سرقة مشروعة.. لماذا أثار قانون "كابيتال كونترول" غضبا واسعا في لبنان؟
.png)
وسط انشغال القوى السياسية التقليدية في لبنان بتحديد اسم الرئيس القادم للبلاد، يضغط الشارع على الطبقة الحاكمة لمنعها من إقرار مشروع قانون "كابيتال كونترول".
ويشهد الشارع اللبناني تظاهرات واحتجاجات ضد القانون، وما سيفرضه من أعباء على المواطنين وطبقة التجار والصناعيين، والذي تجتهد حكومة تصريف الأعمال الحالية على تمريره.
ومشروع قانون "الكابيتال كونترول"، يرمي إلى وضع ضوابط استثنائية ومؤقتة على التحويلات المصرفية والسحوبات النقدية، ويضيف قيودا على سحوبات الأفراد والشركات من حساباتهم المصرفية.
قانون مثير
وتندفع حكومة تصريف الأعمال نحو إقرار قانون "كابيتال كونترول" (ضبط رأس المال)؛ بهدف النزول عند مطالب صندوق النقد الدولي، وشروطه لمنح قرض إلى لبنان ينتشله من أزمة اقتصادية عصفت به منذ عام 2019.
وولدت تلك الأزمة الاقتصادية أزمات مركبة، ضاعفت من الانقسام السياسي، والذي أدى إلى تعثر المساعدات الدولية والعربية للبنان.
وأمام ذلك، تسعى الحكومة اللبنانية، للمضي قدما في تهيئة الأجواء الاقتصادية عبر سن قوانين، وإجراء بعض الإصلاحات لتلبية الشروط الدولية المطلوبة.
وأمام هذا الضغط، وجدت الحكومة في التسريع بإقرار مشروع قانون "كابيتال كونترول"، فرصة سانحة كحزمة من الخطوات لتدوير عجلة الاقتصاد.
إلا أن "كابيتال كونترول" يصطدم برفض شعبي واسع، وانقسام أيضا بين الكتل النيابية حول المشروع المثير للجدل، والذي يصفه الخبراء بالمتأخر والذي "سيولد ميتا".
وسبق أن أعلن صندوق النقد الدولي في 7 أبريل/نيسان 2022، توصله إلى اتفاق مبدئي مع بيروت، لتمويل بقيمة 3 مليارات دولار يصرف على مدى 4 سنوات، وفق برنامج يهدف لإعادة بناء الاقتصاد واستعادة الاستدامة المالية.
وجاء ذلك لإخراج لبنان من دوامة اقتصادية غير مسبوقة، صنفها البنك الدولي واحدة من أسوأ ثلاث أزمات في العالم منذ أواسط القرن التاسع عشر.
ونتج عن الأزمة، فقدان الليرة اللبنانية نحو 90 بالمئة من قيمتها أمام الدولار، ما تسبب في تدني قيمة الرواتب، فضلا عن شح في الوقود والأدوية، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة.
إلا أن خطة المساعدة بقيمة 3 مليارات دولار، تبقى رهن تنفيذ إصلاحات مسبقة، والتي تتماشى مع الخشية من حدوث فراغ رئاسي، نظرا لخلافات القوى الفائزة بالانتخابات البرلمانية على التوافق على مرشح مقبول من الجميع.
وتنتهي ولاية رئيس الجمهورية الحالي، ميشال عون، في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2022، فيما يعد مطلب تشكيل حكومة جديدة "أمرا مهما" كونها يقع على عاتقها استكمال الجهود لإخراج البلاد من دوامة الانهيار الاقتصادي المتسارع.
ولهذا فإن حدوث فراغ رئاسي محتمل في لبنان، سيعمق أزمتيه السياسية والاقتصادية.
ودخل لبنان في الأول من سبتمبر/أيلول 2022، مهلة الشهرين التي حددها الدستور لانتخاب رئيس جديد للبلاد، إذ تنص المادة (75) من الدستور على امتناع البرلمان عن أي نشاط خارج الانتخاب.
التوقيت الخطأ
إلا أن هناك تفسيرات قانونية للمادة (75) تجيز التشريع في المهلة المذكورة (الشهرين)، باستثناء الأيام العشرة الأخيرة من انتهاء الولاية الرئاسية، لذا تخشى بعض الأوساط المحلية من تمرير قانون "كابيتال كونترول" وتسليمه كـ"تركة ثقيلة" للحكومة القادمة.
