ما أهمية معركة كردفان في الخريطة العسكرية وموازين القوى بغرب السودان؟

"من يسيطر على كردفان، يملك فعليا مفاتيح الإمداد والتدخل إلى دارفور والخرطوم، بل وحتى أطراف الجنوب الليبي"
في قلب السودان المشتعل، تتقد نيران المعارك يوما بعد آخر، لكن أعين الجميع باتت تتجه صوب ولاية كردفان؛ حيث تتقاطع الجغرافيا مع الإستراتيجية، وتتشابك طرق الإمداد مع مفاتيح السيطرة على العاصمة والمناطق الحيوية.
فبين سهولها المترامية، وجبالها التي تعدّ خطوط دفاع طبيعية، تتحول الولاية إلى ميدان مصيري لا يقبل أنصاف الحلول، فطوال الأشهر الماضية، بدا أن السيطرة على كردفان تعني أكثر من مجرد نصر ميداني عابر.
فهي بحسب مراقبين بوابة التمدد غربا، والمفتاح العسكري والسياسي للضغط على الوسط، وربما للانقضاض على مراكز المتمردين في دارفور؛ حيث منبت الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي" المدعوم إماراتيا.
وهنا بالضبط، تنكشف أهمية هذا الإقليم الواسع الذي صار ميدانا لمعركة تكسير العظام بين القوات المسلحة السودانية ومليشيا الدعم السريع.
ومع تزايد ضراوة الاشتباكات في جنوب وغرب كردفان، وظهور تكتيكات هجومية جديدة من الطرفين، يطرح المشهد جملة من التساؤلات، لماذا يستقتل الجيش والدعم السريع للسيطرة على هذه الولاية تحديدا؟

تصاعد المعارك
ومنذ 14 مايو/ أيار 2025، تشهد ولايات إقليم كردفان تصعيدا عسكريا واسعا بين الجيش والدعم السريع.
وذلك في تطور يرى فيه مراقبون محاولة من الأخيرة لعرقلة تقدم الجيش نحو إقليم دارفور، ومنعه من الدفاع عن مدنه داخل الإقليم المضطرب.
ويعتقد أن المواجهات المحتدمة في ولاية غرب كردفان على وجه الخصوص قد تكون نقطة تحول في الخريطة العسكرية وموازين القوى في غرب البلاد.
وعقب النجاحات التي حققتها القوات المسلحة السودانية في وسط البلاد، لا سيما في ولايات سنار والجزيرة والخرطوم، بدأت وحدات الجيش بالتقدم غربا نحو دارفور عبر ولايات كردفان الثلاث: شمال وجنوب وغرب كردفان.
ويهدف هذا الزحف إلى تأمين الخرطوم والمناطق الوسطى، وإبعادها عن الخطر المتواصل الذي تمثله قوات الدعم السريع.
وقد تمكن الجيش من تحقيق تقدم ملحوظ في جنوب ولاية شمال كردفان؛ حيث استعاد السيطرة على مدينتي "أم روابة" و"الرهد"، كما فك حصار "الأبيض"، عاصمة الولاية.
لكن في الوقت ذاته، ما تزال المناطق الشمالية من الولاية، مثل "بارا"، و"غرب بارا"، و"الحمرة"، و"سودري"، تحت قبضة الدعم السريع.

خريطة سيطرة معقدة
وفي ولاية غرب كردفان، تتقاسم القوات المتحاربة السيطرة على الأرض؛ حيث تسيطر قوات الدعم السريع المتمردة على مناطق عدة من بينها "الفولة"، و"المجلد"، و"أبو زبد"، و"السنوط"، و"غبيش"، و"ودبندا"، و"الإضية"، و"كيلك"، و"لقاوة".
في المقابل، يحتفظ الجيش بالسيطرة على مدن إستراتيجية مثل “بابنوسة”؛ حيث تقع قيادة الفرقة 22 مشاة، إلى جانب "الخوي" و"هجليج" الغنية بالنفط.
أما في ولاية جنوب كردفان، فالقوات المسلحة السودانية تسيطر على غالبية المدن الكبرى، من بينها "كادوقلي" العاصمة، و"الدلنج"، و"أبو جبيهة"، و"العباسية"، و"تقلي"، و"كالوقي".
كما استعاد الجيش بلدة "الدحيليب"، القريبة من معقل الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، بقيادة عبد العزيز الحلو.
وتسيطر الحركة منذ أكثر من 30 عاما على جنوب غرب الولاية، لا سيما محليات "البرام"، و"أم دورين"، و"هيبان" التي تحتضن مدينة "كاودا"، العاصمة الإدارية للحركة؛ حيث تمارس سلطاتها المدنية الخاصة.
وفي شمال الولاية نفسها، تنتشر قوات الدعم السريع في محلية "القوز"، والتي تشهد معارك دامية، في ظل التقدم الذي أحرزه الجيش هناك قبل يومين.
كما تمكنت القوات الحكومية، في 14 مايو/أيار 2025، من استعادة السيطرة على مدينة "الحمادي"، التي كانت تحت سيطرة الدعم السريع منذ بداية الحرب، وتقترب حاليا من مدينة "الدبيبات"، آخر معاقل الدعم السريع في الولاية.

