاب السياسية والطوائف اللبنانية.
وتسهم مصالح هؤلاء مجتمعة في تثبيت سلامة في مكانه كحاكم للمصرف، لضمان عدم انهيار "منظومة الفساد المالية" التي تذوب تحتها الشعارات الحزبية في هذا البلد القائم على التركيبة الطائفية.
ومن اللافت أن سلامة نال في أقل من دقيقة واحدة ولاية جديدة كحاكم لمصرف لبنان بمباركة من "التيار الوطني الحر" الذي يقوده جبران باسيل صهر الرئيس الحالي ميشال عون، تنتهي عام 2023.
فقبل أن يهم عون برفع جلسة مجلس الوزراء في 24 مايو/ أيار 2017، سأل عون الوزراء الحاضرين: هل هناك اعتراض على التجديد لرياض سلامة؟
رد وقتها كل من جبران باسيل وزير الخارجية السابق، ووزير العدل السابق سليم جريصاتي بأن الحديث يجب أن يكون عن تعيينه في ولاية كاملة، وليس التجديد له.
ولم يعترض حينها أحد، وصدق قرار رئيس الجمهورية بالتجديد لسلامة والذي طرح من خارج جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء.
ويقول موقع "درج" الإلكترومي في هذا الصدد، إن مصرف "سيدروس" اللبناني له حكاية، عن تورطه في الهندسات المالية، وعن تأسيسه المشبوه المترافق مع صفقة أبرمها "التيار الوطني الحر" مع حاكم مصرف لبنان للتجديد له في مايو 2017.
وبما أن "رشوة التجديد" قدمها سلامة عبر بنك "سيدروس"، وكان لابنة رئيس الجمهورية ميراي عون دور أساسي في تحقيقها، كما يؤكد "درج".
فإنه من هنا، يبرز دور سلامة كحاكم يمسك بيده حبلا غليظا يربط به الطبقة الفاسدة في لبنان ويحفظ مصالحها، والتي جعلت منه أيقونة لا تمس وبعيدة عن المساءلة القانونية ولو كان من أعلى سلطة قضائية في البلد.
ورغم ذلك، فإن سلامة ملاحق قضائيا ليس في لبنان فحسب، بل في أكثر من 5 دول، والفضائح تحاصره من كل حدب وصوب، وهو ممنوع من السفر ومغادرة بيروت ولو إلى منزله في جنوب فرنسا على ما دأب يفعل كل صيف قبل صدور القرار في يناير/ كانون الثاني 2022.
ويواجه سلامة شكوى من مجموعة محامين تأسست عام 2019 تحت اسم "الشعب يريد إصلاح النظام"، معززة بعشرات المستندات والأدلة، تتعلق باختلاس وتبديد المال العام على منافع شخصية، والإثراء غير المشروع وتبييض الأموال.
وتصر المجموعة الناشطة في ميدان مكافحة الفساد السياسي والمالي والأمني والعدلي والإداري، على محاكمة سلامة الذي "سرق خزينة الدولة، وبدد ودائع وجنى عمر المواطنين".
وأكدت المجموعة في بيان لها بتاريخ 11 يناير 2022، أنها ماضية في "معركتها الوطنية" "حتى تعاد الأموال العامة المنهوبة وودائع الناس المسلوبة، ويلقى الجناة عقابهم".
في 5 يونيو/ حزيران 2020 تقدم المحامون بشكوى مباشرة أمام القاضية المنفردة الجزائية في بيروت لارا عبد الصمد ضد حاكم مصرف لبنان بتهمة ارتكاب جرائم متنوعة.
منها النيل من مكانة الدولة المالية، وحض الجمهور على سحب الأموال المودعة في المصارف، وبيع سندات الدولة، والإخلال بالموجبات الوظيفية والإهمال.
ومن الجرائم المدعى على سلامة بها في عمليات إثراء غير مشروع على حساب المال العام، هي استئجاره غرفة لا تتجاوز مساحتها 37 مترا في الشانزليزيه في باريس بهدف استخدامها كمركز عمل طوارئ لمصرف لبنان وذلك منذ 10 سنوات وحتى الآن.
إذ ثبت بأن بدل الإيجار السنوي للغرفة لا يبلغ مقداره أكثر من 40 ألف دولار أميركي سنويا في حين أن الإيجار المعقود من الحاكم فاق 400 ألف دولار.
فضيحة كبرى
أما الفضيحة الأخيرة لسلامة كانت في إقدام نجله "نادي" على تحويل مبلغ ستة ملايين وخمسمئة ألف دولار إلى الخارج بعد قانون "الكابتال كونترول" (ضبط رأس المال) الذي مارسته المصارف على ودائع اللبنانيين أواخر عام 2019، بعدما دفعت أزمة مالية البنوك اللبنانية إلى منع معظم المودعين من سحب أو تحويل الدولار.
ومن ملفات الفساد التي تلاحق سلامة، هو طلب المحكمة الإقليمية لإمارة ليختنشتاين وهي دولة أوروبية مستقلة، مساعدة القضاء اللبناني لها في دعوى الاختلاس المقامة ضده، بتهمة اختلاس مبلغ يصل إلى 400 مليون دولار.
كما سألت المحكمة ذاتها عن علاقة مالية بين سلامة وشقيق رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وعن تحويلات مالية بين شركتيهما حصلت عام 2016 وصلت قيمتها إلى 14 مليون دولار.
