غزو روسيا لأوكرانيا.. ينهي الأحادية القطبية للولايات المتحدة أم يزيد هيمنتها؟

علي صباحي | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، التي تتمتع منذ 2014 بشراكة متصاعدة مع الدول الغربية، وفي مقدمتها، الولايات المتحدة، كثرت التساؤلات عن طبيعة وأهداف السياسة الخارجية الأميركية، وبدأت أُطروحات تتداول عن أفول نجم الأحادية القطبية وبروز عالم متعدد الأقطاب.

ففي أول خطاب له، بعد ساعات من بداية الغزو الروسي في 24 فبراير/شباط 2022، قال جو بايدن، رئيس الدولة العظمى بالعالم سياسيا واقتصاديا وعسكريا، إن جيش الولايات المتحدة لن يحارب في أوكرانيا ضد روسيا، واكتفى بفرض عقوبات مالية.

وفي خطاب حالة الاتحاد مطلع مارس/آذار 2022، أكد بايدن أمام أعضاء الكونغرس، أن واشنطن لن تنشر قوات لمواجهة الهجوم الروسي، ولن تشارك في أي صراع هناك، مشيرا إلى أن الوحدات الأميركية الموجودة في أوروبا، لحماية الحلفاء في حلف شمال الأطلسي "ناتو"، حال طورت موسكو هجومها غربا.

وتُحمل أطراف عديدة الولايات المتحدة، مسؤولية ما آلت الأمور إليه في أوكرانيا، نظرا لتخليها عن الأخيرة بعد ترويجها لسنوات، لسياسة الباب المفتوح أمام الدول الطامحة للانضمام للناتو، وتعزيز شراكتها مع كييف خصوصا على جميع المستويات.

وهو أمر مثّل، وفق محللين، صفعة قوية لعديد من دول العالم التي كانت تعتمد حصرا على أميركا في حماية أمنها، كما يفرض الوضع الجديد على تلك الدول البحث عن خيارات جديدة لحماية مصالحها في عالم متعدد الأقطاب، بدلا من وضعها في سلة واشنطن، كما فعلت كييف.

ومقابل هذا الطرح، يروج فريق آخر إلى أن ما يحدث في أوكرانيا، يصب نسبيا في مصلحة الولايات المتحدة، التي تستغل عودة فزاعة الدب الروسي في تحقيق هدف أهم، وهو توحيد الحلف الغربي (الناتو) من جديد بعدما مزقته خلال العقد الأخير خلافات داخلية عديدة.

خلفية الغزو

سقوط جدار برلين في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 1989، وإعلان انتهاء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي عقب ذلك بثلاثة أسابيع، ثم تفكك الأخير في ديسمبر/كانون الأول 1991، كلها تواريخ مهدت الطريق لتدشين ما يُعرف بعصر الهيمنة الأميركية أو القطب الواحد.

وعن ذلك يقول الباحث والأكاديمي اللبناني وسام إسماعيل، إنه لأكثر من 20 عاما، نجحت أميركا في المحافظة على هذا الإرث، واستطاعت تمتين مشروعها للهيمنة العالمية عبر الجمع بين إطار أيديولوجي جاذب ومجموعة من أدوات القوة الفاعلة، كالناتو والقواعد العسكرية الأميركية المنتشرة بمختلف القارات.

وأضاف إسماعيل في مقال بموقع الميادين الإلكتروني في 25 فبراير 2022، "كما أنها استغلت الاتحاد الأوروبي عبر دمجه بالمنظومة الدفاعية الأميركية وعدم تمكينه، بسبب العلاقات المميزة بينها وبين دول أوروبا الشرقية، من تحقيق استقلاله الأمني".

غير أن هذا الاستغلال بدأ يزعج الأوروبيين، مع نهضة الصين الاقتصادية، واتساع رقعة النفوذ الروسي في السنوات الأخيرة.