ويدعو كثير من الخبراء الاقتصاديين في لبنان، إلى فصل أي خطة اقتصادية عن واقع المودعين في المصارف الذين خسروا أموالهم البالغة أكثر من مليار دولار، حسب التقديرات المحلية.
ومن هنا فإن سعي الحكومة الحالية لإقرار قانون "الكابيتال كونترول" في يونيو/حزيران 2022، يأتي في "التوقيت الخطأ"، خاصة أنه عادة ما يقر مثل هذا القانون فور وقوع أزمة سيولة.
وأقرت لجنة المال والموازنة النيابية في لبنان مسودة مشروع قانون "الكابيتال كونترول" في يونيو 2022.
بينما لو أقر مباشرة عقب ثورة 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، كان سيمنع تهريب الأموال خارج لبنان.
وآنذاك ثار اللبنانيون من كل أطياف الشعب على الطبقة السياسية الحاكمة في قلب العاصمة بيروت، ومن شمال البلاد إلى جنوبها.
واستمرت الاحتجاجات الشعبية لأشهر متواصلة، وطالب المحتجون خلالها بانتخابات نيابية مبكرة، واستعادة الأموال المنهوبة، ومحاسبة الفاسدين، ورحيل ومحاسبة بقية مكونات الطبقة الحاكمة، التي يتهمونها بالفساد والافتقار للكفاءة.
وأرغمت "الثورة" كما سماها اللبنانيون، في 29 أكتوبر 2019، سعد الحريري على تقديم استقالة حكومته، والتي كانت تضم "حزب الله" وحركة "أمل" (الثنائي الشيعي) مع قوى أخرى.
وحينها اجتهد الخبراء اللبنانيون في تعرية مكامن الهدر والفساد في الدولة اللبنانية، القائمة على المحاصصة الطائفية، وهدر أموال المواطن.
وأمام ذلك، قيدت الحكومة سهولة وصول المودعين إلى أموالهم في المصارف والبنوك.
وعقب ذلك، سعت السلطة السياسية لإقرار قانون "الكابيتال كونترول"، لمنع المودعين من رفع الدعاوى ضد المصارف اللبنانية، ولا سيما الخارجية وتحديدا في العاصمة البريطانية لندن.
وضمن هذه الجزئية، فقد رأى موسى أغاسي، من جمعية "صرخة المودعين"، أنه "بعد سنتين من احتجاز الأموال يحاول مجلس النواب تشريع السرقة بمحاولته حماية المصارف بواسطة قانون الكابيتال كونترول".
وأوضح أغاسي لوكالة الأناضول التركية في 26 أبريل/نيسان 2022، أن القانون "يمنع تحويل الأموال ويمنع أية دعوى قضائية على المصارف، والحد من السحوبات مهما بلغ حجم الوديعة، وكلها لتشريع تجاوزات المصارف خلال السنتين الماضيتين".
بلا فائدة
من جانبه، يؤكد الأكاديمي وباحث الاقتصاد السياسي والاجتماعي اللبناني، طالب سعد، أن "هناك عدم ثقة تامة مع معظم الجهات الرسمية في الدولة ومؤسساتها من قبل المواطنين".
وشدد سعد لـ"الاستقلال" على أنه "لا فائدة من إقرار قانون كابيتال كونترول بعد ثلاث سنوات من الأزمة الاقتصادية وبعد ندرة رأس المال وحركة الأموال عبر القطاع المصرفي في لبنان".
فضلا عن أن "حجم الاقتصاد في لبنان الذي كان 53 مليار دولار، وأصبح تحت الـ18 مليار دولار، مما يعني انخفاض حجم الاقتصاد اللبناني"، وفق الأكاديمي.
ورأى أنه "حاليا لا يوجد نفع من قانون كابيتال كونترول بعدما أصبحت أموال المواطنين قبل 17 أكتوبر 2019 مقيدة وغير متوفرة تسمح لهم بالاستفادة منها وتبادلها".
وتابع: "كما لم يتم تطبيق القانون بعد التاريخ المذكور بل تركوا مساحة زمنية لعدم العودة بمفعول رجعي، مما سمح لرؤوس الأموال وأصحاب القرار بتهريب الأموال".
واستدرك سعد قائلا: "وبينما بقيت أموال التجار والصناعين والمواطنين في البنوك والمصارف والتي يريدون تطبيق القانون عليها والرقابة عليها، وهذا أمر معوق لهم فضلا عن عدم وجود انسيابية في حركة الأموال وخاصة مع وجود لجنة هي من تقرر تيسير حركة الأموال من قبلها أصحابها".
