استقطاب كفاءات وإجلاء ذوي المجنسين.. هل بدأ التهجير السري لأهالي غزة؟

السفارة الفرنسية تنسق مع جيش الاحتلال لتهجير كفاءات غزة
تصاعد الحديث أخيرا عن ابتداع إسرائيل أساليب جديدة لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، تحت عدة عناوين منها السماح بخروج ذوي حاملي الجنسيات الأجنبية والكفاءات وغيرها من الفئات.
وانقسم الفلسطينيون إلى فئتين في قراءة هذا التطور؛ الأولى رأت أن التهجير بدأ بالفعل ويجرى بسِرّية وخطوات بطيئة على قدم وساق بالتنسيق والتواصل مع دول غربية.
وأخرى نظرت إلى الأمر على أنه "مبالغة" وذلك لقلة الأعداد التي تمكنت من الخروج من القطاع واستمرار تشدد سلطات الاحتلال في السماح بسفر أهالي قطاع غزة.
وجاء الحديث عن أساليب التهجير الجديدة بعد استئناف إسرائيل العدوان على غزة منذ 18 مارس/آذار 2025، عقب هدنة استمرّت شهرين جرى خلالها تبادل عدد من الأسرى مع المقاومة الفلسطينية.

“استقطاب الكفاءات”
بدأت القصة مع الكشف عن تسهيل السفارة الفرنسية في القدس المحتلة مغادرة 115 فلسطينيا من قطاع غزة بتاريخ 23 أبريل/نيسان 2025، عبر معبر كرم أبو سالم، ثم جسر الملك حسين.
وجاء ذلك في إطار عملية تمت بسرية تامة، وسط معايير غير واضحة وتواصل محدود مع المعنيين، وفق ما قال رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، رامي عبده.
وأضاف عبده لوكالة صفا المحلية أن السفارة الفرنسية تنسق مع جيش الاحتلال لتهجير كفاءات غزة، مؤكدا أن عمليات الإجلاء تستهدف حملة شهادة الدكتوراه والأطباء والمهندسين والمؤرخين ومختصي الثقافة والآثار.
وقال: "يتم تجميع المُرحّلين فجرًا وسط القطاع ونقلهم إلى مطار رامون تحت حماية الطيران الحربي مع حديث عن نقلهم لاحقًا إلى الأردن عبر جسر الملك حسين".
وأكد عبده أن "فرنسا متورطة في مخطط إسرائيلي واسع لتفريغ غزة من نخبتها العلمية والإنسانية بالتنسيق مع الاحتلال".
ولفت إلى أن "حكومة الاحتلال أنشأت وحدة خاصة تتولى ملف تهجير الفلسطينيين بشكّل منظم ومرحلي بدءًا بأصحاب الشهادات العليا".
ولاحقا، أكد عبده، نقلا عن مصدر فرنسي، أن عملية الإجلاء شملت حاملي جنسيات مزدوجة، وأشخاصا لديهم أقارب في فرنسا، ومتلقين لمنح دراسية، بالإضافة إلى من وصفهم بـ"شخصيات فلسطينية على صلة بفرنسا".
وانتشر هذا الأمر بشكل كبير على وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي حتى خرجت فرنسا عن صمتها واعترفت بالخطوة.
وفي 25 أبريل، قالت وزارة الخارجية الفرنسية: أنها "ساعدت على إجلاء 115 شخصا من غزة هذا الأسبوع وأنهم وصلوا بالفعل إلى فرنسا".
وقالت: إن هذه العملية تلي تلك التي نظمت في 16 أبريل وأتاحت أيضا إجلاء 59 شخصًا ووصولهم إلى فرنسا.
وشمل الأشخاص الذين جرى إجلاؤهم عدة أطفال بات انضمامهم إلى أسرهم المقيمة في فرنسا أخيرا ممكنا، وفق البيان.
وأردف: “تندرج هذه العملية في رغبة فرنسا بحماية مواطنيها وذويهم وقد أجلي هؤلاء الأشخاص بفعل ارتباطهم بباريس”.
