كيف عمل المعتقلون السوريون في سجون الأسد على ترك الأدلة لمحاسبة جلاديهم؟

مصعب المجبل | منذ ٣ أشهر

12

طباعة

مشاركة

لم يتخيل السوريون أن يوثق المعتقلون في أقبية نظام بشار الأسد، أدلة وجودهم بها على جدران السجون والمسالخ البشرية؛ لتدعيم محاسبة قتلتهم وجلاديهم.

فبعد سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024 وفتح السجون وإخراج من تبقى فيها حيا، تكشفت شيئا فشيئا الوحشية التي كان يتعرض لها المعتقلون قتلا وتعذيبا علاوة على إقامة حفلات إعدام جماعية بحقهم.

توثيق الأدلة

ما كان لافتا هو أن هؤلاء المعتقلين حرصوا على ترك أثر يدل على وجودهم داخل تلك السجون، ولا سيما أن النظام البائد لم يكن يعطي أي معلومة عن المعتقل لذويه أو حتى مكان اعتقاله.

فقد كان نظام الأسد يعمد إلى الإخفاء القسري بحق من اعتقلتهم الأجهزة الأمنية على خلفية الثورة السورية التي اندلعت عام 2011.

وقد حرص الأهالي والناشطون السوريون على دخول السجون وتوثيق الكتابات والرسومات والإشارات التي دوّنها المعتقلون كإثبات على وجودهم وحرصا منهم على تدعيم ملفات المحاسبة ضد قاتليهم وتأكيدا لمبدأ العدالة الانتقالية.

ويرى السوريون أن كتابة أسماء المعتقلين على الجدران، تعد أحد الأدلة الدامغة على تورط رئيس الفرع الأمني وعناصره في التسبب بتعذيب أو قتل الضحايا.

واستخدم المعتقلون نواة الزيتون وألواح الصابون وبقايا دمهم في كتابة أسمائهم، بينما تحدث عدد من الذين كتبت لهم الحياة منهم أن البعض كان يستخدم أظفاره لكتابة اسمه لأيام غير آبه بالألم الذي يتكبده في سبيل هذه الخطوة لضمان محاسبة السجانين.

وحتى سقوط نظام بشار الأسد البائد، كان هناك 48 فرعا أمنيا في عموم سوريا، مارست منذ زمن والده حافظ أفظع أنواع التعذيب المنهجي بشكل يومي بحق المعتقلين.

وكان هناك أربعة فروع رئيسة بسوريا في زمن الأسد الهارب إلى روسيا، هي: المخابرات الجوية (الأمن الجوي)، والمخابرات العسكرية (الأمن العسكري)، والمخابرات العامة (أمن الدولة)، والأمن السياسي.

وبحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، تسببت تلك الأفرع الأمنية في اعتقال أكثر من 136 ألف شخص وإخفائهم قسرا على خلفية الثورة، ولم يخرج منهم عند تحرير البلاد سوى 24 ألفا و200 شخص أما الباقي فغالب الظن أنهم قتلوا.

وفي جميع غرف السجون الجماعية والفردية، كان المعتقلون يدونون أسماءهم إلى جانب اسم بلداتهم ومدنهم وعام الاعتقال.

وأكد الناشط السوري جميل الحسن الذي طاف على السجون بكاميرته ووثق الكتابات على الجدران أن أهالي مدينة كفرنبل في ريف إدلب أقاموا بيوت عزاء لأكثر من 100 معتقل.

وداخل أحد فروع المخابرات الجوية اكتشف الحسن كتابات لمعتقلين من كفرنبل، وقال: إن بعضهم كان معه في جامعة حلب وجرى اعتقالهم منها إبان اندلاع الثورة.

وأوضح الناشط في تسجيل مصور من داخل الفرع أن بعض المعتقلين من كفرنبل كانوا أحياء حتى عام 2021 حسبما أظهرت الكتابات على جدران الفرع كونه لم يعثر عليهم بعد تحرير البلاد وفتح السجون.