وأكد على أن "تطبيق كابيتال كونترول في هذه المرحلة ليس له أي استفادة من ناحية عدم هروب رؤوس الأموال، لأن أي رأس تامال يدخل لبنان ليس قادما لوجود بيئة آمنة ومستقرة وقوانين تحميه، بل يأتي لعملية تجارية وحسابات جارية، وليس ادخارا".
وأردف سعد قائلا: "من هنا كان الرفض اللبناني لقانون كابيتال كونترول لوجود عدة شوائب فيه وغير واضحة، علاوة على انتفاء الحاجة له في الوقت الراهن والذي كان من الأجدر تطبيقه مباشرة بعد اندلاع الأزمة الاقتصادية لحصر تهريب الأموال واستغلالها".
رفض شعبي
لكن أمام ذلك، تبرز مسألة مهمة على الساحة اللبنانية، وهي هروب رؤوس الأموال بطرق التفافية تحت ذريعة شراء المحروقات والطحين.
ورغم أن الحكومة اللبنانية، رسمت خارطة طريق الإصلاح الاقتصادي والمالي والنقدي، للوصول إلى اتفاق نهائي مع صندوق النقد، إلا أن المودعين يتمسكون بالشارع للتعبير عن رفضهم لإقرار قانون "الكابيتال كونترول".
ومن أبرز العناوين العريضة للاعتراض، حسب وجهة نظر المودعين هو أنه "يشرّع استكمال نهب مصارف لبنان لأموالهم ضمن خطة تعافٍ مشوهة".
وكذلك يمنع القانون -في حال إقراره- المحاكم اللبنانية والأجنبية من إصدار أحكام ضد المصارف لإلزامها بإعادة أموال المودعين، كما سيقضي على ما تبقى من بصيص أمل لاستعادة تلك المدخرات.
وخلال مظاهرة احتجاجية في 30 أغسطس 2022، أمام مجلس النواب، قال أحد المعترضين على الكابيتال كونترول، إن "القانون يسقط حق تقاضي المودعين للدولة بسبب السرقة والإهمال لأموالهم، خاصة أن من أكبر مساوئه أنه يفرق بين ودائع ما قبل 17 تشرين وما بعده التي تسمح بحرية السحب كما تشاء".
ولفت المتحدث لموقع "لبنان والعالم" إلى أن "هناك نظاما طائفيا في لبنان وأحزابا طائفية هي من أعطت للمشرعين والنواب الحرية في سحق المواطنين لكي يبقى المواطنون تبعا لهم"، حسب وصفه.
ويتهم لبنانيون الطبقة السياسية الحاكمة بتهريب 17 مليار دولار قبل ثورة 17 أكتوبر/تشرين 2019.
بينما يهدف القانون من وجهة نظر مشرعيه إلى الحفاظ على ما تبقى من احتياط عملات في المصرف المركزي، إذ إن الاحتياط المتوافر والمعلن فيه يتراوح بين الـ9 مليارات دولار والـ10 مليارات.
وفي 11 أغسطس 2022، احتجز مودع مسلح "رهائن" في أحد مصارف بيروت لتحصيل وديعته التي تفوق قيمتها مئتي ألف دولار، قبل أن يتمكن من الحصول على مبلغ معين لقاء تسليم نفسه للشرطة.
وفي ظل وجود آلاف المودعين اللبنانيين منذ الأزمة الاقتصادية، نبهت تلك الواقعة إلى الخشية من لجوء هؤلاء لارتكاب أفعال تضر بالأمن العام، طالما أنها ناجحة وتفضي إلى استرداد الأموال المجمدة داخل البنوك.
ويبلغ عدد سكان لبنان 6.7 ملايين نسمة، منهم حوالي 1.7 مليون لاجئ سوري وفلسطيني.
ووفقا للأمم المتحدة، يعيش حوالي 80 بالمئة من اللبنانيين تحت خط الفقر، أما أولئك الذين كانوا فقراء قبل الأزمة، فأصبحوا يعيشون في فقر مدقع.
ويبلغ المعدل الوسطي لرواتب الموظفين في القطاع العام 1.5 مليون ليرة، وهو ما كانت قيمته تعادل 1000 دولار حتى منتصف 2019، وكان سعره الرسمي مثبتا عند 1500 ليرة.