معركة النهود
وبحسب مصادر عسكرية نقلت عنها صحيفة "الراكوبة" السودانية، في 18 مايو 2025، فإن الدعم السريع ترى في التقدم المتسارع لقوات الجيش خطرا حقيقيا. خصوصا من القوة الخاصة المعروفة بـ"متحرك الصياد"، وهي وحدة مشتركة تضم قوات عالية التدريب من الجيش، والحركات المسلحة الدارفورية، وكتائب الدعم اللوجستي، مدعومة بأسلحة متطورة وإمدادات قتالية متكاملة، تهدف للوصول المباشر إلى إقليم دارفور.
وفي إطار التحشيد، دفعت الدعم السريع بتعزيزات عسكرية كبيرة نحو مدينة "النهود"، التي تعد عاصمة مؤقتة لغرب كردفان، وتضم قيادات بارزة، من بينهم رئيس المجلس الاستشاري للدعم السريع، حذيفة أبو نوبة، والمتحدث الرسمي باسم القوات، الفاتح قرشي، بحسب ذات المصادر.
وقد سيطرت قوات الدعم السريع مطلع مايو على "النهود"، التي تحظى بموقع إستراتيجي يربط بين كردفان ودارفور، وتعد مركزا اقتصاديا مهما لاحتوائها على أكبر بورصة للفول السوداني والصمغ العربي، وأحد أبرز أسواق الماشية في غرب البلاد.
كما تقدّمت الدعم السريع باتجاه منطقة "الخوي" غرب النهود، وشرعت في التقدم صوب "الأبيض"، إلا أن الجيش تمكن من صد الهجوم واستعاد "الخوي"، متسببا بخسائر فادحة في صفوف المتمردين.
ووصفت مصادر عسكرية لـ "الراكوبة" هذه الضربة بأنها مشابهة لتلك التي تلقتها قوات حميدتي في منطقة "جبل موية" بولاية سنار في أكتوبر/تشرين الأول 2024، والتي شكلت نقطة تحول حاسمة لصالح الجيش في وسط السودان، ومهدت لاحقا لتحرير ولايتي سنار والجزيرة.
من جهته، رأى حاكم إقليم دارفور، مني أركو مناوي، عبر منشور على "فيسبوك"، أن ما جرى في "الخوي" والمناطق المجاورة يعد "معركة كسر عظم"، مؤكدا أن الدعم السريع قد زج بمعظم احتياطياته وعتاده الثقيل في تلك المواجهة.
وأوضح أن الطريق بات الآن مفتوحا من كردفان إلى "الفاشر"، عاصمة شمال دارفور.
في المقابل، أكدت الدعم السريع أنها ألحقت خسائر فادحة بالجيش وحلفائه، متحدثة عن مئات القتلى وغنائم شملت عشرات المركبات، ومشددة على عزمها مواصلة التقدم في ولايات كردفان ودارفور.