إذ بدأت أوروبا في الاختلاف مع أميركا في عديد من المقاربات بعدما وجدت نفسها موضوعة في مواجهة تلك القوتين، على عكس ما تستوجبه الظروف الجيوسياسية، ووصل التأزم بين الجانبين أخيرا إلى درجة التهديد بفض هذا التحالف العسكري.

وطفت هذه الخلافات على السطح بصورة لافتة في 6 نوفمبر 2018 إبان حقبة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، عندما دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى إنشاء "جيش أوروبي حقيقي"، لتمكين الاتحاد الأوروبي من الدفاع عن نفسه مقابل التهديدات كافة.

وقال ماكرون آنذاك في مقابلة مع إذاعة "أوروبا 1"، "علينا حماية أنفسنا بشكل مستقل تجاه الصين وروسيا، وحتى الولايات المتحدة، بدلا من أن تكون أوروبا وأمنها الضحية بين تلك الأطراف".

ولاحقا، هاجم ماكرون حلف الناتو الذي تقوده أميركا ووصفه بالميت دماغيا، مؤكدا أن خلافات كبيرة قائمة داخله بلا حل، من بينها الأمن في أوروبا وعلاقات الحلف مع روسيا، وتوصيف الحلف للعدو المشترك.

في المقابل، هاجم ترامب في 18 ديسمبر 2018، هذا التوجه قائلا عبر تويتر: "فكرة جيش أوروبي لم تسفر عن نتيجة طيبة في الحربين العالميتين الأولى والثانية، لكن الولايات المتحدة كانت هناك من أجلكم، وستكون دائما كذلك".

واتهم ترامب عدة دول أوروبية في مقدمتها برلين بعدم الإيفاء بميزانية الدفاع التي يقرها الناتو، قائلا: "كل ما نطالبكم به هو دفع حصتكم العادلة، ألمانيا تدفع 1.24 بالمئة في حين أميركا تدفع 4.3 بالمئة من ناتجها المحلى الإجمالي، لحماية أوروبا".

تضحية ضرورية

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي كان يملك علاقات مستقرة نسبيا مع ألمانيا وفرنسا، استغل من جانبه ظروف جائحة كورونا وأزمة الطاقة العالمية المتفاقمة في أميركا وأوروبا، وبدأ في حشد عشرات الآلاف من الجنود على حدود أوكرانيا، مع التأكيد أن نيته ليست الغزو بل حماية أمن ومصالح بلاده.

ومع تصاعد المخاوف من عزم بوتين غزو أوكرانيا، وتأثيرات ذلك على الساحة السياسية والاقتصادية، تعالت دعوات الحوار، وهو ما كان ينتظره الرئيس الروسي، وفق مراقبين، فقدم لأميركا قائمة مطالب تحت اسم "ضمانات أمنية" كشرط لخفض التصعيد.

أبرزها انسحاب الناتو من أوروبا الشرقية وعدم إلحاق أوكرانيا بالحلف، وهي مطالب اعتبرتها أميركا "غير مقبولة"، بل وأكدت في أكثر من مناسبة بعد ذلك أنها لن تدخل في حرب ضد روسيا في كييف، نظرا لأنها لم تعد بعد عضوا بالناتو.

وعبر ترك الميدان مفتوحا لبوتين، ليُغرق بلده وجيشه في وحل أوكرانيا، نجحت أميركا في تحقيق هدفين مهمين، وفق رئيس معهد العلاقات الدولية والإستراتيجية الفرنسي، باسكال بونيفاس.

يتمثل الهدف الأول في أن هذا الغزو سوف يجعل أوكرانيا حكومة وشعبا، تحمل عداء عميقا لروسيا يستمر عقودا طويلة، ما يقسم الوحدة السلافية التي يروج لها القوميون الروس.

أما الثاني والأهم، فيتمثل في تقوية العلاقات والروابط بين ضفتي الأطلسي، أي بين أوروبا وأميركا الشمالية، وأيضا الرفع من الإنفاق العسكري داخل دول الناتو، وطلب متزايد وملح على الحماية الأميركية من الدول الأوروبية.