وبعد "سويس ليكس" و"وثائق باناما"، كشفت "وثائق باندورا" الصادرة عام 2021، والتي تحدثت عن ثروات سرية وتهرب ضريبي، وفي بعض الحالات غسيل أموال من قبل بعض المسؤولين في العالم، عن شبكة الشركات التي أسسها سلامة، ليدير بها ثروة تجاوزت قيمتها مئات ملايين الدولارات على أقل تقدير، وفق "درج".
ويواجه سلامة تحقيقات دولية عدة، منها في فرنسا وسويسرا وألمانيا، بشأن مزاعم فساد قد يكون متورطا فيها، فهو متهم باستخدام منصبه أيضا لتقديم خدمات لسماسرة السلطة في النظام السياسي اللبناني.
وفتح قضاة مكافحة الفساد في باريس تحقيقا بشأن ادعاءات جنائية مفادها أن سلامة جمع ثروة طائلة في أوروبا عن طريق إساءة استعمال سلطته.
ووفق ما ورد في صحيفة "وول ستريت جورنال"، في 16 أغسطس/ آب 2020، فإن سلامة خضع للتدقيق في الولايات المتحدة بسبب مزاعم بالتورط المالي مع رامي مخلوف ابن خال رأس النظام السوري بشار الأسد ومدير منظومة الأخير المالية حتى عام 2020.
اللافت أن مهندس السياسة النقدية في لبنان منذ عام 1993، والصانع لإمبراطوريته المالية من داخل البنك المركزي، لم يواجه أي ضغط حكومي للمثول أمام المحكمة.
حتى أن قوات أمن لبنانية لم تتمكن من توقيف سلامة في 19 يوليو/ تموز 2022 بعد أن داهمت منزله في منطقة الرابية شمالي بيروت، ومقر البنك بالعاصمة بيروت لتنفيذ مذكرة إحضار بحقه صادرة عن النائب العام في جبل لبنان القاضية غادة عون.
ولم تبتلع الأرض حينها سلامة، بل على الأقل كانت "علاقته المصلحية" مع الأطراف الفاعلة من الأثرياء وذوي النفوذ الأمني والسياسي كافية لتأمين هروبه عبر منظومة معقدة تحمي غيره ممن صدرت بحقهم مذكرات توقيف.
وخاصة أن رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، أعرب عن أسفه عما وصفها بـ "الطريقة الاستعراضية" في محاولة القبض على سلامة.
الصندوق الأسود
ويتهم الشارع اللبناني سلامة بصرف 3 مليارات دولار خلال أربعة أشهر من ودائع المواطنين في المصارف، في محاولة لتثبيت سعر الدولار أمام الليرة.
كما يتهم سلامة بالوقوف وراء الأزمة المالية التي أدت إلى الانهيار الاقتصادي، وعدم قدرة لبنان على تسديد فواتير الطاقة بالعملة الأجنبية لتدوير شركات الكهرباء.
وكلمة السر لرجال الطبقة الفاسدة في لبنان يوزعها سلامة ويحتفظ بنسخها، ولهذا فإن وجوده في منصبه مرهون بحصول توافق سياسي مسبق على تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان، وهذا يستبعد حصوله راهنا.
وفي نهاية أغسطس 2022، قالت صحيفة الأخبار اللبنانية، إنها حصلت على وثائق تؤكد الشبهات الدائرة حول سلامة في عمليات اختلاس.
ومنها وثيقة، هي عبارة عن كشف حساب، تثبت أن الأموال التي دخلت هذا الحساب أو خرجت منه طوال هذه الفترة أكبر بكثير من راتبه الشهري البالغ 25 ألف دولار.
وللمفارقة فإن سلامة أصبح لاحقا العدو اللدود لجبران باسيل الذي بدأ معركة ضده في محاولة لإقالته واستبداله بحاكم آخر من المقربين له.
لدرجة أن باسيل المتهم بقضايا فساد مالية أيضا، اتهم ميقاتي في مسألة ملاحقة سلامة بقوله "إنهم يحمون بعضهم"، وفق ما جاء في حديث لصحيفة "الجمهورية" بتاريخ 15 يناير 2022.
كما عاد باسيل وقال في كلمة بتاريخ 13 أكتوبر 2022: "لا يمكن أن يكون حاكم المصرف المركزي لصا دوليا ملاحقا من 7 دول بالعالم، ويهرب من العدالة في لبنان ولا يزال يتحكم بسعر العملة الوطنية ومسؤولا عن احتياطي الذهب".
وفي هذا الإطار، سبق أن قال النائب السابق في البرلمان حسن يعقوب في لقاء مع قناة "الجديد" في أغسطس 2022، إنه على "زمن رئيس الحكومة السابق حسان دياب (2019 - 2020) كان هناك جلسة لإقالة رياض سلامة في القصر الجمهوري ببعبدا، قبل أن تنزل طائرة هيليكوبتر تقل رئيس البرلمان نبيه بري، وأخبرهم بأنه لا يمكنهم إقالة سلامة".
وألمح يعقوب إلى أنه "لا يمكن إقالة رياض سلامة من منصبه؛ كون المصرف هو الحاكم الفعلي للبنان، وهو الصندوق الأسود حيث إن كل المعلومات الموجودة عن تحويل الأموال والسرقات والهدر في المال العام موجودة لديه".
وختم يعقوب بالقول: "أنا أعتقد أن رياض سلامة لا يقال من منصبه ولا يذهب للمحاكمة بل يتم التخلص منه، لأن محاكمته يعني دخول كل الطبقة الفاسدة إلى السجن".