معركة مصيرية
"من يسيطر على كردفان، يملك فعليا مفاتيح الإمداد والتدخل إلى دارفور والخرطوم، بل وحتى أطراف الجنوب الليبي"، بهذه الكلمات استهل الدكتور إبراهيم عبد العاطي، السياسي السوداني تصريحه لـ"الاستقلال".
ويرى أن المعارك الجارية في هذه الولاية تمثل نقطة تحول فارقة في ميزان القوة، وترتبط بشكل مباشر بخارطة السيطرة والنفوذ في غرب ووسط البلاد.
وأوضح عبد العاطي أن "مدينة النهود تمثل بوابة الغرب، والخوي تعد عقدة مواصلات وارتكاز لوجستي حاسم، ومن هنا فإن أي طرف يفرض سيطرته عليهما يستطيع أن يتحكم بالعمق العسكري في مناطق دارفور من جهة، وشمال كردفان من جهة أخرى، مع فتح مسارات نحو الحزام الصحراوي المتاخم لليبيا".
وأضاف أن قوات الدعم السريع، وضمن محاولاتها لتثبيت وجودها في النهود، وبسط سيطرة جديدة على الخوي، لجأت إلى تحريك كتلة عسكرية كبيرة من عناصرها كانت متمركزة حول مدينة الفاشر عاصمة شمال دارفور".
وأشار عبد العاطي إلى أن "قوات الدعم السريع هدفت من هذه الحشود إلى إنشاء خط دفاع عميق يبدأ من الخوي والنهود، ويمتد غربا نحو مناطق بروش وجبل حلة وأم كدادة، ليصل في نهايته إلى مدينة الكومة الواقعة شرق الفاشر، وهي نقطة ذات رمزية إستراتيجية كبيرة في معارك دارفور".
ومع ذلك، يرى عبد العاطي أن هذه التحركات لم تُؤتِ أكلها كما خطط لها الدعم السريع، موضحا أن "الهزائم المتلاحقة التي تلقتها هذه القوات، خاصة في محور شمال كردفان وجنوب دارفور، أسهمت في تبعثرها على أكثر من جبهة، وفتحت الباب أمام الجيش السوداني للتقدم الميداني".
وفي تحليل أشمل، يوضح عبد العاطي أن الجيش السوداني بدوره استوعب جيدا درس سقوط النهود في وقت سابق، وعده جرس إنذار مبكر على خطورة التهاون في إدارة المعركة الميدانية.
"فخسارة المدن الكبرى لا تمحى بسهولة من الذاكرة الإستراتيجية، خاصة أن التجربة القاسية التي مر بها الجيش في بداية الحرب، حينما فقد السيطرة على مراكز حيوية مثل الخرطوم والجزيرة؛ حيث شكلت لحظة انكسار معنوي وعسكري".
ويقول عبد العاطي: إن هذه الدروس جعلت قيادة الجيش تدرك أن ارتداد الكرة إليها مرة أخرى يعني خسارة مساحات حيوية لا يمكن تعويضها بسهولة.
في المقابل يشير عبد العاطي إلى أن الدعم السريع استفادت هي الأخرى من دعم تسليحي خارجي غيّر جزئيا من طبيعة المعادلة.
موضحا أن "الدعم الإماراتي الذي حصل عليه حميدتي سواء في شكل مسيرات أو ذخائر، أسهم في انتعاش عملياتها في عدة محاور، بل وأعطاها جرأة كافية لتوسيع نطاق هجماتها وصولا إلى مدن مثل بورتسودان، وأجزاء من شرق البلاد، في محاولة لاستهداف رمزية السيطرة الإدارية والاقتصادية للدولة السودانية".
ويضيف عبد العاطي أن تلك الهجمات شكلت بدورها حافزا لدى الجيش السوداني لتعزيز تحركاته الأخيرة في كردفان، والعمل على تطويق كل المحاور التي يمكن أن تشكّل منطلقا لهجمات مضادة.
وقال: "إننا أمام جيش يدرك أن أي تراخٍ جديد سيعيد البلاد إلى لحظة الانهيار، وقيادة الدعم السريع تراهن على تفتيت الجغرافيا واستنزاف الجيش ميدانيا، ولذلك فمعركة كردفان بالنسبة للطرفين هي معركة بقاء وفرض إرادة"، يؤكد عبد العاطي.
المصادر
- Sudan army’s strategic gains in Darfur, West Kordofan raise hope of ending El Fasher siege and the war
- هل تغير معارك "كسر العظم" في غرب السودان الخريطة العسكرية؟
- خبير عسكري يوضح أهمية معارك غرب كردفان للجيش
- السودان.. خبراء عسكريون يتوقعون اشتداد وتيرة المعارك في كردفان
- Shifting frontlines: Army and RSF clash over strategic West Kordofan towns