وتابع: “تستنفر فرنسا جهودها منذ 18 شهرًا بغية إتاحة إيجاد مواطنينا وذويهم والموظفين في المعهد الفرنسي في غزة وأسرهم وشخصيات فلسطينية مرتبطة ببلدنا بر الأمان”.
لكن الوزارة شددت في الوقت نفسه على أن “فرنسا تظل تعارض التهجير القسري لسكان غزة”، مؤكدة حرصها على “حق عودة الغزاويين إلى القطاع”.
وجاء هذا في وقت شاب موقف فرنسا الكثير من التناقض والغموض فيما يتعلق بالعدوان الإسرائيلي؛ ففي وقت تشدد فيه على ضرورة إنهائه، فإنها لم تفتح حتى الآن أي تحقيق بحق الآلاف من مزدوجي الجنسية الذين خدموا في جيش الاحتلال وشاركوا في ارتكاب جرائم حرب في غزة.
ويرى الفلسطينيون أن ما يسمى "استقطاب" العقول الفلسطينية في ظل مخططات الاحتلال وعدوانه هو وجه ناعم للتهجير.
وخاصة مع تناقل معلومات أفادت بأن المُجلين طُلب منهم عدم مشاركة التعليمات التي وُزعت عليهم من قبل السفارة بشأن العملية، وهو ما يعكس تجنبا مقصودا للعلنية والمحاسبة.
وتساءل عبده: لماذا لم يتم إجلاء هؤلاء في الأسابيع الأولى من الإبادة الجماعية؟ موضحا أن بعض الأسماء جرى اختيارها منذ أكثر من عام، بينما أضيفت أخرى في الأسابيع القليلة التي سبقت التنفيذ.
ورأى أن هذا التفاوت الزمني يثير الشكوك، لا سيما في ظل الحملة النفسية الإسرائيلية المتواصلة للترويج لسياسة التهجير القسري لسكان غزة.
ولفت عبده إلى أن العملية الفرنسية جاءت في وقت تواصل فيه باريس السماح لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو – المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بتهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية – بالمرور الآمن عبر أجوائها، وهو ما يطرح تساؤلات إضافية حول ازدواجية المعايير.

مزدوجو الجنسية
بالتزامن مع ذلك، خرج العشرات من أهالي قطاع غزة من ذوي حاملي الجنسيات الأجنبية في خضم تواصل العدوان، ما زاد الشكوك بشأن ارتباط الخطوة كذلك بالتهجير.
ومنذ الأشهر الأولى للعدوان على غزة، خرج أغلب حاملي الجنسيات الأجنبية من القطاع بالإضافة إلى أقربائهم من الدرجة الأولى مثل الأب والأم والأخ والأخت تحت سن 18 سنة، ولم يكن يسمح بالمغادرة لمن دون ذلك.
ولكن اليوم، وفي ظل الترويج الإسرائيلي لما يسمى "الهجرة الطوعية”، فقد وسعت تل أبيب الفئات التي يمكن لها السفر لتشمل على سبيل المثال أشقاء وشقيقات حاملي الجنسيات الأجنبية وأبناءهم.
وقال “ع . ش” الذي يحمل جنسية أجنبية ويقيم في الخارج، إنه تمكن من إخراج والده ووالدته وأشقائه تحت 18 عاما منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وذلك بالتنسيق مع سفارة بلده.
وفي حديث لـ “الاستقلال”، أضاف الشاب الذي رفض الكشف عن اسمه وجنسيته الأجنبية أنه تمكن أخيرا من إخراج باقي أفراد العائلة من الأشقاء والشقيقات فوق 18 سنة والمتزوجين أو المتزوجات منهم، مع أبنائهم.
وأوضح أنه جرى نقلهم من خلال الصليب الأحمر الدولي، من معبر كرم أبو سالم جنوب قطاع غزة ومن ثم مطار رامون.
وتابع: “أخبرهم الجيش أن خروجهم هو مغادرة بلا عودة، ما أكد وجود مخططات بالفعل للعمل على تهجير ناعم تحت مسميات عديدة وضمن ما يطلق عليه تسهيلات لتوسيع دائرة المسافرين".