كذلك، اكتشف عدد من الصحفيين السوريين تدوين الصحفي المعتقل محمد طه عامر اسمه واسم محافظته دير الزور داخل أحد الفروع الأمنية، وقالوا: إن سبب اعتقاله هو شتمه لحافظ الأسد عقب اندلاع الثورة.

 وقد كتب المعتقل على جدار السجن "دير الزور، محمد طه عامر 2014 بلدي وهلمَّ جرَّا".

وهذا يعني أنه كان مسجونا حتى عام 2014، بينما كتب عنوان ديوانه الشعري "بلدي وهلم جرا" للدلالة بشكل أدق على هويته لإخراجها من دائرة تشابه الأسماء.

دفاتر السجون

وأكد حقوقيون سوريون أن هذه الجدران هي بمثابة أدلة على مسرح الجريمة، محذرين من طمسها. 

واستخدام المعتقلين هذه الطرق لتوثيق وجودهم بالسجون، يعد بمثابة دليل للدولة الجديدة في سوريا من أجل المحاسبة ومعاقبة الجناة.

وعُدّت بعض الرسومات والأشعار والجمل والأهازيج التي كتبت على الجدران بمثابة "كلمات سر" تركت لذوي الضحايا لحل شيفرتها.

فقد أقدم بعض المعتقلين في الفرع 215 (سرية المداهمة) التابع للأمن العسكري في دمشق، على ترك أثر لهم عبر رسومات للمهنة وأسماء الشركات التي عملوا بها قبل اعتقالهم.

ففي هذا الفرع الذي يشتهر بممارسة أفظع أساليب التعذيب الوحشي المنهجي على المعتقلين، رسم أحدهم شاحنة نقل بطريقة إبداعية وكتب عليها اسم الشركة “kternl travel - SWC”.

كما كتب عددا من الجمل: "مظلوم من أعز الناس - حتى على الموت حسدوني - أصاحب مين يا ناس - حرموني شوف الغوالي".

كما عمد أحد المعتقلين في الفرع ذاته إلى رسم مسجد قبة الصخرة، في دلالة واضحة على أن أقاربه يستطيعون التأكد أن رسمته هذه تدل على ابنهم المسجون.

وكان لافتا كذلك كتابة المعتقلين أسماء من يجرى إعدامهم على الجدران مع التاريخ في عملية توثيقية متبادلة.

وفي حادثة استنكرها السوريون، عمد في 13 يناير/كانون الثاني 2025 فريق تطوعي يدعى "سواعد الخير" على دخول أحد السجون في ريف اللاذقية وطلاء جدرانه برسوم وأعلام للثورة السورية.

وقد عد ناشطون أن هذه الخطوة غير بريئة وفيها محاولة لطمس الأدلة، حيث خلقت هذه الحادثة حالة غضب واستنكار وانتقادات بتقدير أن هذا العمل "يطمس الأدلة والحقيقة، ويعمق من جراج ذوي الضحايا والمفقودين والناجين".

لا سيما أن هذه السجون تعطي لمحة عن عشرات الآلاف من المعتقلين الذين اختفوا في شبكة من مراكز الاحتجاز، واجهوا فيها التعذيب والاكتظاظ والإعدام الجماعي، وتحملوا معاناة لا يمكن تصورها.

حفظ الأدلة

وأصبحت رسائل السوريين اليوم شاهدة على صمودهم وإنسانيتهم في ظل القمع المنهجي الذي مورس بحقهم من قبل عناصر مخابرات الأسد.

إذ تعد هذه الرسائل المنحوتة على جدران الزنازين جزءا من الصراع النفسي للمعتقلين في البقاء أحياء رغم التعذيب وقلة الأكل والنوم وانتشار الأمراض.

ودعت عشرات المنظمات المعنية بملف المفقودين والمعتقلين والمخفيين قسرا بسوريا، السلطات الجديدة إلى “التحرك العاجل والفوري والصارم لإيقاف استباحة السجون ومراكز الاعتقال والتعامل معها على أنها مسارح لجرائم وفظائع ضد الإنسانية".

