خوذاتها أثارت سخرية أوكرانيا.. لماذا تصر ألمانيا على لعب دور أسد بلا أنياب؟

علي صباحي | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

بينما يتصاعد التوتر على الحدود الأوكرانية بين روسيا التي حشدت هناك أكثر من 100 ألف جندي، والغرب الذي يواصل إمداد كييف بمساعدات مالية وعسكرية، تتخذ ألمانيا، العملاق الأوروبي على صعيد التاريخ والاقتصاد، موقفا يثير شكوكا وأطروحات عديدة.

وخلال الأشهر الأخيرة، توالت إعلانات دول حلف شمال الأطلسي "ناتو"، وفي مقدمتها، الولايات المتحدة وبريطانيا وحتى دول البلطيق الصغيرة، بشأن إرسال أسلحة دفاعية وفتاكة لأوكرانيا، فيما اكتفت ألمانيا حتى اليوم بإرسال 5 آلاف خوذة ومعدات طبية.

ويمثل هذا الأمر، وفق خبراء بالسياسة والعلاقات الدولية، تحولا تاريخيا استثنائيا، فبعدما كان ينظر إلى الألمان لمدة نحو ألفي عام على أنَهم أكثر الشعوب العسكرية رعبا في العالم، وصل الأمر إلى اتهام مسؤولي أوكرانيا لهم بالضعف، دون مبالاة من ألمانيا، شعبا وحكومة.

وتطالب موسكو بـ"ضمانات أمنية" كشرط لخفض التصعيد المتواصل منذ شهور، أبرزها انسحاب الناتو من أوروبا الشرقية وعدم إلحاق أوكرانيا بالحلف، وهي مطالب يعتبرها الغرب غير مقبولة.

موقف غريب

في 26 يناير/كانون الثاني 2022، أعلنت الحكومة الألمانية الجديدة التي تولت مهامها نهاية 2021 دعمها أوكرانيا بـ5 آلاف خوذة عسكرية، مؤكدة رفض إرسال أية أسلحة لكييف التي تواجه مخاطر حقيقية بشأن تعرضها لغزو روسي وشيك.

وفي تصريحات أثارت موجة من الانتقادات والسخرية، قالت وزيرة الدفاع الألمانية كريستين لامبرخت، على هامش اجتماع للجنة الدفاع في البرلمان: "عاينا المسألة، وسنرسل 5 آلاف خوذة إلى أوكرانيا، إضافة إلى مستشفى ميداني".

وأكدت: "هذه أعتدة، وليست أسلحة. لكنها توفر الدعم، وهذه هي تماما الطريقة التي سنواصل بها العمل في هذا النزاع إلى جانب الأوكرانيين، وهي علامة واضحة جدا على أننا نساندكم".

بعد يوم من هذا الإعلان، قال رئيس بلدية العاصمة الأوكرانية كييف، فيتالي كليتشكو لصحيفة بيلد الألمانية: "5 آلاف خوذة! إنها مزحة"، مضيفا: "ماذا سترسل ألمانيا فيما بعد للدعم؟ وسائد؟!".

وفي معرض تعليقه على الخطوة، قال السفير الأوكراني في برلين إندريج ملنيك، لوسائل إعلام ألمانية: "هذا لا يلغي مسألة إرسال الأسلحة التي نحتاجها بشكل ملح".

لكنه صعد من حدة انتقاداته في 3 فبراير/ شباط 2022، متهما عبر تويتر الحكومة الألمانية بأنها مستمرة في دفن رأسها بالرمال.

وقال: "يشعر الأوكرانيون بخيبة أمل إزاء رفض الحكومة الألمانية الجائر تسليم أسلحة دفاعية إلينا، يجب وقف تلك السياسة التي تتشبه بالنعام".

وقبل هذا الإعلان، وجهت أوكرانيا انتقادات شديدة إلى ألمانيا بسبب رفضها إرسال أسلحة، حتى الدفاعية منها، خلافا لما تفعل الولايات المتحدة وبريطانيا وبولندا، فضلا عن دول البلطيق الثلاث، ليتوانيا، ولاتفيا، وإستونيا.

وبلغت الانتقادات أشدها في 22 يناير 2022، عندما استدعت وزارة الخارجية الأوكرانية، السفيرة الألمانية في كييف، أنكا فيلدوسن، للتعبير عن خيبة الأمل العميقة إزاء موقف حكومة بلادها فيما يتعلق بإمداد أوكرانيا بالأسلحة الدفاعية.

