تضاعف 3 مرات منذ "طوفان الأقصى".. لماذا يتزايد الانتحار بين عسكر إسرائيل؟

"لسنا الضحايا، بل نحن الجناة. هذا هو الثمن"
منذ انطلاق عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تضاعفت حالات الانتحار في جيش الكيان الإسرائيلي ثلاث مرات، على خلفية جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبها جنود وضباط الاحتلال في قطاع غزة.
وفي تقريرها عن الموضوع، تقول صحيفة “لافانغوارديا” الإسبانية: إن حالات انتحار عسكر الاحتلال تأتي بسبب الصدمة جراء حرب الإبادة في غزة، قد شهدت تصاعدا ملحوظا، وكان آخرها في مدينة أسدود المحتلة قبل أيام.

“شيطان بداخلي”
ففي الثالث من ديسمبر/ كانون الأول 2025، عثر في هذه المدينة على جثة تعود لتوماس أدزغاوسكاس، الضابط السابق في الجيش الذي كان قد شارك في إبادة غزة وكان قائدا لوحدة قناصة قبل انتحاره.
لكن في هذه المدينة الصغيرة، لم ينتظروا الصحافة لمعرفة هوية الضابط المنتحر. فقبل ساعات من انتحاره، نشر أدزغاوسكاس رسالة على منصة فيسبوك قال فيها: "هناك شيطان بداخلي يطاردني [...] لقد ارتكبت أفعالا لا تُغتفر، ولم أعد أستطيع التعايش معها".
منذ بدء الإبادة في غزة، انتحر ما لا يقل عن 62 جنديا في الخدمة الفعلية داخل جيش الاحتلال.
ومقارنة مع العقد الذي سبق سنة 2023، تضاعف عدد حالات الانتحار السنوية بين القوات الإسرائيلية ثلاث مرات.
ونوهت الصحيفة إلى أن نسبة التفكير في الانتحار ارتفعت بنسبة 145 بالمئة. ووفقا لبيانات نشرها الجيش في أكتوبر، حاول 279 فردا من القوات المسلحة الانتحار خلال عامي الإبادة في غزة.
في هذا المعنى، صرحت تامار شيموني، نائبة مدير إدارة التأهيل في وزارة الدفاع الإسرائيلية، بأن وحدتها شهدت زيادة "غير مسبوقة" في عدد المرضى؛ حيث وصل هذا الرقم إلى ما يقارب 85 ألف مريض.
زيادة عن ذلك، يضطر أخصائي علم النفس العسكري الواحد الآن للتعامل مع ما يصل إلى 750 حالة.
وتسجّل هذه الأرقام على الرغم من تعيين 800 معالج جديد منذ السابع من أكتوبر، وتخصيص نصف ميزانية إدارة شيموني للصحة النفسية، حوالي 2.2 مليون يورو سنويا، وإنشاء خط مساعدة هاتفي يعمل على مدار الساعة.
من جانب آخر، دعا عضو الكنيست اليساري، عوفر كاسيف إلى تشكيل لجنة تحقيق.
وكشف تقرير صادر عن هذه المبادرة، نشر في الأسابيع الأخيرة، أن الجنود المقاتلين شكلوا 78 بالمئة من إجمالي حالات الانتحار في جيش الدفاع الإسرائيلي سنة 2024، مقارنة بنسبة ما بين 42 و45 بالمئة بين سنتي 2017 و2022.

