"تسوية مؤجلة".. لماذا أخفق البرلمان اللبناني في انتخاب رئيس جديد للدولة؟
.jpg)
بدأت المعركة في لبنان رسميا، بشأن اختيار رئيس الجمهورية الجديد، بعد فشل البرلمان في انتخاب خليفة للرئيس الحالي ميشال عون الذي تنتهي ولايته في 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2022.
وخلال جلسة للبرلمان انعقدت في 29 سبتمبر/أيلول 2022، تعذر حصول أي مرشح رئاسي على ثلثي أصوات النواب، إذ يتطلب فوز أي مرشح رئاسي أصوات ما لا يقل عن 86 عضوا من أصل 128 في مجلس النواب للفوز في الجولة الأولى من التصويت.
وصوت النواب بـ63 ورقة بيضاء (أبطلوا تصويتهم)، وبـ 36 صوتا للنائب المرشح ميشال معوض، و12 ورقة ملغاة، بينما حصد المرشح سليم إدة 11 صوتا.
فشل التوافق
لم يتوقف هذا الإخفاق في أول محاولة على تسمية رئيس لقصر بعبدا في بيروت، بل وصل إلى حد فشل البرلمان في عقد دورة ثانية لانتخاب الرئيس بعد فقدان النصاب القانوني وهو (الثلثان 86 نائبا).
ومباشرة بعيد إعلان النتيجة، بدأ نواب الثنائي الشيعي (حزب الله - حركة أمل) بالخروج من القاعة، ما أدى إلى فقدان النصاب فرفع الرئيس نبيه بري الجلسة.
وبنظرة فاحصة لتفاصيل التصويت والتي تشكل تفكيكا لشكل "التموضعات الحادة رئاسيا" بين القوى السياسية، فقد صوت نواب حزب الجمهورية القوية وحزب اللقاء الديمقراطي وحزب الكتائب وحزب التجدد، لميشال معوض الذي جرى ترشيحه من قبل قوى معارضة.
أما نواب التغيير فصوتوا لـ "إدة"، فيما صوت اللقاء الوطني المستقل لـ "لبنان" ونواب الثنائي الشيعي والتيار الوطني الحر بالورقة البيضاء، كما صوت النائب كريم كبارة لـ"نهج رشيد كرامي".
وميشال معوض من مواليد بيروت عام 1972 ونشأ ضمن عائلة مارونية، وهو ابن رينيه معوض الرئيس الأسبق للبنان من 5-22 نوفمبر/تشرين الثاني 1989 والذي اغتيل بعد تقلده الرئاسة بأيام قليلة في انفجار استهدف موكبه.
ويرأس ميشال حاليا حركة الاستقلال اللبنانية، وهو حاصل على درجة الماجستير بتخصص القانون العام من جامعة السوربون.
ويؤكد مراقبون أن الجلسة كانت بمثابة إحراق لكل الأسماء المرشحة التي جرى التصويت عليها، خاصة أن الكتل واثقة من أنه لن يمر أي من المرشحين نحو قصر بعبدا في الجلسة الأولى للبرلمان لانتخاب الرئيس.
بينما يرى آخرون أن معوض الذي يوصف بأنه رجل الأميركيين الأول في لبنان والمرشح المطروح من السعودية، كان يعمل على خلق لوبي جديد حوله لتأمين عدد أكبر من الأصوات له في الجلسة القادمة.
وعن نفسه قال المرشح النائب ميشال معوض في تصريحات صحفية: "إنني أمثل خيار العودة للدولة والسيادة والإصلاح والتوافق الحقيقي بين اللبنانيين".
وزاد بالقول: "في ظل الانقسام العمودي في البلد لا يمكن أن نأتي برئيس رمادي ضعيف غير قادر على فعل شيء، وحتى لو كان هذا النموذج يأتي بأشخاص أوادم (مسالمين)، لكن سينتج المزيد من الانهيار".
وتدوم فترة ولاية الرئيس 6 سنوات غير قابلة للتجديد، ولا يجوز إعادة انتخابه إلا بعد مرور 6 سنوات على انتهاء ولايته الأولى.
علما أن هذه القاعدة جرى اختراقها في حالتين، في عهد الرئيسين الأسبقين إلياس الهراوي (1989-1998) والعماد إميل لحّود (1998-2007).
"جس نبض"
ويشكل هذا الإخفاق، ضربة جديدة للآمال التي يعقدها اللبنانيون على حلحلة الاستعصاء السياسي، من أجل معالجة الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعصف بلبنان منذ عام 2019 وتتوسع مناحي أضرارها على القطاعات كافة.