وخلال الاستدعاء، أعربت الخارجية الأوكرانية، وفق بيان آنذاك، عن  رفضها القاطع لتصريحات قائد القوات البحرية الألمانية كاي أخيم شونباخ، التي دافع فيها عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأكد أن شبه جزيرة القرم لن تعود أبدا إلى أوكرانيا.

وأثار شونباخ عاصفة دبلوماسية عندما وصف في كلمة عبر الفيديو بمركز أبحاث هندي، فكرة غزو روسيا لأوكرانيا بأنها "هراء"، مؤكدا أن "بوتين يستحق الاحترام". وبعد 24 ساعة من هذه التصريحات اضطر إلى الاستقالة.

ولم تقتصر الانتقادات على مسؤولي أوكرانيا، إذ قال وزير دفاع لاتفيا أرتيس بابريكس، إن "علاقة ألمانيا غير الأخلاقية والمنافقة مع روسيا أحدثت شرخا بين أوروبا الغربية والشرقية".

وأضاف في تصريحات لصحيفة "فاينانشيال تايمز" البريطانية في 28 يناير 2022، أنه "لا يمكن تحقيق أمن أوروبا دون دور قيادي ألماني، لكن إذا نظرنا حاليا إلى سياستهم يبدو واقع الجيش الألماني، والتردد في استخدام القوة العسكرية، وكأنه أمر سخيف".

وشدد بابريكس على أن "الألمان نسوا بالفعل أن الأميركيين كانوا يمنحونهم الأمن في الحرب الباردة. لكن يجب عليهم تذكر ذلك. إنه واجبهم الأخلاقي".

وفسر الموقف الألماني بالقول إن "أوروبا الغربية كانت دوما أبعد من روسيا، وعاشت دولها في سلام لسنوات، تفكر فقط في الغاز والصادرات والتعاون الاقتصادي. لكن الأمر مختلف في البلدان المجاورة لموسكو. فالأسلحة بالنسبة لنا أمر وجودي".

ارتباك واضح

وتؤكد الباحثة في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية (مستقل)، جنى بوغلييرين، أنه منذ تشكيل الحكومة الألمانية الجديدة في ديسمبر/كانون الأول 2021، بقيادة الديمقراطي الاشتراكي أولاف شولتز، والارتباك يخيم على السياسة الخارجية للبلاد تجاه روسيا.

وتوضح وفق ما نقلته عنها وكالة الأنباء الفرنسية في 23 يناير 2022 أن المواقف المتضاربة تسيطر على ائتلاف "لوحة المرور" الذي يقود ألمانيا حاليا، والمكون من أحزاب، الديمقراطي الاشتراكي، والليبرالي الحر، والخضر.

وأجرت زعيمة الخضر، وزيرة الخارجية بالحكومة، آنالينا بيربوك زيارة إلى كييف في نهاية يناير أكدت خلالها أن بلادها ستفعل "كل ما يلزم لضمان أمن أوكرانيا".

ويبدي المستشار الألماني أيضا الحزم نفسه، وأكد في أكثر من مناسبة، لا سيما خلال زياراته الثلاث إلى واشنطن وموسكو وكييف في الأسبوعين الماضيين، أن كل تعد روسي على أوكرانيا سيكون "ثمنه باهظا".

لكن حتى الآن، يظل موقف ألمانيا بشأن الأزمة الروسية ضمن الحد الأدنى، وتصريحات مسؤوليها عامة، وقصيرة جدا، ومنمطة، وغالبا تأتي فقط ردا على أسئلة، وفق وكالة الأنباء الفرنسية.

وأثار شولتز نفسه هذا الارتباك والغموض عندما وصف عدة مرات مشروع "نورد ستريم 2" الإستراتيجي لنقل الغاز من روسيا إلى ألمانيا بأنه "مشروع خاص ويجب أن يبقى خارج أزمة أوكرانيا".

ولفتت صحيفة "دي تسايت" الألمانية في نهاية يناير 2022 إلى أنه بالنسبة للعديد من مسؤولي الحزب الاشتراكي الديمقراطي (حزب شولتز)، فإن كلمة روسيا تحيي شيئا من الحنين لمبدأ "الأوستبوليتيك".

ويعني هذا المبدأ سياسة التقارب مع موسكو التي بدأها المستشار فيلي برانت في السبعينيات، والتي لا يزال ينظر إليها على أنها احتمال لتحقيق التقدم من خلال الحوار.

ولطالما روج الاشتراكيون الديمقراطيون للتقارب مع روسيا، حتى في أيام وجود الاتحاد السوفييتي.

ويضم الحزب عديدا من المتفهمين لبوتين، لعل أبرزهم المستشار الألماني السابق غيرهارد شرودر (1998 - 2005)، الذي شجب سابقا الأوكرانيين، وليس الروس بسبب تهديدات بشأن الحرب.