وهو ما يفسر زيادة عدد الجنود الأميركيين المنتشرين في الدول الأوروبية، وأيضا قطيعة في العلاقات بين الأخيرة وروسيا -على الأقل- لن تعود لما كانت عليه أبدا، يضيف المحلل الإستراتيجي الفرنسي لموقع الجزيرة نت في 26 فبراير 2022.

ورؤية إدارة بايدن تحققت بالفعل في وحدة لافتة بين أميركا وأوروبا لم تجر منذ عقود، ظهرت بوضوح في قرارات موحدة بإدانة الغزو، وفرض عقوبات قاسية على روسيا، فضلا عن عمليات دعم عسكري إلى أوكرانيا، تشمل طائرات مقاتلة.

وذلك بعدما كانت بعض الدول الأوروبية تتحرج من هذا النهج، وفي مقدمتها ألمانيا التي كانت ترتبط بعلاقات اقتصادية قوية ومستقرة مع روسيا.

وفي منعطف لافت للسياسة العسكرية التي ظلت برلين تتبعها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أعلن المستشار الألماني أولاف شولتز، في 27 فبراير، تخصيص 100 مليار يورو لصندوق خاص يستهدف تعزيز المنظومة الدفاعية لجيش بلاده.

وقال المستشار الألماني المعروف بميوله الاشتراكية القريبة من روسيا إن هجوم موسكو على كييف يعد أساسا لنقطة فاصلة في السياسة الخارجية الألمانية.

ودعا إلى ضرورة إدراج الصندوق الخاص للجيش في الدستور، مع التنصيص على زيادة الإنفاق الدفاعي بأكثر من 2 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي، بدلا من حوالي 1.5 بالمئة.

وقبلها بأيام، أعلن شولتز في خطوة أغضبت روسيا جدا، تعليق التصديق على تشغيل خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2"، ردا على اعتراف موسكو باستقلال منطقتين انفصاليتين في شرق أوكرانيا، بعد رفض طويل من قبل برلين لمطالب واشنطن بضرورة وقف هذا المشروع الذي يرهن طاقة أوروبا بموسكو.

مكاسب كبيرة

وفي قراءته للمشهد، قال الصحفي والباحث بالعلاقات الدولية محمد عابد، إنه أصبح واضحا الآن أن الولايات المتحدة تحقق مكاسب كبيرة من الغزو الروسي لأوكرانيا، بعد أن كان الحديث قبل أسابيع يتمحور حول خسائرها، من حيث تراجع قبضتها على العالم، وعجزها عن ردع روسيا.

وأضاف لـ"الاستقلال" أنه ظهر أخيرا أن الولايات المتحدة تسير نحو عزل روسيا عن الساحة الدولية وإضعافها اقتصاديا واستنزافها عسكريا، ووضعها أمام تهديد الاضطرابات الداخلية.

هذا إضافة إلى إحياء حلف الناتو وعودة أميركا بقوة إلى مركزية معادلة الأمن في أوروبا.

وأوضح أن كل هذا دفع كثيرا من المراقبين إلى استبعاد إقدام بوتين على غزو أوكرانيا، وخاصة من يدركون عيوب الاقتصاد الروسي وغياب المؤسسية في إدارة البلاد.

من ناحية أخرى، يؤكد الأكاديمي وسام إسماعيل أن بوتين يصر على رفض النموذج الغربي الذي استفرد بالعلاقات الدولية منذ عام 1990، والذي استطاع أن يزرع في الوعي الجماعي العالمي نهاية التاريخ، عبر استحالة ظهور منظومة من القيم الجديدة القادرة على مواجهة منظومة الأفكار الديمقراطية الليبرالية.

ويضيف أن بوتين يعتقد بإمكانية إيجاد بديل نظري صالح للتطبيق، وقادر على تحقيق نتائج أفضل على مستوى تعدّد الأقطاب والأمن الجماعي، في ظل تحول الصين إلى عملاق اقتصادي منتشر بالقارات كافة، والنفوذ الروسي المتمدد أيضا في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية.

