صراع داخل الجبهة الشعبية.. هل يعود اليسار التونسي إلى التشتت؟

زياد المزغني | 5 years ago

12

طباعة

مشاركة

لا تزال الحياة السياسية في تونس تحمل مفاجآت متنوعة مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية المقررة في بداية أكتوبر/تشرين الأول المقبل، إلاّ أن هذه المفاجآت في جلها لم تحمل سوى المزيد من الانشقاقات داخل الأحزاب السياسية والائتلافات الانتخابية، ما يعمّق التشتت الحاصل في الخارطة السياسية، ويزيد من حيرة المواطن التونسي في اختيار من يمثله في المرحلة المقبلة.

أكّدت استقالة 9 نواب من كتلة الجبهة الشعبية ما كان يروج منذ أسابيع من خلافات داخل الجبهة، والتي تمثل أكبر كتل المعارضة البرلمانية والتحالف الأوسع للقوى اليسارية والقومية منذ العام 2012، ما يمكن أن يقوض حظوظها في الانتخابات المقبلة بعد أن حصلت على 15 نائبا في انتخابات 2014 .

التحالف الهش

في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2012، وبعد عام واحد من انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، التي تصدّرت حركة النهضة نتائجها ومكنتها من قيادة أوّل حكومة منتخبة بعد الثورة، أعلن عشرة أحزاب يسارية وقومية التوجه لتشكيل الجبهة الشعبية، وهي: "حزب العمال، وحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد، وحركة الديمقراطيين الاشتراكيين، وحركة البعث، وحزب الطليعة العربي الديمقراطي، وحزب النضال التقدمي، والحزب الوطني الاشتراكي الثوري، ورابطة اليسار العمالي، وحزب تونس الخضراء، والحزب الشعبي للحرية والتقدم، إضافة إلى جمعيات وأشخاص مستقلين".

وعلى الرغم من أن "الجبهة" تعرف نفسها باعتبارها طريقا ثالثا في مواجهة الاستقطاب الثنائي بين حزبي حركة النهضة ونداء تونس، ويعرفها حمة الهمامي -الناطق باسمها والأمين العام لحزب العمال (شيوعي)- بأنها جبهة "سياسية وليست انتخابية بالأساس ستعمل على تحقيق أهداف الثورة".

وقال الهمامي حين الإعلان عن التأسيس، إن الائتلاف سيعمل قطبا ثالثا إلى جانب حركة نداء تونس "والترويكا الحاكمة". كما قال أيضا: إن الجبهة "ليست موجهة ضد طرف سياسي بعينه"، إلا أنّها تمترست في معارضة راديكالية لحكومة الترويكا التي تقودها حركة النهضة.

هذه الأحزاب التي التقت بعد ما اعتبرته هزيمة لليسار التونسي في انتخابات 2011، حيث كان حضور هذه الأحزاب القومي منها واليساري لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، على الرغم مما وفره القانون الانتخابي التونسي القائم على أساس "أكبر البقايا"، ما يسمح بدخول مرشحين بعدد ضئيل من الأصوات مقارنة بالأحزاب الفائزة، إلاّ أن هذا الالتقاء يخفي وراءه تاريخا من الخلافات الشيوعية-شيوعية منذ سبعينات القرن الماضي، وكذلك خلافات قومية بين البعثيين والناصريين وداخل الخط الناصري نفسه.

ويمثل كل من حزبي العمال الذي تأسس في 3 يناير/كانون الثاني 1986، والوطنيين الديمقراطيين الموحد، الذي يعود تاريخيا إلى 1975 كتطوّر تنظيمي وفكري لتنظيم الشعلة الذي ظهر في 1973، القوتين السياسيتين الرئيسيتين في الائتلاف، وغالبا ما يتنازعان النفوذ داخل الائتلاف، هذا التنازع الذي لم تتمكن سنوات الوئام داخل الجبهة من تجاوزه يعود في الأصل إلى المراحل الأولى لتأسيس اليسار الشيوعي في تونس، إذ دبّت بوادر الخلاف بين الرفاق اليساريين حول مسائل نظرية دفعت بهم إلى تأسيس تنظيمات مستقلة بذاتها.

وبرز أوج الخلاف بين قطبي الجبهة في زمن حكم نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، تحديدا إثر انضمام حزب العمال الشيوعي التونسي إلى "هيئة 18 أكتوبر للعمل والحريات"، والتي ضمت عددا من الأحزاب المعارضة والمنظمات النقابية والمدنية بالتزامن مع القمة العالمية حول مجتمع المعلومات، التي نظمت في تونس في العام 2005، وهو ما اعتبره عدد من الناشطين اليساريين وقياديون في "الوطد" (تيار الوطنيين الديمقراطيين)، في مقدمتهم الأمين العام للحزب الراحل شكري بلعيد، انحرافا داخل اليسار التونسي.

إذ أصدر بيانا في 2006، رافضا لهذا الالتقاء بين مكونات المعارضة جاء في أحد فقراته: "وهل من مجال لغير اعتباره عرضا من أعراض عاهات حديثة أو وراثية لدى اليسار؟ هكذا سارت الأمور وكأنّ للحوار التّعاقدي مع الإسلاميين الأولوية على غيره من الإلحاحات الأخرى كالدّفاع عن المجتمع المدني ومكتسباته الكونية واللاّئكية، والحرص على وحدة العائلة الديمقراطية مع الحفاظ على تنوّعها وثرائها".