لكنه أوضح أنه لم يفرض عليهم التوقيع على تعهدات مكتوبة أو حتى شفوية بأنهم لن يعودوا إلى القطاع، ورغم ذلك، تثار مخاوف بالفعل بشأن إمكانية عودتهم.
وقال رامي عبده في التصريحات السابق الإشارة إليها: إن الادعاء بعدم فرض تعهدات على المُجلين بعدم العودة يتجاهل الواقع الفعلي؛ إذ إن القيود الإسرائيلية والمصرية، إضافة إلى صعوبة الاندماج بعد التهجير، تجعل العودة شبه مستحيلة، ما يعني أن مغادرتهم قد تكون نهائية بشكل قسري.
وأكد أن أي عملية إجلاء يجب أن تُربط بحق العودة بشكل واضح وصريح، فطالما تمكّنت هذه الدول من إجلاء الأفراد من غزة المحاصرة، فإن بإمكانها أيضا ضمان إعادتهم متى أرادوا ذلك، بصرف النظر عن سياسات الاحتلال.
ولكن ما يزال يشوب التحركات الإسرائيلية الكثير من الغموض، ففي ظل توسيعها لدائرة المسافرين من ذوي حملة الجنسيات الأجنبية فإنها تضيق على آخرين من نفس هذه الفئة.
ففي حديث لـ"الاستقلال"، قال شابان من حملة الجنسية التركية (رفضا الكشف عن اسميهما): أنهما لم يتمكنا منذ بداية العدوان من إجلاء الأشخاص من الدرجة الأولى من عائلتيهما.
وأوضح أحدهم بالقول: “أرسلت أسماءنا وبياناتنا للقنصلية التركية في القدس من أجل إجلاء والدي ووالدتي، وبعد انتظار لشهور، أخبروني أن هناك رفضا من قبل إسرائيل”.
ولا ينطبق الرفض على عائلتي هذين الشابين لأسباب أمنية أو غيرها، ولكن يطول جُلّ أسر الأفراد الحاملين للجنسية التركية.
وتابع أحد الشابين لـ"الاستقلال": “بعد عودة الحديث عن تسهيل السفر، تواصل مع القنصلية مرة أخرى وأخبرني أحد الموظفين أن إسرائيل غير متجاوبة معها”.
وكان في ذلك إشارة إلى أن إسرائيل تعرقل خروج ذوي المجنسين من تركيا دونا عن حملة الجنسيات الأخرى، وذلك في خضم توتر كلامي بين تل أبيب وأنقرة بسبب العدوان على غزة، وتصعيدات وتهديدات متبادلة في سوريا.

حرب معلومات
وأمام هذه الحالة من البلبلة، تفاعل عدد من النخب الفلسطينية في أوروبا مع قضية خروج بعض الأهالي من غزة، وقللوا من أهميتها، كما تحدثوا عن محدوديتها وعدم تأثيرها.
وتوقع الصحفي المقيم في ألمانيا ياسر أبو معيلق حدوث حرب معلومات قادمة وممولة حول التهجير من غزة، موضحا طبيعة ما جرى أخيرا في هذا السياق.
وتابع في منشور على فيسبوك: “هناك فلسطينيون خرجوا من القطاع بتنسيق مع إسرائيل ولكنها أرقام محدودة للغاية، لا تتجاوز بضعة آلاف في المجمل”.
وأردف: “خروج هؤلاء الفلسطينيين سببه امتلاكهم جنسية أخرى، وبذلت الدول التي يمتلكون جنسياتها جهودا مضنية على مدى شهور لإخراجهم وعائلاتهم المباشرة (درجة أولى فقط: أم أو أب أو أطفال أو زوج أو أخ أو أخت) عبر مطار رامون الإسرائيلي".
وأكّد أن "الأرقام لا يمكن عدّها تهجيرا؛ لأنها تمت طبقا لشروط صارمة مثل امتلاك جنسية أجنبية".