“شعور بالخزي”
ووفقا لدراسة أخرى أجراها الباحثون ليا شيلف ولوسيان لور وإيال فروختر، فإن الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 19 و20 عاما، هم النسبة الأكبر من بين الجنود الذين أقدموا على الانتحار.
وتشمل الفئة الأكثر عرضة للخطر أيضا المجندين الذين يتمتعون بصحة بدنية جيدة، وقدرات نفسية عالية، والذين هم من الملحقين بوحدات الخطوط الأمامية، مثل توماس أدزغاوسكاس.
ونقلت الصحيفة أن هذا العامل يفسر الكثير؛ حيث تبرز أزمة الصحة النفسية التي تعصف بالجيش الإسرائيلي بشكل جليّ بين صفوف الفرق المسؤولة عن مقتل أكثر من 70 ألف فلسطيني في غزة.
وقد صرّح أحد مشغلي الطائرات المسيّرة في قطاع غزة لصحيفة هآرتس: "تلقيت أوامر بإطلاق النار على شخصين قرب طريق نيتساريم. تبيّن أنهما طفلان، ربما كانا يبحثان عن الطعام. في البداية، لم أشعر بشيء، ولكن بعد ذلك، كلما أغمضت عينيّ، رأيتُ وجهيهما. غمرني شعور بالخزي. لم أعد الشخص نفسه منذ ذلك الحين".
وتذكر نفس المقالة في صحيفة هآرتس ضابطا من نفس الوحدة الجوية انتحر بعد أن قرر الجيش تجاهل تدهور حالته النفسية وإبقائه في منصبه لأنه كان عنصرا "لا غنى عنه".
خلال الأشهر القليلة الماضية، ظهرت حالات أخرى لأشخاص تم تجنيدهم بسبب نقص الجنود، رغم معاناتهم من اضطراب ما بعد الصدمة، أو مشاكل نفسية، أو حتى إعاقة ذهنية تتجاوز 50 بالمئة.
وقد اعترف قائد وحدة مدرعة احتياطية قائلا: "نلجأ حتى إلى أولئك غير المستعدين بالكامل، سواء ذهنيا أو بدنيا. ليس لدينا خيار آخر".
ويوضح جويل كارمل، الجندي السابق والعضو الحالي في منظمة "كسر الصمت"، وهي منظمة غير حكومية تضم عسكريين سابقين: "من الواضح أن شيئا ما قد تغير في السنوات الأخيرة، خاصة منذ السابع من أكتوبر".
ويضيف: "إنهم يرسلون الجنود لارتكاب أفعال أشبه بالجنون. نشهد ردود فعل متطرفة للصدمات، مثل الانتحار. ولكن هناك أيضا جوانب أخرى أقل شيوعا: أشخاص لا يستطيعون العودة إلى حياتهم الطبيعية، ولا يستطيعون تكوين أسرة أو الحفاظ على وظيفة؛ وحالات عنف أسري".

“نحن الجناة”
ونقلت الصحيفة عن كارمل أن "هذه الجوانب قد أثّرت بشدة على المجتمع الإسرائيلي، لا سيما مع استدعاء الكثيرين للخدمة الاحتياطية: ليس فقط الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و21 عاما، بل أيضا رجال خدموا قبل 10 سنوات وهم الآن في الثلاثينيات أو الأربعينيات من عمرهم".
ويضيف موضحا: "هذه نتيجة لسياسات الحكومة في السنوات الأخيرة. لكننا لسنا الضحايا، بل نحن الجناة. هذا هو الثمن، وهو ثمن باهظ. ما كان ليحدث شيء من هذا القبيل لولا رغبة الحكومة".
في القدس، على بعد أمتار قليلة من الكنيست، أقام جنود في الخدمة الفعلية وقدامى المحاربين الذين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة مخيما احتجاجيا. ويطالبون بمزيد من الحقوق، والحصول الفوري على الدعم النفسي، وأن يصدر البرلمان قانونا يعالج اضطراب ما بعد الصدمة.
وأشارت الصحيفة إلى أن حالة الندم هذه لا تشمل جميع من قاتل في غزة؛ فبينما يحاولون الاندماج مجددا في الحياة المدنية، يتفق كثيرون على أنهم سيعودون "فورا" للقتال في غزة إذا طُلب منهم ذلك.
لكن هناك من يختارون، مثل أدزغاوسكاس، أن يعلنوا جهرا أن المشاركة في مجزرة تترك "شياطين" لا يمكن علاجها.