وعلى هذا النحو يمكن قراءة النهج الأميركي إزاء أوكرانيا بأنه محاولة أميركية لإعادة النظر بمجمل سياستها الدولية لاستعادة مكانتها ومصالحها.

فضلا عن تعزيز مشاركتها في إدارة المشهد الدولي بشكل أوسع، مع قطع الطريق على أوروبا لأخذ موقف حيادي، وإجبارها على الوقوف بصفها في إدارة المعضلة الروسية الصينية.

قطبان محتملان

وفي نفس الاتجاه رأى الباحث محمد عابد أن المكسب الأهم لأميركا هو قطعها حبال التواصل بين روسيا والأوروبيين، لا سيما الألمان والفرنسيين، من جهة، وبين الصين والأوروبيين عبر روسيا من جهة ثانية.

وفسر ذلك بالقول إن "طريق الحرير الصيني الذي يمر في جزء أساسي منه عبر روسيا شكل لسنوات العمود الفقري لإستراتيجية بكين القائمة على تشبيك العلاقات الاقتصادية والتجارية، بما يضمن لها مواصلة النمو واحتلال موقع أساسي في الاقتصاد الدولي، وتعزيز معادلة الأمن الخاصة بها، قبل الانطلاق، ربما بعد عقود قليلة، نحو منافسة أميركا على الهيمنة".

وأضاف: قد لا تنتهي هذه الجولة بعزل كامل لأوروبا عن روسيا، أو قطع كامل لطريق الحرير، لكنها بالتأكيد أهم محطة في هذا المسار، الذي قدم فيه بوتين خدمات كبيرة للأميركيين، على الأقل منذ التدخل العسكري في جورجيا (2008)، واستعادة "البعبع الروسي" تدريجيا.

ولفت عابد في هذا السياق إلى أنه من المثير للاهتمام أن الولايات المتحدة لا تخشى عبر هذه السياسة من دفع روسيا إلى أحضان الصين، أو العكس بالعكس. 

وأرجع ذلك لثقة واشنطن المطلقة بأن الجانبين لا يمكن أن ينشأ بينهما تحالف إستراتيجي، وهي نظرة قديمة جدا، وصرح بها علانية وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر أمام لجنة الخارجية بمجلس الشيوخ، أثناء نقاشه ملف توسيع الناتو في أوروبا، عام 1997.

وحتى لو تحالف الجانبان على مستوى القيادة الحالية فإن انعكاسات اعتماد الصين المفرط على موارد الطاقة الروسية، أو اعتماد الاقتصاد الروسي بشكل كامل أو شبه كامل على رأس المال الصيني، سيجعل بين الجانبين وحدة مصير، تعني أن انهيار أحدهما سيؤدي بالتأكيد إلى انهيار الآخر، يضيف عابد.

كما أشار الباحث في العلاقات الدولية إلى أن المشكلة الوحيدة التي سيواجهها بايدن والديمقراطيون في نهاية هذا المطاف هي استمرار التضخم وارتفاع أسعار النفط بشكل جنوني.

واستدرك أنه رغم أضرار أسعار النفط والغاز المرتفعة، على القطاع الأكبر من الشعب الأميركي، فإنها تخدم الشركات المحلية ومن ثم آلاف العاملين فيها.

وتابع: على أية حال، يعاني بايدن من تراجع حاد لشعبيته، وهذا سابق لأزمة أوكرانيا بكثير، وسيكون مثيرا مراقبة خطواته في الأشهر القليلة المقبلة لتجنب مصير خسارة الأغلبية في الكونغرس في خريف 2022.

وختم بالقول: "مع الأسف، بوتين قدم بخطواته غير المدروسة جيدا خدمات كبيرة للولايات المتحدة، وأبعدنا أكثر من فرصة خلق توازن حقيقي في هذا العالم".