وكرس اتفاق الطائف (1989) الذي أنهيت بموجبه الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990) معادلة اقتسام السلطة على أساس المحاصصة التي توزع المناصب الرئيسة على أساس طائفي بين المكونات الأساسية الثلاثة، المسيحي والسني والشيعي.
وتتوزّع الرئاسات الثلاث بواقع: رئاسة الجمهورية للمسيحيين المارونيين حصرا، ورئاسة الحكومة للمسلمين السنة، لتبقى رئاسة البرلمان من حصة الشيعة.
وتعد جلسة البرلمان عبارة عن "جس نبض" على الرغم من مشاركة 122 من النواب، الأمر الذي يؤكد أنها حددت طبيعة التحالفات بين القوى السياسية والتي ستفرز اصطفافات جديدة في مسار اختيار رئيس جديد للبنان خلال الفترة الفاصلة والحاسمة قبل دخول البلاد في فراغ رئاسي وفوضى دستورية.
ولا توجد حاليا حكومة تعمل بكامل طاقتها في لبنان منذ مايو/أيار 2022، لذا فإن الفراغ الرئاسي ينذر بدخول البلاد في مأزق جديد.
وبحسب الدستور اللبناني، في حال خلو سدة الرئاسة لأي علة كانت، تناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة بمجلس الوزراء.
لكن هذا السيناريو يحاول ساسة لبنان تجنبه، وعدم تكراره كما حدث سابقا في الانتخابات الرئاسية السالفة، لأنه "سيمعن في تدمير ما تبقى من معالم للدولة وفي أخذ البلد إلى فراغ قاتل"، وفق ما قال رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط.
وبعد فراغ دام 13 شهرا، ترأس نجيب ميقاتي الحكومة الحالية منذ سبتمبر/ أيلول 2021، وتحولت إلى حكومة تصريف أعمال في مايو 2022 عقب الانتخابات البرلمانية.
ويفترض أن تكثف الاتصالات واللقاءات لاحقا بين الكتل اللبنانية، والفرقاء والمعارضة والموالاة، من أجل اختبار "حسن النوايا" في إنجاز هذا الاستحقاق الرئاسي.
فحزب الله المدعوم من إيران والمهيمن على البلاد بقوة السلاح، يحاول هو وحلفاؤه الترويج على أنه ليس لديهم أي مرشح واحد معين يسعون لطرحه على الطاولة، وهم بذلك يميلون إلى "التوافق" وهذا المطلوب ليصار إلى اختيار الرئيس القادم.
ويرجع توجه حزب الله إلى كونه وحليفه التيار الوطني الحر خسروا الأغلبية النيابية ولم تعد محصورة بيد فريق سياسي معين، إنما بات الثقل موزعا في عدة اتجاهات.
كما أن الجميع يدرك أن "لبننة هذا الاستحقاق الرئاسي" تبدو شبه مستحيلة في ظل التنافس والصراع واستغلال الساحة اللبنانية في لعبة التجاذبات بين الأطراف الدولية وخاصة الطرف الإيراني والأميركي.
وبات الموقف اليوم في لبنان حول انتخاب رئيس جديد، مرهونا بخروج الكتل بتوافق على اسم واحد، ثم يصار إلى دعوة النواب إلى التصويت عليه دون أي عقبات أو عراقيل.
تسوية مؤجلة
وهذا ما أكد عليه الكاتب والمحلل السياسي منير الربيع، لـ "الاستقلال"، بقوله: "إن إصرار عدد من حلفاء السعودية لتسمية ميشال معوض، لها رمزية أساسية كون رينيه معوض هو أول رئيس للجمهورية بعد اتفاق الطائف 1989".
وأضاف ربيع قائلا: "هذا يتطابق مع رؤية الرياض وباريس وواشنطن حول الالتزام باتفاق الطائف، خاصة أنه كان هناك تنسيق من قبل السفير السعودي وليد البخاري في بيروت مع عدد من الكتل للتنسيق لتسمية ميشال معوض".
ولفت المحلل السياسي إلى أنه "أصبح من الواضح أن مجلس النواب غير قادر على تسمية رئيس للبنان".
ومضى يقول: "هذا يتقابل مع عدم امتلاك السعودية وحلفائها في الداخل اللبناني الثلث المعطل القادر على الإطاحة بنصاب أي جلسة انتخاب لاحقا؛ لأن العدد الأكبر من النواب من الطائفة السنية الذين اجتمعوا بدار الفتوى لم يصوتوا لميشال معوض، بل بعضهم صوت باسم لبنان (ورقة ملغاة) والبعض الآخر صوت بورقة بيضاء".
واستدرك ربيع قائلا: "بالتالي فإنه لا ثلث معطلا قادر على منع حزب الله من فرض مرشحه عندما يختار ذلك، أو عندما يتمكن من إقناع حلفائه على السير بمرشح واحد".