وليس غريبا أنه تولى عقب هزيمته في انتخابات 2005 أمام أنغيلا ميركل، مجلس إدارة شركة "غازبروم" الروسية العملاقة للطاقة.

لكن المستشارة الألمانية السابقة ميركل أيضا، وطوال سنواتها الـ16 في السلطة، حافظت على العلاقة مع روسيا، وفصلت الخلافات الجيوسياسية عن المصالح الاقتصادية بين البلدين.

و"نورد ستريم 2" مشروع خط أنابيب لنقل الغاز الطبيعي بطول 1200 كيلومتر، من غربي روسيا إلى ألمانيا تحت بحر البلطيق، وينظر له على أنه ورقة مساومة رئيسة في الجهود الغربية المبذولة للحيلولة دون غزو روسي محتمل لأوكرانيا.

وبمجرد تشغيل خط الأنابيب الذي تكلف مليارات الدولارات، والذي ما زال ينتظر الترخيص النهائي من هيئة تنظيم الطاقة الألمانية، ستتضاعف كميات الغاز التي ترسلها روسيا إلى ألمانيا.

لكن المشروع تعرض لانتقادات من دول أوروبية إضافة إلى الولايات المتحدة، خشية استخدام روسيا الغاز كسلاح لزيادة نفوذها في القارة، ناهيك عن أنه يحد من أهمية خطوط الأنابيب الأرضية الموجودة في بعض دول أوروبا الشرقية، مثل أوكرانيا وبولندا، ما يعني خسارتها ملايين الدولارات سنويا كرسوم عبور.

بينما تلقى المشروع منذ إنشائه دعما قويا من ألمانيا عبر حكومتي شرودر وميركل المتعاقبتين، وتأمل ألمانيا في أن يخفف الضغط عليها وعلى إمدادات الطاقة في أوروبا.

ورفعت الولايات المتحدة العقوبات التي فرضتها إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب على الشركات الألمانية بسبب "نورد ستريم 2 " بعد مفاوضات بين ميركل والرئيس الأميركي جو بايدن.

لكن بايدن قال في يناير 2022 إن "نورد ستريم 2 سيغلق" إذا ما غزت روسيا أوكرانيا.

بالمقابل، تصر روسيا على أن "نورد ستريم 2" قضية اقتصادية وينبغي عدم تسييسها، وادعت أن الدافع الفعلي وراء معارضة واشنطن للمشروع أنها أكبر منتجي النفط والغاز في العالم، وتأمل ببيع المزيد من النفط والغاز الأميركيين إلى أوروبا.

"ثمن هتلر"

وفي قراءة أخرى للمشهد، أكد الصحفي والمؤرخ العسكري البريطاني الشهير ماكس هاستينغز، أن ألمانيا اليوم تعد الحلقة الأضعف طوال تاريخها على صعيد تعزيز الدفاع والأمن الأوروبيين.

وقال في مقال نشرته وكالة بلومبيرغ الأميركية في 16 فبراير 2022، إن الألمان اختلفوا مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب حول أشياء كثيرة، لكن كان له ما يبرره في مهاجمتهم، نتيجة إحجامهم عن دفع حصة عادلة من تكاليف الدفاع لحلف الناتو.

فكانت الولايات المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية أكثر ثراء، واستفادت كثيرا من الصراع في أوروبا، وبناء عليه تحملت جل الضغوط والتكاليف المادية.

لكن تلك الأيام ولت منذ زمن طويل؛ إذ يبلغ الناتج المحلي الإجمالي لألمانيا اليوم 3.8 تريليونات دولار، أو 46 ألف دولار للفرد، مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة البالغ 24 تريليون دولار أو ما يقرب من 60 ألف دولار للفرد.

وفي حين تنفق الولايات المتحدة 3.7 بالمئة من ناتجها المحلي الإجمالي على قواتها المسلحة؛ تقاوم ألمانيا بعناد أي محاولة جادة للوصول إلى هدف الناتو المتفق عليه، والبالغ 2 بالمئة، وتقدر نسبتها الحالية بـ1.4 بالمئة.

وأوضح هاستينغز أن الأوكرانيين يطالبون الألمان بـ"الاستيقاظ" لأن "العالم أصبح أكثر خطورة"، و"لا يمكن لألمانيا السماح لنفسها بالبقاء على الحياد والاستمرار بالنوم، والاستمتاع بحياة مريحة".