خلافات حديثة

اعتبر الوصول إلى اتفاق لتأسيس الجبهة الشعبية، خطوة إيجابية مكنت هذا التحالف من حجز 15 مقعدا داخل مجلس نواب الشعب وحصول مرشحه للانتخابات الرئاسية في 2014 على المرتبة الثالثة خلف الباجي قائد السبسي الرئيس الحالي والرئيس السابق المنصف المرزوقي.

إلاّ أن أول الخلافات الظاهرة للعيان برزت من خلال الموقف الذي اتخذته "الجبهة" بقطع الطريق كما وصفوه على المنصف المرزوقي للوصول إلى قصر قرطاج مرّة أخرى، ما اعتبر حينها دعما للباجي قائد السبسي، وهو ما أكدته صحيفة "الصباح" التونسية في عددها الصادر يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2014، أنّه بالنسبة للمرشح حينها الباجي قائد السبسي، فإن اتخاذ موقف موحد منه لم يكن بالأمر الهین داخل الجبهة الشعبية.

وأكدت الصحيفة، أنه وفقا لما راج عن اجتماعات الجبهة التي سبقت إصدار البیان، فإنه في الوقت الذي رفض فیه حزب العمال ورابطة الیسار العمالي ومستقلین الإعلان "المبكر" عن مساندة السبسي، حسمت تنسیقیات حزب الوطنیین الديمقراطیین الموحد، ومجلس أمانته العامة الموقف، وذلك بتبني التصويت بالإجماع بدعم مرشح حزب "نداء تونس"، وكان للتیار الشعبي، وحركة البعث، وحزب القطب، تقريبا نفس الموقف، في حین اختار حزب الطلیعة والحزب الشعبي للحرية والتقدم الحیاد.

هذا الصراع، وصل أوجه بعد إعلان حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد ترشيح القيادي فيه وعضو مجلس النواب المنجي الرحوي، في استباق لقرار الجبهة التي أقر مجلس أمنائها ترشيح الأمين العام لحزب العمال والناطق الرسمي باسم الجبهة حمة الهمامي.

ومهّد لهذا الخلاف، خلافات متعددة منذ مدّة، حيث انتقد الرحوي الهمامي سابقا في أكثر من مناسبة، لعلّ أهمها تصريح إعلامي في سبتمبر/أيلول 2017، قال فيه: إن "خطاب الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية حمة الهمامي، أصبح غير مقنع ورصيده أصبح ضعيفا، وهو بحاجة إلى الراحة والتجديد وتقديم أشخاص آخرين قادرين على تقديم الإضافة".

وقد انتقدت قيادات في حزب العمال وقتها تصريح الرحوي، ليعلن الرحوي بعدها ترشحه ويؤكد في 13 مارس/آذار 2019، أن مقترح ترشيحه للانتخابات الرئاسية 2019 باسم الجبهة الشعبية، هو ترشيح جدّي وليس مناورة. وأضاف في حديث لإذاعة "موزاييك"، أن "حزبه طرح مسألة التداول على خطة الناطق الرسمي باسم الجبهة باعتبار مسألة التداول هي مبدأ وليس في إطار التشفي".

مستقبل الجبهة

منذ إعلان حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد، ترشيحه الأولي لمنجي الرحوي ليخوض الاستحقاق الرئاسي باسم الجبهة الشعبية، و"الجبهة" تعاني من توتر العلاقات بين مكوناتها التي انقسمت بين من يدعم "الوطد" ومرشحه ومن ينتصر الى حمة الهمامي وحزب العمال.

لكن لم يتوقف الخلاف في حدود هذه الأزمة، فقد ظهرت انشقاقات في صلب حزب العمال الذي يقوده الهمامي منذ تأسيسه في 1986، حيث ضمت قائمة النواب المستقيلين من كتلة الجبهة البرلمانية، عددا من النواب المنتمين للحزب، إضافة إلى استقالة رئيس الكتلة أحمد الصديق من منصبه، وهو ما يثبت عددا من الأخبار الرائجة حول خلافات حادة حول الترشيحات لرؤساء القائمات للانتخابات التشريعية المقبلة.

هذه الأزمة التي أفقدت الجبهة كتلتها النيابية، ربّما قد تفقدها وجودها في المجلس في حال تواصل هذا الانقسام ودخول أحزابها بأكثر من قائمة متنافسة، ما قد يؤدّي إلى تشتت أصواتها وتعثر مرشحي الأحزاب للدخول إلى البرلمان المقبل، في صورة قد تعتبر أسوء من العام 2011 بالنسبة لليسار التونسي.

ولا يستبعد المحلل السياسي صلاح الدين الجورشي في تصريح لقناة "الجزيرة"، أن تؤدي أزمة الاستقالات داخل الجبهة -إذا تم تفعيلها دون إيجاد حلول سريعة- إلى إمكانية انهيار كتلتها وتفكك هذا الائتلاف تماما جراء استفحال الخلافات والصراعات بين مكونات اليسار عموما سواء القوميون والماركسيون".