كما دعت إلى منع الدخول إليها وطمس معالمها وتصويرها والعبث بما تحويه من وثائق وأدلة.

وأضافت أن "التعامل غير الحساس مع حرمة هذه الأماكن ومن مرّ بها كان ولا يزال مخزيا”.

وبينت أن “طلاء الزنازين وطمس معالمها يشكل بالنسبة لنا إمعانا فاضحا وتنكيلا صارخا بحق مفقودينا".

بدوره قال دياب سرية من رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا، الموقعة على البيان، لوكالة الصحافة الفرنسية إن "طلاء جدران أفرع الأمن السورية أمر مدان، خصوصا قبل بدء تحقيقات جديدة في جرائم الحرب التي شهدتها البلاد على مدار سنوات الثورة".

ونبه سرية إلى أن الخطوة "تُعيق جهود التوثيق وجمع الأدلة التي قد يحتاجها المحققون”، مذكرا بأنه “في هذه الأماكن ارتكبت جرائم تشمل التعذيب والقتل خارج نطاق القانون والإخفاء القسري".

وأكد كثير من المعتقلين عقب تحرير البلاد أن السجان عندما يشعر بمرض أحدهم يزيد التعذيب عليه وأحيانا يعمد إلى قتله، وفق شهادات خرجت من معتقلي سجن صيدنايا شمال دمشق.

وهذا الأخير هو السجن الأكثر وحشية وقد صمم بطريقة مرعبة منذ عام 1987 ووصفته منظمة العفو الدولية بـ "المسلخ البشري" وقتل فيه الآلاف تحت التعذيب على خلفية الثورة. 

وبعض النقوش كانت تعكس اليأس مثل تكرار جملة "وين العدل؟" أو الشوق للأبناء والأهل والأم، حيث كتب أحد المعتقلين في العزل الانفرادي "لولا خوفي من ربي لعبدتكِ يا أمي" وآخر كتب "لا تحزني يا أمي، هذا هو مصيري".

كما كان المعتقلون يحسبون أيام اعتقالهم يوما بيوم عبر جدوال تقويم سطروها على الجدران، حيث ظهرت بعض الجمل مثل "مر عام" في إشارة إلى انقضاء العام الأول للاعتقال.

وفي منشور على فيسبوك، استعادت جومان شتيوي تجربة اعتقالها التي دخلت خلالها إلى ثلاثة فروع أمنية.

وقالت:  "على الجدران يوجد أسماء وأرقام هواتف للتواصل مع الأهالي وإبلاغهم عن مصير أبنائهم، كل مكان ندخله نكتب فيه ذكرى حتى يتذكرنا من بعدنا وكذلك نفعل مع من سبقنا".

وأمام ذلك، لا تزال آلاف العائلات تخوض رحلة بحث فردية لمعرفة مصير أبنائهم المغيبين في معتقلات نظام الأسد وعلى يد أجهزته الأمنية خلال السنوات الماضية.

وقد كانت منظمات حقوقية بينها العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش دعت الإدارة السورية الجديدة إلى "اتخاذ خطوات عاجلة لتأمين وحفظ الأدلة المتعلقة بفظائع نظام الأسد"، بما في ذلك "الوثائق الحكومية والاستخباراتية الهامة، فضلا عن مواقع الجرائم والمقابر الجماعية".

وقالت رئيسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر ميريانا سبولياريتش في منتصف يناير 2025: إن معرفة مصير المفقودين يطرح “تحديا هائلا”، مشيرة إلى أن الأمر قد يتطلب سنوات.

بدوره قال مدير العلاقات الحكومية في وزارة الإعلام بحكومة تصريف الأعمال السورية محمد عبد الرحمن، إن الوزارة عملت على تنظيم دخول الإعلاميين للمعتقلات لتوثيق جرائم نظام الأسد.

وأكد منع تصوير المستندات في المعتقلات، بعد السماح بتصويرها سابقا، مشددا على أن فرق الأرشفة ستعمل على حفظ البيانات والتواصل مع القضاء لضمان العدالة.