بينما يدعم الألمان بأغلبية ساحقة رفض حكومتهم اتباع نهج بريطانيا مثلا في شحن الأسلحة إلى أوكرانيا، لا سيما مدافع "هاوتزر" ألمانية الصنع التي تطلبها كييف.

وأشار المؤرخ العسكري البريطاني إلى أنه رغم القوة الرسمية للقوات المسلحة الألمانية التي تتكون من أكثر من 183 ألف فرد، لا أحد ينظر إليهم على أنهم محاربون حقيقيون.

وأكد هاستينغز أنه أجرى محادثات مع ضباط ألمان كبار محرجين بسبب عدم رغبة بلادهم في التفكير في قتال أي شخص، ولكن هذا الواقع المتمثل برفض الجيش الألماني للحرب يعكس إرادة أمته.

كما لفت إلى قول وزيرة الخارجية أنالينا بربوك خلال زيارتها الأخيرة إلى كييف، إن ألمانيا تتصرف بطريقة "مسؤولة تاريخيا".

حسابات الحرب

وأوضح هاستينغز أن الوزيرة بهذا القول تعني أنه حتى بعد أكثر من 70 عاما؛ ما تزال ذكرى الحرب العالمية الثانية تلقي بظلالها القاتمة، وكيف لا؟ في ظل سيل الأفلام والبرامج التلفزيونية والكتب، التي تذكر العالم بالأفعال المروعة التي ارتكبها شعب القيادي النازي أدولف هتلر.

وأضاف إنني كثيرا ما أسمع رثاء ساخرا من ضباط بريطانيين عند مناقشة الحاجة إلى تعزيز دفاعات أوروبا، بالقول: "لقد بالغنا في تجريد ألمانيا من السلاح فأصبحت البلاد واحدة من أكثر المجتمعات ازدهارا على وجه الأرض، ولا ترى أي حاجة للتنازل عن هذا الإنجاز من خلال تحويل المناجل إلى سيوف مرة أخرى".

وختم مقاله بالإشارة إلى أن هذا الوضع يظهر مفارقة شاملة تعكس تماما ما حدث في القرن العشرين.

فبينما غضت بريطانيا وفرنسا قبل الحرب العالمية الثانية نظرها لفترة طويلة عن الخطر الذي شكلته النزعة العسكرية النازية، ودفع أجدادنا ثمنا باهظا لذلك، تبديان الآن الاستعداد للوقوف في وجه طموحات بوتين.

لكن الحكومة الألمانية وشعبها يواصلون دفن رؤوسهم بعمق وبإصرار في الرمال، ما يدفعنا للتساؤل: "هل ما تزال أوروبا تدفع ثمن هتلر؟".

من جانبه، يرى المحلل الإستراتيجي السعودي حسين شبكشي، أن هناك قناعة متزايدة في بعض دوائر صناعة القرار الأميركية أن أزمة أوكرانيا لا علاقة لها بكييف نفسها ولكنها تعني ألمانيا، وتحديدا علاقتها بروسيا.

وأضاف في مقال نشرته صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في 15 فبراير 2022 أن العلاقة الآن بين روسيا وألمانيا مبنية بشكل أساسي على مصالح اقتصادية، أبرزها مشروع "نورد ستريم 2"، الذي ترى فيه واشنطن تهديدا مباشرا وصريحا للمصالح الغربية في أوروبا.

فصناع القرار الأميركيون لا يريدون أن يزيد الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية، لأن التجارة تبني الثقة، والثقة تبني التوسع في الاستثمار، وكلما زاد الدفء في العلاقات تتقلص القيود التجارية والقانونية بينهما، فتزيد معدلات التبادل التجاري والسفر والسياحة.

وبالتالي يجري بناء منظومة أمنية مشتركة بينهما، ومن ثم، وهذا الأخطر بالنسبة لواشنطن، لن يكون هناك داع لأسلحة أميركية ولا منظومة دفاع وصواريخ، ولا حتى للناتو نفسه بأن يستمر في الوجود في ألمانيا أو حتى في أوروبا بعد ذلك.

وأيضا لن يكون هناك احتياج لممارسة العمليات التجارية بالدولار، لذا تريد أميركا الوقوف أمام كل هذه الأطروحات، وجعل العداوة قائمة على الدوام.

ويتماشى مع هذا الطرح، مقولة عالم السياسة الأميركي الشهير جورج فريدمان، إن "الاهتمام الأساسي للولايات المتحدة الذي دخلت من أجله الحربين العالميتين الأولى والثانية كان العلاقة بين ألمانيا وروسيا، لأنهما في حالة توحدهما ستصبحان قوة قادرة على تهديد أميركا، لذا يجب العمل على ألا يحدث ذلك".