وألمح المحلل السياسي، إلى أن "جلسة البرلمان لانتخاب رئيس الجمهورية كانت بمسعى من رئيس مجلس النواب نبيه بري، ليلقي عن كاهله الاتهامات بالمسؤولية عن تأخير انتخاب رئيس للجمهورية".
وكذلك: "التأكيد على أنه دعا للجلسة لكنها فشلت في تأمين فوز أي مرشح، لذلك هو يدعو إلى الذهاب إلى التوافق وهذا رد على (البطريريك الماروني) بشارة الراعي وعلى كل القوى المسيحية"، وفق ربيع.
وذهب ربيع للقول: "لقد فتحت الجلسة المذكورة مسارا جديدا له علاقة ببدء المعركة الرئاسية وليس بالضرورة لإنتاج رئيس قريبا، حيث ستبدأ المفاوضات الجدية بين كل القوى والكتل للبحث عن إمكانية إيجاد قواسم مشتركة للاتفاق على اسم".
واعتبر المحلل السياسي، أن "بري بتوقيت الجلسة وجه رسالة إلى الرئيس عون الذي أراد رفع سقف شروطه حول تشكيل الحكومة وأخبره أنه يدعو سريعا لجلسة انتخابية".
وبين أن "المتوقع عقب ذلك هو حتما الذهاب إلى فراغ، قد يؤدي إلى اقتراب المرشح قائد الجيش الحالي العماد جوزيف عون من دخول القصر الجمهوري".
وختم بالقول: "لا يمكن الوصول إلى اتفاق على انتخاب رئيس الجمهورية في لبنان بدون تسوية بين القوى الداخلية والتي هي انعكاس لتسوية بين القوى الخارجية الذي أرى أنه لم يحن بعد".
"تبرئة ذمة"
ويجمع مختصون بالشأن اللبناني أن جلسة البرلمان، كانت بمثابة "تبرئة ذمة"، وكشفت أن النواب كانوا أشبه "بيتامى التوافق الدولي - العربي والإقليمي على انتخاب الرئيس الجديد"، كما وصفت المشهد جريدة اللواء اللبنانية.
الثابت، وفق الصحيفة، أن الوقت الدولي والإقليمي لم يحن بعد لعملية الانتخاب المرتبط بعضها بترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، وبعضها الآخر بمصير مفاوضات الملف النووي الإيراني.
وكذلك نتائج الانتخابات التشريعية في كل من الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، فضلا عن مشاريع التقارب أو التباعد بين العرب وإيران.
وكشفت مصادر لـ "اللواء"، أن الفرنسيين يبحثون عن تسوية لبنانية شاملة تضمن وصول قائد الجيش جوزيف عون إلى سدة الرئاسة، والتوافق على حكومة سياسية تضمن تطبيق خطة نهوض اقتصادي وتواكب مرحلة بدء استخراج النفط والغاز من المياه اللبنانية.
وعدّت المصادر أن علاقة قائد الجيش ممتازة مع كل الجهات الدولية والعربية، في حين أن علاقته مع حزب الله حذرة ولكن لا فيتو (اعتراض) علني عليه، أقله هذا ما يقوله الفرنسيون.
كما أن المرحلة الحالية تحتاج إلى رئيس يحظى بعلاقات دولية وعربية حتى يتمكن من إعادة ترتيب وضع لبنان السياسي والاقتصادي بعد انهياره خلال مرحلة حكم الرئيس عون.
أما رئيس تيار المردة سليمان فرنجية المرشح الذي يعد حليفا أساسيا لحزب الله والنظام السوري، محاصر حتى اللحظة بعدم موافقة رئيس التيار الحر جبران باسيل على ترشيحه للرئاسة.
ويبدو أن هناك وقتا طويلا قبل أن تحرق القوى السياسية أصوات مرشحيها النهائيين، بعد أن دلت الجلسة الفاشلة، على أنه لا أكثرية محسومة داخل البرلمان، وبالتالي فإن خيار التوافق هو البديل عن الفراغ.
ولهذا فإن انتخاب رئيس صدامي أو محسوب على فريق دون آخر، سيعقد المشهد السياسي، ويزيد من الأزمة الاقتصادية ومن حرمان لبنان من المساعدات المالية ولا سيما من دول الخليج.
وأمام ذلك، فقد بات اللبنانيون يخشون تكرار سيناريو الجلسة الأولى التي عقدت لانتخاب بديل عن الرئيس ميشال سليمان في 23 أبريل/نيسان 2014.
وآنذاك لم تفلح أكثر من 45 جلسة برلمان في انتخاب الرئيس، ليعود المجلس بعد سنتين، أي في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2016 لينتخب الرئيس الحالي ميشال عون.