وواصل القول: “كوني في ألمانيا ولأنني أمتلك اعتمادا صحفيا لدى المكتب الحكومي الألماني، فقد أرسلت استفسارا رسميا لوزارة الخارجية الألمانية، التي أكدت نجاحها في إخراج 38 فلسطينيا من غزة فقط إلى مطار لايبزيغ في ألمانيا، بسبب امتلاك 19 منهم جنسية ألمانية”.
وأردف: “أضافت الوزارة أنها ترفض رفضا قاطعا مخطط إسرائيل الرامي لتهجير سكان القطاع منه، وأنها ما تزال داعمة لحل الدولتين”.
واستبعد تواصل محامين إسرائيليين مع سكان القطاع لاستصدار "وكالة محامٍ" من أجل التقدم بطلب لتسفيرهم خارج القطاع، وهي شائعة انتشرت كثيرا في الأيام الماضية مرفقة بوثائق لم تتأكد صحتها.
وذكر أن “إسرائيل تعمل عن طريق جهاز مخابراتها وممثلياتها الدبلوماسية على إيجاد دول تستقبل الفلسطينيين، ولكن محاولاتها باءت بالفشل”.
وأوضح أنه “لا توجد دولة عاقلة تريد التواطؤ في جريمة التطهير العرقي التي يمثلها مخطط التهجير الإسرائيلي لسكان القطاع”.
وأكد عبد الهادي العجلة الباحث والأكاديمي الغزي المقيم في السويد، أنه “لا توجد هجرة جماعية ولا تقديم طلبات للهجرة من غزة إلى أوروبا، وعلى العكس تماما، فإن الواقع مختلف كليا”.
وقال في منشور على فيسبوك: إن “معظم الدول الأوروبية، حتى قبل السابع من أكتوبر، شددت من سياسات الهجرة، وبعد صعود اليمين المتطرف في العديد من تلك الدول، أصبحت هذه القضية واحدة من أكثر الملفات تعقيدا”.
وأردف: “على سبيل المثال، السويد، التي كانت نموذجًا في استقبال اللاجئين، استقبلت في العام الماضي (2024) أقل عددا من المهاجرين منذ خمسين عاما”.
وبيّن أنه “في الواقع، هناك دعوات من بعض الجهات اليمينية لترحيل الفلسطينيين، وقد رفضت حكومات أوروبية بشكل قاطع استقبال المرضى من غزة، باستثناء النرويج التي استقبلت أقل من 30 حالة، وذلك بعد ضغوطات شعبية كبيرة”.
وواصل القول: “بحكم اطلاعي وصلتي بعدد من المؤسسات الرسمية المعنية بالهجرة والفيزا الأوروبية، أؤكد أن الحصول على تأشيرة رسمية إلى أوروبا أصبح من شبه المستحيلات”.
ولذلك، رأى أن “الحديث عن إمكانية الحصول على تأشيرة أوروبية في الوقت الراهن غير واقعي”.
وذكر أنه “لا توجد سياسة أوروبية حالية لاستقبال أقارب المواطنين الأوروبيين تحت بند لمّ الشمل، وكل ما يُشاع بهذا الشأن أخبار كاذبة”.
وفي هذا السياق، قال شاب فلسطيني حاصل على الجنسية السويدية: أنه حاول إجلاء عائلته منذ بداية العدوان وحتى الآن تحت بند لم الشمل لكن دون نتيجة.
وأضاف لـ"الاستقلال": “على عكس البلدان من خارج بروكسل، فإن الدول الأوروبية بالعموم لم تفتح المجال للمجنسين الفلسطينيين من أجل لم شمل عائلاتهم وجلبهم من غزة، وهذا مستبعد حدوثه؛ لأن هذه الدول متشددة في قضية الهجرة".
وبالعودة إلى منشور عبدالهادي العجلة، فقد قال: إن عددا محدودا من الطلاب تمكن من الوصول إلى أيرلندا، وذلك بعد جهود كبيرة وتنسيق طويل بين وزارتي الخارجية الكندية والبريطانية.
وبالعموم أكد أن “ما يُتداول حول إمكانية تقديم طلبات في سفارات أو عبر أماكن معينة، يُعد عملية اصطياد وتجنيد (من قبل إسرائيل) ونشر معلومات مضللة”.